ليتفكروا

عوائـــق النهضـــة: عــبء التــاريـــخ

د. بدران بن الحسن */

 

«الانسان كائن تاريخي، يتشكل وعيه في الماضي، ليثمر في الحاضر». هذه مقولة يكاد يتفق عليها كل المهتمين بالإنسان والحضارة الإنسانية، وبالتاريخ وأثره في صناعة الحاضر والمستقبل. ولهذا تولي الأمم والشعوب عناية كبيرة بدرس التاريخ والاهتمام به وتبليغه إلى الأجيال المتعاقبة، للشعور بالانتماء والمركزية، ووعي الذات، والبناء على ما حققه التاريخ، لتحقيق منجزات في الحاضر والمستقبل.
ولقد ذكر القرآن الكريم قصص أمم وشعوب كثيرة، وفصّل لنا في تاريخ الأنبياء مع أقوامهم، بما يمثل حضورا مكثفا للتاريخ في النص القرآني الكريم، بل إن في نصوص السنة النبوية الشريفة أحاديث كثيرة عن الأمم والأيام السابقة. وهذا يدل على خطورة التاريخ بالنسبة للحاضر، وأهميته في صناعته، والصلة الوثيقة بين التاريخ الماضي وبين صناعة الواقع، والتوجه نحو المستقبل.
غير أن الناس أفرادا وجماعات وأمما لهم مواقف متعددة من التاريخ؛ فبعضهم يقبل على التاريخ لمجرد الحنين والاستئناس به وربما العيش فيه بطريقة توقع في «الاغتراب»، بينما البعض الآخر يهمل التاريخ تماما ولا يكاد يعطيه أهمية، حتى أنه يصاب متلازمة إنكار للماضي، مما يجعل موقفه لحظيا منبت الصلة بالماضي، مقطوع العلاقة به، في حين ان البعض يتوجه إلى التاريخ بالنظر والاعتبار وأخذ الدرس منه وربط الماضي في كلياته بالحاضر في كثافته والمستقبل في استشرافه، فيكون مرتبط الصلة بالماضي ربطا عقلانيا اعتباريا، يستخرجه منه سنن التبدل والتداول، بانيا على منجزاته، متحررا من إخفاقاته.
وفي الحالة الأولى (الاستغراق) والثانية (الإنكار) يكون التاريخ عبئا؛ إما بسبب الهجرة إليه والمكوث فيه، فيبتلعه التاريخ ولا يكاد يخرج منه مما يؤدي به إلى إنكار حاضره، وإما بسبب إنكار التاريخ فيصير عبئا يريد التخلص منه، جهلا به أو ضعفا أمام منجزه، فيحاول التخلص منه باللجوء الى اختراع تواريخ اسطورية أو وهمية، يعيش بها حاضره، أو يتقمص حاضر غيره ممن كانت لهم الغلبة على الواقع اليوم. أما في الحالة الثالثة فهو التاريخ الذي يقاربه الانسان بوعي بصير، ينتج العبرة كما يعلمنا القرآن الكريم، بان قصص الأمم السابقة فيها عبرة لنا؛ نعبر من الحوادث الماضي إلى الحكمة فيها لنطبقها اليوم في حياتنا.
والمتأمل في واقع أمتنا اليوم، في الغالب الأعم، يجد أن التاريخ تحول إلى عبء على أمتنا أكثر مما هو رصيد قوي وثري تعتبر منه وتعبر من خلاله إلى حاضرها. وصار التاريخ عائقا من عوائق نهضتها. بينما نرى شعوبا أخرى وأمما أقل تاريخا منا، أو لا تكاد تملك تاريخا، تنطلق في دروب النهضة، وتحقق ما لم تحققه امتنا ذات التاريخ المجيد والحافل بالمنجزات.
ولعل هنا يقف المرء أمام تساؤلات تخطر على باله وهو يقرأ الفقرات السابقة. ذلك أن القول بأن التاريخ يشكل عبئا، قد يقود البعض إلى القول هل تريدنا أن ننكر تاريخنا، ونبقى بلا ذاكرة، ولا منجزات ناصعة أنجزتها أمتنا عبر قرون متطاولة، كانت أمتنا فيها تقود الإنسانية أزمنة طويلة؟ وكيف يكون عبئا وهو عزّ مدّخر وتراث مجيد، ونسب عريق حيث يتفاخر الناس بأنسابهم أفرادا وشعوبا وأمما؟
ومن جهة أخرى قد يطرأ تساؤل عما يمثله التاريخ في جهودنا نحو تحقيق نهضة حضارية اليوم؛ هل يمثل التاريخ فعلا عبئا ينبغي التخلص منه لتخفيف الحمل علينا والانطلاق نحو المستقبل منبتين عن الماضي ومنجزاته تجاربه، أم أن المشكلة في طريقة تشبثنا بالتاريخ وتعاملنا معه واستحضارنا لحوادثه وجزئياته ومعاركه بدل استحضار عبره وسننه؟
لا شك ان التاريخ يصير عبئا كما ذكرنا سابقا في الحالة الأولى عندما نهاجر إليه ونستقر فيهن وفي الحالة الثانية حينما نحاول التخلص منه وننكره. وإن المتأمل في أمتنا اليوم يجد كثيرا من أبنائها يعيش في التاريخ فعلا، ولا يدرك متغيرات الزمان، وأن ما مضى لا يعود، بل ما ينبغي فعله هو أخذ القيم التي أنتجت ذلك التاريخ الناصع، بطريقة عقلانية تنظر في سننه وقوانينه التي تحكم تبدل الأيام وتداولها بين الناس. بحيث نتوقف عن العيش بعواطفنا في الماضي بينما واقعنا تحكمه متغيرات أخرى، وقوى أخرى.
والأمر نفسه يقال في طائفة كبيرة من الأمة، ولجهلها بصفحاته الناصحة، فإنها تحاول التخلص منه بدل العيش فيه، ظنا منها أن التاريخ هو سبب إخفاقنا، وأنه لا مناص للخروج من تخلفنا إلا بتقمص واقع غيرنا، ونكران ماضينا وقطع الصلة به. وهذا لن يتحقق أبدا، ولن يحرر صاحبه، بل يوقعه في نكران للذات وجلد لها، لا يفيده في بناء واقعه، بقدر ما يرديه صريعا في واقع غيره من الأمم الكبرى في العالم اليوم.
ولا بديل لنا إلا أن تقوم نخبة أمتنا بالعمل على تغيير وعينا بالتاريخ، بحيث تبني مناهج تعليمية وفكرية تجعل من التاريخ حقلا من حقول المعرفة التي ندرسها ونستخرج منها سنن بناء الحاضر والمستقبل، ونعزز بها إثبات ذاتنا، لا جلدها، وتأكيد وجودنا ومركزيتنا لا هامشيتنا. فلا نعيش الماضي ونستغرق فيه، ولا نقوم بإنكاره ومحاولة التخلص منه، فإن في كلا الموقفين عبئا نفسيا يعيقنا عن الانطلاق. بل نعيش واقعنا، في ضوء دروس الماضي، وحقيقة الواقع وكثافته، وتطلعات المستقبل ومتطلباته.
* مركز ابن خلدون للعلوم الإنسانية والاجتماعية/ جامعة قطر

اظهر المزيد
زر الذهاب إلى الأعلى

مرحبا بكم في الموقع الرسمي لجريدة البصائر

 

تفتح جريدة “البصائر” صفحاتها للأساتذة الجامعيين والمؤرخين والمثقفين، لنشر إسهاماتهم في شتى روافد الثقافة والفكر والتاريخ والعلوم والأبحاث، للمساهمة في نشر الوعي والمبادرات القيّمة وسط القراء ومن خلالهم النخبة وروافد المجتمع الجزائري.

على الراغبين والمهتمين إرسال مساهماتهم، وصورة شخصية، وبطاقة فنية عن سيرهم الذاتية، وذلك على البريد الالكتروني التالي:

info.bassair@gmail.com