مذمّة الناقصين!/ نجيب قويزي
قال المتنبّي يومًا:
وإذا أتتك مذمّتي من ناقص فهي الشهادة لي أني كامل
لقد خلّد هذا الشاعر العظيم ذكراه في الأنام بهذا البيت الذي بقي عزاءً لكل من أصابته سهام الفاشلين ورماح الحاقدين، أولئك الذين لا يرومون المعالي ولا أهلها، ويودّون أن لو كانت الجبال العظيمة كلها حصيات حقيرة مثلهم في فلاة، تذروها رياح الجهل والهوى.
إنّ هذه المذمّة التي حدّثنا عنها المتنبي ليست إلا صورة من صور الحسد القبيح الذي يتخلل جذور القلب فيورثه العطب، ذلك القلب الخاوي من فهم حقيقة الإيمان، والفارغ من أسباب التميّز، والغارق في مستنقعات النّقص، فلا يصحّ أن يوصف صاحبه إلا بالمريض، مريض قد أكل حبّ إسقاط الآخرين كل شيء جميل في عينيه، فصار كالذبابة لا تقع إلا على الجراح.
لقد فرّط الحاسد في شيء عظيم وثمين، هو مسؤول عنه قبل أن تزول قدماه، إنّه “الوقت”! … شكوت إلى أمي ذات يوم تهكم صبيّ كان يدرس معي، فقالت لي: يا بنيّ، حسبك أنه فرّط في أثمن ما يملك لأجلك “وقته”.
إنّ هذا الصبيّ سيرافقنا جميعا في مختلف مراحل حياتنا، غير أنّ صوتَه سيخفت شيئا فشيئًا، ونحن نعتلي درجات النجاح، وهو لابث في القاع يصرخ، وإنّه لمن المشين لنا وبنا أن نتحسر مستعجلين إجابةَ اللغط، والخوضَ في النّصب بعد أن منّ الله علينا بارتقاء الدّرج.
نعم أخي (الناجح)؛ إنّك لن تعدم في حياتك (مريضا ناقصا) يريد أن ينغّص عليك فرحك، ويذهب عنك نشوة نجاحك، ويرجف عليكَ بأباطيله، لكنّك وأنت في هذه المرحلة من التميّز يكون قد ترسّخ لديك من العلم والفهم والخبرة ما يؤهّلك لأن تدرك بأن الأطفال الصغار والصبيان لا يرمون إلا على الشّجرة المثمرة اليانعة الشامخة، رجاءَ أن تجود عليهم.
أخي الناجح، إنك قد بلغت من الصفاء مبلغا تعاف معه نفسك الطيبة الزكيّة الولوغ من المستنقعات، وقد علمت أنّك لا تأمن على نفسك مع ذلك الانزلاق فيها، ومجاراة الحسّاد مرض لا يقلّ خطورة عن الحسد نفسه!
إنّنا إذ نرى طباع بعض الخلق لنعجب كيف يضيّع مخلوق عمره في تتبّع مخلوق آخر مثله، وكلاهما مقبل على الله بصحيفة قد ملأها بما شاء، فإمّا إلى جنّة وإما إلى نار، لكن هذا العجب سرعان ما يزول حين تدرك أنّ الله عز وجلّ – ولأنه لم يخلق شيئا عبثا- قد خلق هؤلاء من أجل هؤلاء، خلق الفاشلين ليمتحن بهم الناجحين، وليس للناقص الفاشل دور في هذه الحياة إلا محاربة الناجح المتميّز.
وكفى بالحاسد خيبةً وخسرانا أن يزيّن له الشيطان سوء عمله من الحسد فيراه حسنا، وهو يقرّبه إلى الشيطان زلفى!
أخيرًا لا آخرا: إلى كل الناجحين الذي سموا في العليا وناطحوا السحاب وتميّزوا بين الأنام، إذ سمعتم يومًا – ولا شكّ أنكم ستسمعون – صوتا خافتا جبانا هو بين نبح الكلاب، وطنين الذباب، وهي أصوات الحساد من العباد، فامضوا ولا تلتفتوا، ولتمتثلوا قول سيّدنا الإمام الشافعي رضي الله عنه:
إذا وقع الذباب على طعام رفعت يدي ونفسي تشتهيه
وتجتنب الأسود ورود ماء إذا رأت الكلاب ولغن فيه
وكما بدأت المقال بما سطر المتنبّي من أبيات بخنجر النجاح على قلوب الحاسدين، فإن له حقّا أن أختم بمثل ذلك:
وللحساد عذر أن يشحوا على نظري إليه وأن يذوبوا
فإني قد وصلت إلى مكان عليه تحسد الحدق القلوبُ