“الأدب” من صانعٍ للحياة إلى عابثٍ بالكلمات…!/ أد.عبد الملك بومنجل
كثيرٌ من الأشياء الجميلة التي كانت تملأ حياة الناس بهجةً، وتُضفي عليها سموا، وتمنحها معنى ونبلا، جنت عليه مادية هذا العصر وعبثيته، وعصفت بجماله ونبله حداثةٌ تعلقت من الحياة بأعراضها، وعزفت عن الجوهر، وقد ساير العرب هذه الفلسفة المادية العبثية، فصنعوا بكثير من قيمهم الجميلة ما صنع الغرب وأشنع. والأدب في طليعة هذه القيم النفيسة، فانظر هل تجد الآن لهذه الكلمة رنينا في القلوب، وتقديرا في الأذهان، كما كان الأمر قبل تسرب الفكر الحداثي إلى الثقافة العربية، وتشرّب العرب كثيرا من الأفكار السقيمة والقيم الدخيلة.
لستُ أبالغ حين أزعم أن العامة من العرب في الزمن المعاصر لا يكادون يدركون شيئا عن هذا “الأدب” الذي يحدّثهم بعض أبنائهم أنهم يدرسونه، وأن بعض الذين يدركون شيئا إنما يدركون أن “الأدب” هو الانشغال بالشعر والقصة والعواطف دونما حاصل يعود على المجتمع بالغَناء؛ وليس يضر مصطلح “الأدب” أن يحول التخلف الثقافي دون إدراك حقيقته ودوره في الحياة، ولكن يضره أيما إضرار أن يكون إدراك أهله المتخصصين فيه المحترفين له أنفسهم إدراكا يغض من شأنه ويقذف به إلى معتمات الضياع.
كان الأدب في بداية العصر الحديث هو جملة الكلام الذي أجاد أصحابه تأليفه في شتى موضوعات الحياة وأغراض النفس والاجتماع، وكان الأديب هو المتميز بقدرته على التفكير والتعبير، والتخيل والابتكار، وغالبا ما يكون له شأن في مجتمعه، ودور في ترقية الأذواق وتغيير الأوضاع، وتحريك الهمم إلى ما هو أعلى وأكرم، ثم انطوى ذلك الزمن؛ زمن العقاد والرافعي والزيات وشوقي وحافظ وطه حسين وأحمد أمين وسيد قطب..! وجاء زمن آخر الأدباء فيه هم الشعراء والقصاصون والدارسون لآدابهم لا غير، حيث الشعر رومنسية ورمزية وسريالية وبعض من القومية والواقعية، وحيث القصة والعواطف ونزوات التحرر وأهواء النفوس وصراع الطبقات، وقليل من الهموم الفكرية والحضارية، وحيث الدراسة تفسير للمضمون وتحليل للبنية وتحصيل لحاصل وفق مناهج أخذ العربي يتعلمها عن الحداثة الغربية، ثم جاء زمن آخر فإذا الفكر الحداثي يبسط سلطانه، والمناهج الحداثية تفرض هيمنتها، فإذا الأدب هو اللغة لذاتها لا لما تحمله من دلالة وتضطلع به من رسالة، وإذا الأدباء هم الذين ينشغلون بلعبة الكلمات وتأليف الخيالات المثيرة وابتكار الألعاب اللفظية البهلوانية السخيفة، وإذا الدراسات الأدبية هي التحليلات البنيوية أو السيميائية أو التفكيكية أو التأويلية لخطاب شعري أو سردي غير مفهوم، أو غير ذي عمق، أو غير ذي صلة بالحياة، تتكرر وتتكرر، وتعقد لها الندوات والمؤتمرات، والأدباء والدارسون لا تكاد تستقيم لكثير منهم جملة فصيحة على الأسلوب العربي الأصيل. فما الذي سينتج عن ذلك سوى أن يعتقد العامة أن “الأدب” هو ذلك النوع من الكلام الذي يشبه الفراغ، وأن الأدباء هم ذلك النوع من البشر الذين لا ينتجون ولا يفيدون المجتمع إلا ببعض ما يُحتمل أن يُعينه على قتل الوقت وتزجية الفراغ.
ليس من شك في أن “الأدبية” في “الأدب” إنما هي شأن شكلي يتعلق بطريقة استعمال اللغة وأسلوب التعبير، ذلك ما ظل النقد العربي القديم يردده، ويجادل عنه منذ الجاحظ وصولا إلى عبد القاهر والقرطاجني مرورا بجمهرة من النقاد وعلماء البلاغة؛ ولكن الفرق واسع بين الاعتقاد بأن أدبية الأدب التي تميزه عن غيره من الكلام هي في لغته المتصفة بالبلاغة أو الإثارة أو الجمال أو القدرة على الإمتاع أو غير ذلك من الصفات المعبرة عن قوة التأثير، والاعتقاد بأن الأدب لغةٌ وليس تواصلا، وأن العمل الأدبي ليس حمّالة أفكار وموضوعات ومشاعر، ومن الخطأ رؤيته كتَعْبِير عن رأي المؤلّف.
إن العربي لم يتصور اللغة إلا أداة للتواصل، ولم يتصور الأدب إلا ذلك اللون من الكلام الذي يشحن اللغة بمزايا أسلوبية تزيدها قدرة على التواصل، فمعلوم أن الكلام بمختلف أنواعه ومستوياته يستهدف التواصل الإنساني؛ وعندما يتميز الكلام الأدبي بلغته المجازية ومنحاها الجمالي فلكي يعمّق هذا التواصل ويضفي عليه أبعادا أوسع وسحرا أبلغ وأثرا من نوع خاص، وليس ليقطع هذا التواصل. وفي أشد حالات الأديب انعزالا وفردية وصدورا عن الحس الباطن والانفعال الطارئ أو الغامض فإنه لا يكاد يباشر الإبداع حتى يتبدى أمامه قارئ ما، فيراعي في صياغة أدبه الوصول إلى هذا القارئ، وتلك هي طبيعة الأشياء وفطرة الإنسان ووظيفة الكلمات، ولا يحتاج الأمر إلى فلسفة كبيرة.
نعم؛ إن المعنى الاصطلاحي للأدب عند العرب قد استقل عن معناه اللغوي، إذ ليس يُشترط في الأدب أن يكون حاملا أدبا، ومتصفا بحسن الخلق، وداعيا إلى المكارم، وملتزما بمضمون معيّن. ولكن واقع الأدب والأدباء إلى أواسط هذا العصر الحديث ظل يؤكد أن الأدب هو التميز بإجادة التفكير والتعبير، والاضطلاع بمهمة التهذيب والتغيير، علاوة على مهمتي الإمتاع والتأثير. وأن الأديب ليس صانع أشكال ولاعب مهارات لفظية وصاحب شطحات خيالية، بل صانع أفكار أيضا، وحامل قيم، وصاحب تجربة في المجتمع وفلسفة في الحياة، وهو ما يعني أن “الأدب” ظل وفيا لمعناه اللغوي رغم استقلاله عنه، لذلك ظل لكلمة “أديب” رنين في النفوس عجيب. أما الآن فقد وقع مصطلح “الأدب” تحت إغراء الحداثة التي حاولت أن تجره إلى لعبة الشكل، وتجرده من صلته بالمجتمع ودوره في الحياة، فصار طبيعيا أن يُنظر إلى الأدب والمنشغلين به كما يُنظر إلى لعبة للتسلية وتزجية الفراغ.