العلم والعلماء في شعر الإمام الشافعي /الشيخ ثامر لطرش بن الساسي
هو الإمام الفقيه والعالم الحجة محمد بن إدريس الشافعي ولد في غزة بالشام سنة 150هـ، وهي السنة التي توفي فيها أبو حنيفة (80 – 150) هــ ثم حمل إلى مكة بعد سنتين من مولده، نشأ الشافعي وترعرع في الحجاز في عصر ازدهر فيه العلم والأدب وهو العصر العباسي الأول (132-230) هــ ثم اتجه إلى حفظ أحاديث رسول الله – صلى الله عليه وسلم – فوعى منها الكثير في مكة على فقهائها ومحدثيها فبلغ شأنا عظيما، وقد أذن له بالفتوى مسلم بن خالد الزنجي وقال له: “أفت يا أبا عبد الله فقد آن لك أن تفتي، وكانت سنه إذاك خمسة عشرة سنة “15”.
لكن شغفه بالعلم حمله إلى الهجرة إلى المدينة المنورة ليتصل بعالمها الأوحد الإمام مالك بن أنس رحمه الله (93 – 179) هــ وينهل من علمه فتم له ما أراد وظل يتفقه على يديه إلى أن مات سنة 179 هــ .
ثم رجع الشافعي بعد ذلك إلى مكة كما ترجع النحلة إلى خليتها وقد امتصت من يانع الزهر وشهي الثمار لتخرجه للناس عسلا مصفى، وشرابا سائغا، وظهر بفقه جديد هو مزيج من فقه الحجاز والعراق، وجلس يلقي دروسه في الحرم المكي، وقد التقى إذاك بالإمام أحمد بن حنبل (164 – 241) هــ .
ظل الشافعي في مكة تسع سنوات “9” يؤدي رسالته كاملة في خدمة العلم والدين.
ثم انتقل إلى بغداد وكانت عشا للعلماء والأدباء سنة 195 هـ، ونزل عليها كالغيث الهتون – المطل الهادئ والمتتابع – على الأرض الطيبة، فأقبل عليها العلماء والمحدثون ينهلون من علمه، وقد ألف حين ذاك كتاب – الرسالة -، وهو الكتاب الذي وضع به الأساس لعلم أصول الفقه.
ثم رحل إلى مصر وحببه الله إليها وبقي فيها مدة أربع سنوات “4” ألف فيها الكثير من الكتب منها كتاب الأم وكتاب الرسالة، وهو أول من ألف من أحكام القرآن الكريم، وكان يقول وهو في طريقه إلى مصر:
أصبحت نفسي تتوق إلى مصر… ومن دونها قطع إلهامي والقفر
فو الله ما أدري أللفوز والغنى… أساق إليها أم الساق إلى القبر
فأراد الله الناحيتين فساقه إلى الفوز والغنى في مصر ثم كانت فيها نهايته وقبره بها فلقي ربه في آخر ليلة من رجب سنة 204 هــ.
كان الشافعي علما من العلماء لا يكاد يصل إلى مكانته منافس، وقد جمع إلى دقة الفهم ذوقا سليما وفصاحة نادرة، فكان إماما في الأدب وفي البيان، وكان شاعرا وقد قال فيه داود الظاهري: ” اجتمع للشافعي من الفضائل ما لم يجتمع لغيره، من شرف النسب، وصحة الدين، ومعرفة الناسخ والمنسوخ وحفظ الكتاب والسنة، وسيرة الخلفاء وحسن التصنيف”.
وقد انتشر مذهبه في أرجاء العالم الإسلامي وعلى الأخص في مصر والعراق – رضي الله عنه – وكتب له أجر المجاهدين وثواب العلماء العاملين – آمين-.
إن قوله في الشعر عن العلم والعلماء في هذه المقطوعات لم يكتب ليكون قاصرا على طلب العلم وإتيان فضله في هذه الحقبة الإسلامية التي عاش فيها الإمام الشافعي ولا يكون قاصرا على علماء بعينهم، ولكن كتب الشعر في العلم والعلماء ليكون خالدا على مر الزمان حيث يقول:
علمي معي حيثما يممت ينفعني… قلبي وعاء له لا بطن صندوق
إن كنت في البيت كان العلم فيه معي… أو كنت في السوق كان العلم في السوق
غير أن الإمام الشافعي حينما يحدثنا عن العلم في شعره، فإنه لا يصوغ لنا معادلات رياضية ولا يضع لنا قوانين حتمية، ولكن يحدثنا عن العلم والعلماء والتعلم من وجهة نظره كشاعر..
فماذا قال؟ قال:
تعلم، فليس المرء يولد عالما … وليس أخو علم كمن هو جاهل
وإن كبير القوم لا علم عنده… صغير إذا التفت عليه الجحافل
وإن صغير القوم إذا كان عالما … كبير إذا ردت إليه المحافل
ويشير في مقطوعة أخرى إلى أن العلم لا يأتي إلا بالإخلاص والتفرغ له والكدح من أجل الحصول عليه وخلو البال إلا منه:
لا يدرك الحكمة من عمره… يكدح في مصلحة الأهل
ولا ينال العلم إلا فتى … خال من الأفكار والشغل
وهنا نلاحظ أن إدراك الحكمة يعادله طلب العلم عند الإمام.
وإذا كان طلب العلم يحتاج إلى الإخلاص والتفرغ والكدح فإنه يحتاج أيضا إلى نوع من الصبر على الجفا – فالعلم جاف بطبيعته – يحتاج إلى نوع من التقوى والورع حتى يتحصل الإنسان على ثمرة علمه، وإلا فمن فاته أن يتعلم في شبابه فسيدخل في عداد الأموات.
اصبر على مر الجفا من معلم … فإن رسوب العلم في نفراته
ومن لم يذق مر التعلم ساعة … تجرع ذل الجهل طول حياته
ومن فاته التعليم وقت شبابه … فكبر عليه أربعا لوفاته
وذات الفتى والله بالعلم والتقى… إذا لم يكونا لا اعتبار لذاته
أيضا يحتاج تحصيل العلم إلى الترحال والسفر والغربة (أطلبوا العلم ولو في الصين).
سأضرب في طول البلاد وعرضها… أنال مرادي أو أموت غريبا
فإن تلفت نفسي فلله درها … ولو سلمت كان الرجوع قريبا
بل إن في السفر وحده فوائد جمة – بالإضافة إلى طلب العلم – يذكرها الإمام في بيتيه الشهيرين:
تغرب عن الأوطان في طلب العلم … وسافر ففي الأسفار خمس فوائد
تفرج هم، واكتساب معيشة … (وعلم) وآداب، وصحبة ماجد
ويلح الإمام على موضوع السفر هذا في أكثر من بيت وفي أكثر من مقطوعة:
سافر تجد عوضا عمن تفارقه … وانصب فإن لذيذ العيش في النصب
إني رأيت وقوف الماء يفسده … إن ساح طاب، وإن لم يجر، لم يطب
والأسد لولا فراق الأرض، ما افترست… والسهم لولا فراق القوس لم يصب
والشمس لو وقفت في الفلك دائمة … لملها الناس من عجم ومن عرب
والتبر كالتراب ملقى في أماكنه … والعود في أرضه نوع من الحطب
ولعل المعنى الشائع الذي تتداوله كل الألسنة (العلم نور)، قد أخذ بالحرف الواحد من شعر الإمام الشافعي في قوله:
شكوت إلى وكيع سوء حفظي …فأرشدني إلى ترك المعاصي
وأخبرني بأن العلم نور…ونور الله لا يهدى لعاصي
المراجع:
1 – مجلة المنار.
2 – كتاب الوصول إلى علم الأصول للشيخ ثامر لطرش (تحت الطبع).