اتجاهات

الإنسانيــة في ثقافــة الـمسلم

عبد العزيز كحيل/

 

كادت الأمة تضيع بين علمانيين يضخمون عنصر الإنسانية إلى درجة طمس المقدس أو إنكاره، وبين متدينين بالغوا في الجانب الرباني إلى درجة إنكار البعد الإنساني في الإسلام، فأصبحنا بين طائفة تؤول الدين فتصنع منه شيئا بشريا بحتا، وطائفة تجعل المتدين آلة صماء، تغلب عليه قسوة القلب وتبلد الحس وخشونة الطبع وعدم الإحساس بالآخر إلى حدّ إنكار حقه في الحياة لأنه «مختلف» دينيا أو ثقافيا أو مذهبيا…متديّن نراه في حياتنا، في المسجد، في الكتب، في الجرائد، على الفضائيات… كأنه وحش ضارِ يتلذذ بدخول الناس النار لأن غياب البُعد الإنساني في تصوّره حوّل أمثاله إلى وحوش آدمية باسم الإسلام، في حين أن من درس القرآن والسنة دراسة وافية واطلع على مقاصد الشريعة وروحها أدرك أن الإسلام لا يكون إلا بتوفر العنصر الرباني والعنصر الإنساني معا، وإلا كان دينا مشوّها.

الإسلام ليس ربانية فحسب، بل هو ربانية وإنسانية، سماء وأرض، وحي وعقل، فإذا غاب الجانب الإنساني ظهرت القلوب القاسية والأذهان المتحجرة وغلبت الطقوسية والظاهرية في العبادات عند أهل الدين، تماما كما حدث لليهود بعد أن طال عليهم الأمد فحوّلوا دين موسى عليه السلام إلى أشكال وقشور وغلظة وعقوبات، فأرسل الله تعالى عيسى عليه السلام برسالة الجمال ليُحدث التوازن في حياة بني إسرائيل، فركّز الإنجيل على جوانب الموعظة والعفو والمسامحة واللين لإحياء القلوب وتزكية النفوس وإبراز إنسانية الإنسان.
إن الدين لم يأتِ لسحق الإنسان وتحويله إلى آلة صماء تنفّذ الأوامر، بل ليجعل منه كائنا مكرّما مزودا بالعقل الواعي والقلب الحي، وهذا ما يتيح له التواصل الصحي مع الناس، بالودّ والمحبة والأخوة – أخوة العقيدة أولا ولكن أخوة الإنسانية والجوار والقومية كذلك – بحيث لا مكان للعداوة والحرب إلا في حال الظلم والاعتداء على بلاد الإسلام وعقيدته وأتباعه، وهذا التصوّر يجعل المسلمين يكثّرون أصدقاءهم بدل أعدائهم، ويبنون علاقاتهم مع بعضهم على أساس الأخوة الإيمانية، ومع غيرهم على أساس جلب المصالح ودرء المفاسد، وفي كل الحالات يتحركون بالخلق الكريم والأدب الجمّ والسلوك القويم مع الجميع، لا يعادون إلا من عاداهم، ولا يسارعون إلى مفردات التكفير والتضليل والتنفير وإنما يلزمون جانب الحكمة ويدعون إلى الله ويحاولون كسب الآخرين إلى صفّ الإسلام ليس بمصحف يحملونه بأيديهم أو في جيوبهم ولكن بأخلاق رفيعة تدلّ عليهم.
لقد طرأ على المسلمين كثير من الدخَن ذهب بجمال دينهم وطمس معالم الإنسانية فيهم، فنريد أن نصفي أذهاننا من الغبش ونطارد القسوة من قلوبنا لنعلم – وفق تعاليم ديننا الأصيلة – أن لليد الممدودة قوة كبرى، ورب ابتسامة أقوى من السلاح، وأن ما يجمع البشر أكثر مما يفرقهم لأن الذي يحاسبهم على عقائدهم – صحيحة أو فاسدة – هو الله تعالى يوم القيامة، وأن الاختلاف ليس خطرا داهما إنما هو ثروة هائلة، فمهما كانت الورود أجمل الأزهار إلا أن بستانا من أزهار مختلفة أفضل بلا ريب من بستان من الورد وحده.
ماذا يحدث لو غيّرنا عاداتنا الفجة التي حوّلناها إلى دين، وأصبحنا ننظر إلى الآخر نظرة محبة، لا نتوجس منه بل نريد له الخير ونتمنى له الهداية، نستمع إليه ونقدّر ما يقول وندخل النسبية في أحكامنا كبشر(لأن العصمة والإطلاق للوحي لا لفهومنا)؟ فلعلّ فهمنا خطأ، ولعل أسلوبنا غلط.
كل ما تعلمناه من ديننا من أنواع البرّ والإحسان جميل، ونرفعه إلى مستوى أجمل وأرقى إذا أضفنا إلى كل أفعالنا مسحة إنسانية كلمسة حانية وابتسامة عريضة وكلمة طيبة، أي أننا إذا أعطينا قطعة من خبزنا نعطي معها قطعة من قلوبنا، نُشعر الآخر أننا نحسّ بفرحه وحزنه، نحبّ له ما نحب لأنفسنا، نحن وإياه في مركب واحد هو مركب الحياة الدنيا، يمكن أن نقطع الرحلة معا، و «لكل وجهة هو موليها»، أليس الرجاء خيرا من التشكيك؟ أليس صاحب الخطوة الأولى هو الأفضل ؟
مرّت علينا دهور مِلؤها المحن والعداوات والمؤامرات فاصطبغنا بصبغة الحقد وعمّمنا الحكم على الآخرين جميعا، وهذا تجاوز لحدّ العدل، فيما بيننا نحن المؤمنين أليس العفو مقدَّما على الثأر؟ وحتى مع غيرنا لا يجوز شرعا ولا عقلا أن يكون العداء هو الأصل، فكم في الآخرين من طيبين ومنصفين وأصحاب قلوب رحيمة وعطاء من أجل الإنسانية، يبحثون ويخترعون ويصنعون وينشدون العدل والسلم ويدافعون عن المظلومين ويمدّون أيديهم لكلّ مهموم، وسعت قلوبهم الناس كلهم، من أصحاب الديانات المختلفة والثقافات المتنوعة والأجناس المتفرقة، وكان ينبغي أن نكون نحن المسلمين السباقين إلى هذه المكارم لأن التديّن الأصيل الصحيح لا يكتمل إلا باندماج الربانية في الإنسانية والعكس، فنطرب لسعادة الآخرين ونتقاسم فرحتهم، لأن آصرة الإنسانية معتبرة كآصرة العقيدة، ننقد ونقبل النقد ولا نتحصن في بروجنا ولا نتقوقع في حصوننا الفكرية والشعورية لأن الدنيا لا تبالي بالمنعزلين والمنسحبين، والأوْلى من كل هذا أن نعُدّ الآخر أخا قبل كل شيء – ما عدا الظالم المعتدي والمستبدّ المتجبّر – يمكن التعايش معه رغم أشكال الاختلاف وصوره، فقبوله بيننا علامة القوة والثقة بالنفس وليس الرفض والإبعاد والغضب.
من اعتنق هذه الحقائق وتشبّع معناها خلص إلى أنه يمكن صناعة السلم، الذي ليس حكرا على السياسيين أو العسكريين بل مهمة كلّ واحد منا، يجب أن نضع لبناته ونتفانى في لمساته في كل يوم نستقبله وفي كل حركة نقوم بها، أما الذين يؤمنون بالحرب فقط ويقدّسون العداوة ويطوفون حول أنفسهم فلن يصنعوا لنا سوى مزيد من المآسي والشقاء، هذا ما تعلمتُه من القراءة المتأنية لكتاب الله تعالى وسنة رسوله عليه الصلاة والسلام ومن تجارب المفكرين والمربّين الذين خلصوا إلى أن الحياة السعيدة هي التي تحتضن الاختلاف لتحوّله إلى لوحة رائعة تتآلف ألوانها، تجمع أكثر مما تفرق.
وبديهي ألاّ علاقة لكلامنا بالتمييع الذي يمارسه العرب و «التنويريون» باسم الإنسانية.

اظهر المزيد
زر الذهاب إلى الأعلى

مرحبا بكم في الموقع الرسمي لجريدة البصائر

 

تفتح جريدة “البصائر” صفحاتها للأساتذة الجامعيين والمؤرخين والمثقفين، لنشر إسهاماتهم في شتى روافد الثقافة والفكر والتاريخ والعلوم والأبحاث، للمساهمة في نشر الوعي والمبادرات القيّمة وسط القراء ومن خلالهم النخبة وروافد المجتمع الجزائري.

على الراغبين والمهتمين إرسال مساهماتهم، وصورة شخصية، وبطاقة فنية عن سيرهم الذاتية، وذلك على البريد الالكتروني التالي:

info.bassair@gmail.com