حديث والد النبي.. في الصناعة الحديثية 4/محمد عبد النبي
أخرج الإمام مسلم (2/671) عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «استأذنت ربي أن أستغفر لأمي فلم يأذن لي، واستأذنته أن أزور قبرها فأذن لي».
وفي متابعة أخرى لحديث أبي هريرة قال: «زار النبي صلى الله عليه وسلم قبر أمه، فبكى وأبكى من حوله، فقال: استأذنت ربي في أن أستغفر لها فلم يؤذن لي، واستأذنته في أن أزور قبرها فأذن لي، فزوروا القبور، فإنها تذكر الموت».
القرينة الرابعة تتعلق بهذا الحديث الذي أخرجه جمع من الأئمة، ولم يخرجه البخاري ولا الترمذي ! قال الإمام النووي في شرحه (7/46):»… هذا الحديث وُجد في رواية أبي العلاء بن ماهان لأهل المغرب، ولم يوجد في روايات بلادنا من جهة عبد الغافر الفارسي، ولكنه يوجد في كثير من الأصول في آخر كتاب الجنائز، ويصيب عليه (كذا في الصحيح المطبوع، والصحيح: ويُضبّبُ عليه، كما ورد عند السيوطي) وربما كُتب في الحاشية، رواه أبو داود في سننه عن محمد بن سليمان الأنباري عن محمد بن عبيد بهذا الإسناد، ورواه النسائي عن قتيبة عن محمد بن عبيد، ورواه ابن ماجه عن أبي بكر بن أبي شيبة عن محمد بن عبيد، وهؤلاء كلهم ثقات، فهو حديث صحيح بلا شك».
والتصحيح والتضبيب من الكلمات الإرشادية التي تُستعمل في كتابة المخطوط، تصحيحا أو تشكيكا في كلمة أو معنى، وما شابه ذلك، قال ابن الصلاح في المقدمة (213-214): « أما التصحيح: فهو كتابة صح على الكلام أو عنده، ولا يُفعل ذلك إلا فيما صح رواية ومعنى، غير أنه عرضة للشك أو الخلاف، فيُكتب عليه صح، ليُعرف أنه لم يُغفل عنه وأنه قد ضُبط، وصح على ذلك الوجه، وأما التضبيب – ويسمى أيضا التمريض- فيُجعل على ما صح وروده كذلك من جهة النقل، غير أنه فاسد لفظا أو معنى ! أو ضعيف أو ناقص مثل: أن يكون غير جائز من حيث العربية، أو يكون شاذا عند أهلها يأباه أكثرهم، أو مُصحَّفا، أو ينقص من جملة الكلام كلمة أو أكثر، وما أشبه ذلك: فيُمدُّ على ما هذا سبيله خطٌّ أوّلُه مثل الصاد، ولا يُلزق بالكلمة المعلّم عليها، كي لا يُظن ضربا، وكأنه صاد التصحيح بمَدّتها دون حائها، كُتبت كذلك ليُفرَّق بين ما صح مطلقا من جهة الرواية وغيرها، وبين ما صحّ من جهة الرواية دون غيرها، فلم يُكمل عليه التصحيح، وكُتب حرف ناقص على حرف ناقص، إشعارا بنقصه ومرضه مع صحة نقله وروايته، وتنبيها بذلك لمن ينظر في كتابه على أنه قد وقف عليه ونقله على ما هو عليه، ولعل غيره قد يُخرِج له وجها صحيحا، أو يَظهر له بعد ذلك في صحته ما لم يظهر له الآن…»
وقد أخرج هذا الحديث الحاكم في المستدرك (1/531) وقال: « وهذا الحديث صحيح على شرط مسلم، ولم يخرجاه « ! وقد نسبه إلى الوهم غير واحد، وقد لا يكون كذلك، وإنما للسبب الذي ذكره النووي رحمهما الله، من سقوط الحديث من نسخ المشارقة.
وقال المناوي المصري (المتوفى سنة 803) في كتاب:كشف المناهج والتناقيح في تخريج أحاديث المصابيح (2/72)- بعد إيراده لحديث مسلم-:» قلت: رواه مسلم وأبو داود والنسائي وابن ماجه: كلهم في الجنائز من حديث أبي حازم عن أبي هريرة، ولم يخرجه البخاري». وأضاف مستدركا:» قولي إن هذا الحديث رواه مسلم، تبعتُ فيه عبد الحق في الجمع بين الصحيحين، والمزي في الأطراف، ولم أره في نسخة سماعنا، وما كنت أعلم كيف سقط من نسخة السماع، إلى أن وقفت على قول النووي: هذا الحديث وجد في رواية أبي العلاء بن ماهان لأهل المغرب، ولم يوجد في نسخة بلادنا من رواية عبد الغافر ابن محمد الفارسي، فعلمت أنه إنما سقط في نسخة السماع، لأنني أروي مسلمًا من طريق عبد الغافر ابن محمد الفارسي..»
والمعنى أن هذا الحديث غير مجمع على إثباته بين رواة الصحيح، في ذلك الوقت على الأقل، وما وُجد في الأصول الأخرى ضُبِّب عليه، إشارة إلى وجود خلل ما في لفظه أو في معناه ! وربما أُزيح إلى الحاشية، تأكيدا على وجود نقص لم يتمّ بعد، وتأكيد النووي على ورود الحديث عند بعض الأئمة الآخرين دليل على خشيته من اعتقاد الضعف فيه، نتيجة للتضبيب والإلحاق.
وفي بحث في مجلة الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة (42/316) قال صاحبه:»..وهناك أمرٌ آخر يُفهم من كلامي ابن الصلاح والنووي المتقدِّمين، وهو أنَّ الرواية المعتمدة لصحيح مسلم هي رواية المشارقة، ولذلك شاعت وانتشرت بين أهل العلم، وغالب من يروي حديثاً لمسلم في صحيحه، إنَّما يدخل من طريق الجُلودي، عن ابن سفيان راوي هذه الرواية، حتى علماء المغرب أنفسهم، كالقاضي عياض، وابن بشكوال، وابنُ رُشيد، وغيرهم..» !
ومرة أخرى، لا أشكِّك في صحة هذين الحديثين، وإنما غرضي من سوق هذه القرائن التخفيف من حِدّة القطع ببعض الأحاديث، بالرغم مما يُثار حولها من خلاف، وبخاصة في هذين الحديثين، اللذين يجد بعض الأغرار فينا متعة وحماسة في تأكيد مضمونهما، وكأنهم يرون والدي النبي صلى الله عليه وسلم يتقلّبان في النار على شاشة ضخمة بأحدث التقنيات وأعلاها !