حوار

المؤرخ والباحث الأكاديمي، البروفيسور ودان بوغفالة للبصائر: (الجزء الثاني)

مسألة الهُوية في الجزائر قضية مفتعلة، غريبة عن المجتمع، و«نخبوية» بامتياز

حاورته: فاطمة طاهي/

 

كما أشرتم في هذا الملتقى إلى ضرورة إقرار مشروع رقمي للتعريف بهذا التراث وتثمينه والحفاظ عليه في إطار عمل عربي مشترك، حدثنا عنه؟
– إن اتفاقية اليونسكو لعام 1972م هي اتفاقية لحماية التراث العالمي الثقافي والطبيعي أقرها المؤتمر العام لمنظمة الأمم المتحدة للتربية والعلم والثقافة في دورته السابعة عشرة بباريس بتاريخ 16/11/1972م. وقد لاحظ المتتبعون أن التراث يتعرض للتدمير بمختلف الطرق والوسائل، وتقف بعض الدول والجهات عاجزة عن حمايته دون تقديم يد المساعدة من المجتمع الدولي، لذلك جاءت هذه الاتفاقية لتنظيم المسألة بموجب اتفاقية دولية.
ويعتبر التراث الثقافي والعمراني بفلسطين تراثا مميزا بقيمة عالمية استثنائية، وذلك بالنظر إلى تاريخه، وقيمته الحضارية. لذا، وجب تدخل الجميع لحماية هذه المعالم التاريخية التي تلعب دور الوسيط بين الأجيال المتعاقبة كما هو الحال في مثال القدس الشريف، وواجب الدول العربية والإسلامية على وجه الخصوص في ذلك. فما هو واجب العرب والمسلمين تجاه القدس، وما هي مشاريعهم؟، فلا الحدود الجغرافية، ولا الشروط السياسية تسمح لهم بمعاينة هذا التراث والمساهمة المباشرة في صيانته!
ينبغي علينا في المقام الأول أن نتعرف على هذا التراث، وأن نُثمِنه، ثم ندعو إلى صيانته وحمايته من كل الأخطار التي تُهدده. كيف نقوم بهذا الواجب في ظل التطور التكنولوجي الحاصل، والنظام الرقمي المتطور، وتراجع دور الكتاب والصحيفة الورقية في التعريف بهذه المعالم التاريخية في مجتمعاتنا؟ إذا لا بد من انجاز دراسات وإطلاق مشاريع رقمية، لرصد هذا التراث وإحصائه، بالخرائط الطبوغرافية، والوثائق الأرشيفية، والصور المنحوتة المجسمة والضوئية المرئية. على أن تشمل العملية التراث الثقافي وعمران المدن ومكوناتها، والآثار والمواقع الأثرية، والمعالم الطبيعية، الفيزيائية والبيولوجية. وتتولى مختلف الوزارات في البلدان العربية كل فيما يعنيها بالتعريف بهذا التراث محليا، على أن تضطلع الدولة من خلال المحافل الدولية مثل اليونسكو وجامعة الدول العربية بالتدخل لحماية وصيانة هذا التراث من كل العمليات التي تستهدف تدميره، أو تهويده، في إطار عمل عربي مشترك.
قد يفقد هذا المشروع – لو يتحقق في أرض الواقع- حرارته الحضارية، ويتحول هذا إلى مجرد مسلسل فرجة واستمتاع سياحي لا غير. لكن ينبغي أن ترافقه عملية سياسية باتجاه حلحلة القضية الفلسطينية في إطار المجتمع الدولي ومواثيقه، وهو الخيار الذي تتبناه الدولة الجزائرية في الوقت الحاضر.
باعتباركم دكتور باحثا أيضا في الدراسات العثمانية والبحر المتوسط حدثنا عن العلاقات السياسية والثقافية والتبادل الاقتصادي في حوض البحر الأبيض المتوسط؟
-بموجب التحالف الذي تأسس بين الجزائر والدولة العثمانية، تمتعت الجزائر بوضع خاص مقارنة بباقي الولايات العربية والأقاليم. كانت الجزائر تحتفظ بالعلاقة السياسية مع الباب العالي باعتباره رمزا للخلافة، وصارت تختار الداي بكل حرية في البلاد في المرحلة الأخيرة، وتطلب تزكيته فقط من استانبول. كما كانت تبرم الاتفاقيات الدولية والمعاهدات الثنائية مع مختلف الدول بصفة مستقلة ندية، وكقوة بحرية وفاعل أساسي في منطقة الحوض الغربي للمتوسط. لقد شاركت الجزائر في حروب الدولة العثمانية المختلفة، وفي مواجهة الإسبان وفرسان مالطا وبعض الدول الأوربية المعتدية، خاصة غرب أوربا.
وشهدت المنطقة المتوسطية من جهة أخرى حركة ثقافية وعلمية نشيطة بين استانبول وبلدان شمال إفريقيا، وكان العلماء والفقهاء وطلبة العلم يتحركون بحرية بين المدارس والجامعات للتدريس أو التكوين الذاتي، خاصة في العلوم النقلية. كما كان للعلوم العقلية والتجريبية هي الأخرى نصيب من الاهتمام، ولو بدرجة أقل. أما الاحتكاك الثقافي في المتوسط مع الدول الأوربية فلم تعرفه المنطقة إلا في القرن التاسع عشر، على الرغم من النشاط المعتبر لبعض الرحالة والسفراء منذ القرن الثامن عشر، وسياسة الانفتاح نحو الغرب التي دشنتها الدولة العثمانية مع سليم الثالث (1798-1809م) ومشروعه الإصلاحي.
وتزخر مراكز الأرشيف في مختلف الدول المتوسطية، بوثائق هامة عن التبادلات التجارية للجزائر مع الموانئ الأوربية ودول العالم العربي والإسلامي في التاريخ الحديث. وتشير سجلات كثيرة هنا وهناك إلى التبادلات الجزائرية في مجال التجارة الدولية، وأسماء التجار والسلع والعملات المتداولة آنذاك. لقد انخرطت الجزائر منذ وقت جد مبكر في التجارة العالمية، والتوزيع الدولي للمنتجات، كمنتج وكمستهلك.
حدثنا أيضا دكتور عن مفهوم الخلافة والوطنية في الفكر الإصلاحي المغاربي خلال القرن 19 ولكم مقال بعنوان: «ثنائية الخلافة والوطنية في الخطاب الإصلاحي المغاربي خلال القرن التاسع عشر»؟
mm درست موضوع الارتباط بالدولة العثمانية، وفك الارتباط معها في البلدان المغاربية، من خلال المصادر التاريخية خلال القرن التاسع عشر للميلاد. فوجدت أن مفهوم الخلافة (المفهوم الديني = التمثيل الشرعي) قد تداخل مع مفهوم الوطنية (المفهوم السياسي = الانتماء القطري) وتكاملاَ في فكر وموقف أغلبية ممثلي النخبة المغاربية. فلم تناقض الوطنية (أو القومية أحياناً) التي دافعوا عنها سيادة الخلافة العثمانية على الولايات المغاربية التابعة لها، ولم تلغ فكرة الخلافة والانتماء إلى العالم العثماني مثلما طرحت ذلك الجامعة الإسلامية في الربع الأخير من القرن التاسع عشر الميلادي، فكرة الوطنية ولم تزاحمها. فالوطن الصغير عند الأغلبية جزء لا يتجزأ من الوطن الكبير، أي الوطن الطرابلسي أو التونسي أو الجزائري هو قسم من الوطن العثماني.
أما الذين ثاروا أو عارضوا، أو تحفظوا ولم يتحمسوا في هذا الاتجاه العام للمنطقة، فقد كان ذلك بسبب مناصرتهم للاستعمار مثل دعاة الاتحاد من فرنسا، أو كان هذا الموقف رد فعل تجاه حاكم معين كمعارضة حكام الولايات، أو سياسة بذاتها مثل الضرائب، والتهاون في استرجاع المناطق المحتلة. تاريخياً، ومبدئياً، لم يرفضوا الخلافة ليطرحوا الوطنية بديلاً عنها، فمن رفض الانتماء العثماني قبل غيره في الأصل. ولم تتبلور لديه الوطنية التي تقتضي الاستقلال السياسي، والمشروع الاجتماعي، والوعي بالذات، على غرار النموذج الأوربي.
وحتى محاولات الاستقلال النهائي عن الدولة العثمانية التي أبداها بعض حكام الولايات في طرابلس (الأسرة القرامانلية)، وفي تونس (الأسرة الحسينية)، وفي الجزائر (الدايات والباشوات)، لم تكن تحمل معنى الوطنية التي تهدف إلى تحويل المملكة إلى وطن، وتحويل الرعية إلى مواطن يتمتع بكل حقوق المواطنة. أي: إقامة الشراكة السياسية، وإثبات الحقوق الفردية والحريات ورعايتها، ولم تتجاوز تلك المحاولات، حدود الرغبة في الانفراد بالسلطة في كيانات سياسية محلية، ولم ترق إلى المستوى الذي بلغته مثيلاتها في أوربا.
وإذا كان المغرب الأقصى قد تمتع باستقلاليته عن الرعاية العثمانية، وقدم هو من جهته نموذج الوطن والخلافة المتحدين في قطر واحد، فإن العلماء فيه لم يمتنعوا عن الاعتراف بالخلافة العثمانية وتبعية الأوطان المغاربية الأخرى لها، رغم حالات الاصطدام والتناوش خاصة على الحدود الجزائرية. وتعتبر فتوى علماء فاس في هذا الموضوع هي أحسن مثال عندما طلب منهم ذلك السلطان مولاي عبد الرحمان (1823-1859م).
لقد تحالفت الوطنية والخلافة في الذهنية المغاربية خلال القرن التاسع عشر تحالفاً منطقياً، فعندما أخذت الوطنية معنى الواجب الذي ترتبه الأوضاع المحلية ويستوجب الدفاع عن مصالح المنطقة، أخذت الخلافة معنى الجهة الشرعية والمؤهلة للقيام بهذا الواجب. وتعتبر المسألة الجزائرية والمسألة التونسية من المسائل التي أنتج بمناسبتها خطاب النخبة المغاربية الصور التي تحالفت فيها الوطنية مع الخلافة وتحاورتا فيما بينهما.
حيث تراسل الأمير عبد القادر الجزائري (ت.1883م) مع الدولة العثمانية وهو يقود معركة تحرير وطنية ضد فرنسا، فاعترف بالخلافة العثمانية في رسالة له عام 1841م إلى السلطان عبد المجيد (1839-1861م)، وانتقد سياسة الأتراك بالجزائر وطلب النجدة.
كان لك أيضا مقال نشر بصحيفة رأي اليوم التي تصدر بلندن حول التحالف الجزائري العثماني في التاريخ الحديث 1519-1830م تحالف جيوستراتيجي للأمة الجزائرية. حدثنا عن تأسيس هذا الحلف وما الذي دفع بعلماء الجزائر وأعيانها يطالبوا بتأسيس تحالف ثنائي بين العثمانيين والجزائريين؟
-لقد كان الحلف الجزائري العثماني (1519-1830م) تحالفا جيوستراتيجيا للأمة الجزائرية، تغيرت بموجبه حركة التاريخ واتجاهه. تأسس للدفاع والتحرير مطلع القرن السادس عشر في أجواء دولية مكهربة، وظروف مشحونة مضطربة في القسم الغربي للبحر الأبيض المتوسط في أعقاب سقوط الأندلس عام 1492م، وسقوط آخر معقل للمسلمين بإمارة غرناطة. وكانت قد تغيرت الخريطة السياسية للعالم، وتغير معها وجه التاريخ في القسم الشرقي للبحر الأبيض المتوسط منذ عام 1453م بفتح القسطنطينية وزوال الإمبراطورية البيزنطية، وتنامي قوة العثمانيين كقوة بحرية ضاربة في المتوسط الغربي، تحمي المسلمين في شمال إفريقيا، وتعوضهم ما فقدوه في غرب أوربا بفتوحات الشرق.
إن وعي علماء الجزائر وأعيانها بهذه المستجدات، دفعهم إلى طلب تأسيس تحالف ثنائي بين العثمانيين والأمة الجزائرية المهددة بالغزو في كيانها السياسي. لقد أدركوا خطورة الأوضاع المُحدقة بهم في ظل ضعف الدولة الزيانية، ومعاناتهم من الأطماع المتزايدة للحفصيين (1207-1574م) في الشرق والمرينيين (1244-1465م) وخلفائهم السعديين (1549-1659م) في الغرب، علاوة على تنازع الزعامات والمشيخات والإمارات المحلية على السلطة مثل إمارة كوكو بزعامة أحمد ابن القاضي في منطقة القبائل الكبرى، وسلطنة بني عباس ببجاية وضواحيها، وقبيلة الثعالبة بقيادة سالم التومي في الجزائر ومتيجة، وإمارة تنس بزعامة حميد العبد.
وتعود جهود التأسيس لهذا الحلف إلى سنوات 1514م و1519م باستقبال الإخوة بربروس، وما ترتب عن ذلك من تحرير للأوطان، ودحر لزحف العدو الأوربي (خاصة الاسباني) بمباركة من السلطان العثماني سليم الأول (1512-1520م) من جيجل شرقا إلى وهران غربا. قال علماء الأمة بمدينة الجزائر لخير الدين بربروس حسب محمد الصالح بن العنتري في مؤلفه «فريدة منيسة في حال دخول الترك بلد قسنطينة واستيلائهم على أوطانها أو تاريخ قسنطينة» «يتعين جلوسك في هذه المدينة لأجل حراستها والذود عن ضعفاء أهلها، ولا رخصة لك في الذهاب عنهم وتركهم عرضة للعدو …»، وقال بعضهم لتعزيز جبهة الصمود والتحدي الداخلية: «هؤلاء … قدموا من حضرة السلطان العثماني … إذ لا يليق بنا مقاتلتهم ولا يسعنا منعهم …».
وتشير المصادر أن الولي سيدي أحمد بن يوسف الراشدي الملياني (ت. 1524م) التزم مع عروج بالتحالف والتأييد، والتزم بعده المرابطون والمتصوفة والفقهاء بعد ذلك، وتعجب المصلح المتنور حمدان بن عثمان خوجة (ت.1842م) وديوان أحمد باي قسنطينة خلال القرن التاسع عشر من الذين طرحوا فكرة فصل الجزائر عن الدولة العثمانية، وقبلهم أفصح المفتي ابن العنابي (ت. 1851م) عن موقفه قائلا: «ولولا ظهور الدولة العثمانية … فجدد القائمون بأعبائها معالم الدين … لإتسع الخرق، وعم الفساد سائر الخلق».
لم يدخل العثمانيون إلى الجزائر بقوة السلاح وعنوة لقهر أهلها كما تروج بعض الكتابات، وخاصة الفرنسية منها، وإنما توصل العثمانيون بعدد من رسائل الاستغاثة والاستنصار من جيجل وبجاية والجزائر وقسنطينة، وكانت تطلب تدخلهم العاجل وتستبشر بقدومهم لتخليصهم من الوضع المتردي الذي آلت إليه أحوالهم. لقد ساند علماء الجزائر العثمانيين وزكوا وجودهم، وباركوا التحالف معهم، بوصفهم حماة للدين والعرض والأوطان المهددة على الثغور من طرف «النصارى الأعداء». ولم تتقاعس بعد ذلك هذه النخبة الجزائرية في عصرها عن دورها في انتقاد سياسة الأتراك العثمانيين، والاعتراض على مواقفهم خاصة خلال الفترة الأخيرة من حكمهم، وذلك بطرق وكيفيات مختلفة كانت تصل أحيانا إلى حد الجهر بالمعارضة والثورة بعد تقديم النصح كما حدث ذلك خلال القرن التاسع عشر. وقدّم معظم العلماء استقرار الأوضاع واستتباب الأمن، وحفظ الحقوق والأعراض، وتحرير الأوطان ودحر الأعداء المتربصين على عصيان الحاكم، والتمرد عليه، وشق عصا الطاعة والثورة ضده، والدخول بالبلد في فتنة الحرب والحرب المضادة، والزج بالأمة في معارك هامشية.
ألقيتم محاضرة بدار الثقافة أبي راس الناصري بالتنسيق مع نادي البيان بولاية معسكر، تحدثتم من خلالها عن التنوير في البلدان المغاربية والدور الريادي للجزائر، ما هي أهم المحاور التي توقفتم عندها دكتور؟
– بدعوة كريمة من نادي البيان، وتحت إشراف دار الثقافة أبي راس الناصري بمعسكر، وإحياء للذكرى الستين لعيد النصر تشرفت يوم 19 مارس 2022 بتقديم مداخلة عن التنوير في البلدان المغاربية خلال القرن التاسع عشر والدور الريادي للجزائر. أتقدم بأجمل عبارات الشكر والامتنان بهذه المناسبة لنادي البيان والقائمين عليه للتفاني في خدمة الثقافة، ولدار الثقافة والمشرفين عليها للرعاية الكريمة، وللسادة الأفاضل من المهتمين بالشأن الثقافي بمدينة معسكر.
تناولت هذا الموضوع بعيدا عن تاريخية المصطلح في الفكر الغربي وعلاقته بالدين والعلمانية، وتوقفت عند الدور الريادي للجزائر، ليست شوفينية، ولا غلوا في التعصب للوطن والقومية، وعنجهية في التعامل مع غيره. وإنما كانت مداخلتي مقاربة تاريخية قائمة على مادة تاريخية موثقة في أمهات المصادر والوثائق، كشفت فيها عن خصوصية الجزائر، إيمانا مني بالعبقرية الجزائرية عبر التاريخ وتميزها. خصوصية التاريخ والجغرافيا، حيث مثلت الجزائر مفتاح إفريقيا وقلب المنطقة المغاربية منذ القديم، وبرزت خلال التاريخ الحديث والمعاصر في قلب التاريخ المتوسطي والمغاربي.
إن موضوع التنوير في البلدان المغاربية جدير بالدراسة والاهتمام، فلماذا يجري الحديث بانبهار عن التجديد والنهضة في المشرق العربي مع محمد عبده والأفغاني في نهاية القرن التاسع عشر، ولا نتحدث عنه في بلاد المغرب في بداية هذا القرن، وخاصة في الجزائر، مع ابن العنابي وحمدان خوجة والأمير عبد القادر؛ وهو مؤسس الفكر والعمل التحرري الاستقلالي في العالم العربي الإسلامي؟! لماذا نتحدث كثيرا عن المؤرخ المصري عبد الرحمان الجبرتي (ت.1825) الشهير بكتابه «عجائب الآثار في التراجم والأخبار»، ونهمل معاصره المؤرخ الجزائري أبو راس الناصري (ت. 1823م) المعروف بكتابه «عجائب الأسفار ولطائف الأخبار». نعتمد الكثير من تفاسير القرآن الكريم، وعدد قليل من يعرف تفسير عبد الرحمان الثعالبي (ت. 1479م) الموسوم بـ: «الجواهر الحسان في تفسير القرآن»؟!
لقد احتدم النقاش بين علماء المغرب العربي حول العديد من المسائل بزيادة الاحتكاك مع الطرف الآخر الأوربي منذ نهاية القرن الثامن عشر، وظهرت خلال القرن التاسع عشر على وجه الخصوص مفاهيم جديدة ذاع صيتها وانتشر أنصارها ولفتت انتباه المفكرين المسلمين في المشرق والمغرب الإسلاميين. حيث ثار الجدل بين مجموعة من الأزواج المتقابلة في المفاهيم، منها مثلاً الخلافة والوطنية، القطيعة والتقارب، النقل والعقل، التقيد والتحرر، الملكية والجمهورية، التقليد والتجديد، القوة الروحية والقوة المادية. وفي الوقت الذي مثلت فيه الأطراف الأولى للأزواج، الأصول والقواعد التي انطلق منها الفكر الإسلامي الموروث والمحافظ حينئذ ودرج عليها في الذود عن الأوطان، مثلت الأطراف الثانية لهذه الأزواج الفكر المغاربي المتفتح، والواقع تحت تأثير المستجدات والمنخرط هو الآخر في المهمة نفسها.
وإذا كان الاتجاه المحافظ قد برر مواقفه عن طريق تقديم نصوص شرعية وفتاوى التراث، فإن الاتجاه التحديثي المتفتح المتنور عاد هو الآخر أيضاً إلى هذه المصادر، وحاول التوفيق بين مقاصدها، وبين ما تذهب إليه القيم الأوربية، واجتهد لإزالة التعارض والاختلاف الظاهر بينهما. وقد تبدو لنا مواقف المحافظين من مختلف القضايا تطرفاً، وغيرة دينية زائدة، وانتهازية ووصولية، وقد تبدو لنا كذلك مواقف المجددين استسلاماً، وانهزامية مفرطة، وانبهاراً غير متوازن. ولكن علينا أن نفهم أن المواقف الأولى لعبت دوراً هاماً في المحافظة على الدين، وعلى الدولة بمغرب القرن التاسع عشر، والمواقف الثانية عبرت بقوة عن حاجة المجتمع المغاربي إلى التطور والتجديد والانطلاق.
إن كل هذه القضايا التي طرحها المجددون والمصلحون المغاربة في القرن التاسع عشر، طرحها نظراؤهم بالمشرق العربي هم أيضاً في نفس التاريخ، ومن خلال كذلك مواقعهم السياسية ومستوياتهم الفكرية، وظروفهم المحلية والدولية. فأثار هؤلاء النقاش أحياناً قبل المغاربة، وأحياناً أخرى بعدهم في مسائل كثيرة، كالتقارب، والتحرر، والتجديد والإصلاح الدستوري، وتثمين العقل. لقد لعب النقاش الفكري للنخبة المغاربية خلال القرن التاسع عشر، دورا محوريا هاما في تأسيس الوعي التحرري للحركة الوطنية خلال القرن العشرين في البلدان المغاربية، خاصة الجزائر.
هناك اهتمام كبير بالثورة التحريرية المباركة، سواء من خلال الأبحاث والدراسات أو من خلال الإعلام عكس المراحل التاريخية الأخرى التي مرت بتاريخ الجزائر، فما هو السبب في نظركم؟ لماذا أهمل المؤرخون المراحل الأخرى؟
– أعتقد أن غياب معهد وطني عالٍ للدراسات التاريخية، يضطلع بمهمة كتابة التاريخ الوطني والبحث فيه بكل مراحله هو سبب المشكلة. فالبحوث والدراسات على مستوى الجامعات والمدارس العليا ومراكز البحث تقودها المبادرات الفردية، وتحتويها المشاريع الجزئية، وتؤطرها التجارب المحدودة. يشتغل البعض من الباحثين والمؤرخين على محاور ومشاريع بحثية بطريقة غير سليمة، يشوبها الخلل المنهجي والإجرائي، والتوثيق العلمي الرصين، وقد طالت هذه الظاهرة حتى المشاريع الرسمية ذات الطابع الوطني التي رُصدت لها ميزانية معتبرة للبحث والتكوين.
إن المعهد الوطني للتاريخ، المرتقب والمنشود، بإمكانه استقطاب الكفاءات الوطنية التي يستولي عليها غيرنا في الشرق وفي الغرب، وتسطير برنامج شامل لكتابة التاريخ الوطني العام على مر العصور، وتحرير مراجع برؤية وطنية، ومنهج علمي، وبتوثيق من مصادر محلية ودولية. وبذلك نتجنب عند الحاجة، كمجتمع، وكمؤسسات في مستويات مختلفة، الاعتماد على الكتابات الأجنبية والدراسات المُؤدلجة، والوقوع في المحظور من المغالطات التاريخية، والمصطلحات غير البريئة.
فالتكوين التاريخي للجزائر لا يقتصر على حقبة زمنية دون أخرى، خاصة وأن المنطقة مُصنفة ضمن المواقع النادرة لمهد الإنسانية، وعمر الجزائر صار يقدر بعد الاكتشافات الأثرية الأخيرة بملايين السنين. نحن الجزائريون ورثة الحضارة النوميدية البونيقية؛ التي يدين لها العالم بأقدم موسوعة فلاحية عرفتها البشرية في التاريخ القديم ما قبل الميلاد ببلاد المغرب. رفع الدوناتيون في تاريخ الجزائر القديم شعار التوحيد في المسيحية المحلية في القرن الرابع الميلادي وصححوا مفاهيم عقدية، وغرس فيما بعد البربر مع إخوانهم العرب الفاتحين دين الإسلام في البلاد، وبلّغوه إلى أوربا وصاروا لحمة واحدة منذ القرن السابع للميلاد. نحن أهل حضارة، كنا سادة في شمال إفريقيا وحوض المتوسط، أقمنا الدول، وشيدنا العمران، ونشرنا العلم ودرّسناه للغير في الزيتونة والقرويين، والأزهر واستانبول والحرمين.
يقول بعض المؤرخين أن الإتيان بالأرشيف الجزائري من فرنسا قد تكون مساوئه أكثر من محاسنه ما رأيك دكتور؟
– من حقنا استرجاع الأرشيف الجزائري الذي نهبه الاستعمار الفرنسي، وهو ملك للأمة التي أنتجته حسب المواثيق والمبادئ الدولية، وجزء لا يتجزأ من الذاكرة. آلاف المخطوطات العلمية والأدبية، ونفائس المؤلفات التاريخية، ودرر التراث من الوثائق والنقائش، تم جمعها وتهريبها غداة الاستقلال. فاستعادة هذه الذخائر من الخزائن الفرنسية مطلب سياسي وجيه، وعرضها للدراسة والتحقيق واجب وطني شرعي، والحجر والتكتم عليها بغير وجه حق، وإهمالها جريمة لا تغتفر.
إن موضوع الأرشيف يُطرح للنقاش من عدة أوجه باعتباره خزانا للذاكرة الوطنية ودعامتها، ولكل غرضه وخلفياته في هذا الجدال، ولا يكفي الحماس وحده لمعالجة المسألة، وعلى كل طرف أن يُوضِّح مشروعه بما يكفي دون الانتقاص من دور الآخر، والطعن في العرض الذي يُقدمه. ومن المفيد جدا عندما يذهب البعض إلى استقصاء الأخطاء والعيوب والتقصير، بهدف الإصلاح والوصول إلى الوضعية والمستوى الأفضل، وعلى الجميع قبول الملاحظات وعدم الانزعاج منها متى كانت علمية عملية تستجيب للتطلعات.
وتعتبر مسألة البحث العلمي من خلال الأرشيف، قضية في غاية الأهمية لا بد من معالجتها كما ينبغي، وتوضيح بعض جوانبها. اشتغلت شخصيا على الأرشيف التاريخي لمدة حوالي عشرين سنة، وزرت العديد من مراكزه في الجزائر، وفي دول العالم في مناسبات مختلفة مثل تونس والمغرب والسعودية ومصر، وفرنسا وايطاليا واسبانيا وبريطانيا وألمانيا والنمسا، واليابان وتركيا. فبعض المراكز تتوق النفس إلى زيارتها، ولا يمل الباحث من التردد عليها، لأنه يجد ضالته فيها وتروي ظمأه، والبعض الآخر تزوره لأول وآخر مرة ولا تعود إليه، ولا تنصح غيرك بالتوجه إليه.
وقفت على حقيقة واحدة في المؤسسات العالمية، وخاصة الغربية منها؛ وهي أن الباحث «مُرحب به»، وكل الإمكانيات والتجهيزات التي تُمكنه من إنجاز بحثه متوفرة، ويُشرف الأعوان المتخصصون على تقديم كل التسهيلات الممكنة له. وأهم ما يُلفت انتباهك في المبنى هي قاعة المطالعة، واكتظاظها بالباحثين من جنسيات مختلفة. الروابط الالكترونية مُحينة وعناوينها الالكترونية فعّالة، مواعيد رسمية مضبوطة لاستلام علب الأرشيف «المحفوظة جيدا» وإعادة تسليمها، موظفون أكفاء متخصصون منضبطون، يُحبون وظيفتهم ومستعدون للتوجيه العملي، فهارس ومحتويات رقمية ومطبوعة وأرشفة الكترونية وقواعد بيانات مكتملة، أجهزة استغلال الرصيد الأرشيفي وقراءته ونسخه وتصويره مُتاحة وغير عاطلة، قوانين تنظيمية واضحة ونظام داخلي منشور رقميا وورقيا، خدمات الإطعام والنظافة والنقل وأحيانا الإقامة متوفرة.
إن استيفاء هذه الشروط وغيرها يقودنا للاستثمار الجيد للرصيد الأرشيفي التاريخي منه، وما يتم إنتاجه تباعا. وعلينا إدراج الأرشيف ضمن أولويات الدولة لأهميته في حفظ الذاكرة والتراث وكتابة التاريخ، وفيما عدا ذلك؛ هو إقصاء للعلم والهُوية والحضور التاريخي، ومن ثم إعدام للإنسان والأمة والحضارة، وجريمة لا تغتفر في حق المجتمع والأجيال القادمة. إن مراكز الأرشيف في العالم، وقد تمثلت هذه المواصفات، يَحُج إليها الباحثون من كل أنحاء العالم، وقد تحولت إلى مراكز استقطاب وتُدر أرباحا معتبرة في ميزانيات الدول كغيرها من القطاعات المنتجة.
إن فتح فرنسا للأرشيف الخاص بتاريخ الثورة الجزائرية أمام المختصين من باحثين في تاريخ الثورة من جزائريين وأجانب خطوة نباركها ولطالما انتظرها المهتمون والمشتغلون في الحقل. ولكن الابتزاز السياسي والاحتيال الإداري، والمراوغة الدبلوماسية والتلاعب الإعلامي كلها خطوات من شأنها أن تطيل عمر الأزمة وتعمق غور الجراح، وتمضي بسببها الأطراف المعنية نحو المزيد من الانسداد السياسي. فمعالجة ملف الأرشيف ينبغي أن تتم ضمن مفاوضات مباشرة سيادية، يتم من خلالها تناول الموضوع بصفة كلية واضحة، لا بطريقة تجزيئية مناسباتية، في كلمات وخطابات وتصريحات غير مسؤولة على المنابر السياسية، وفي صفحات الجرائد والصحف ومواقع التواصل الاجتماعي.
ما هي أبرز المشاريع والقضايا التي تشتغلون عليها حاليا؟
–  اشتغل حاليا على مشاريع وطنية ودولية في تاريخ الجزائر الحديث والمعاصر وتطوراته، وامتداداته وتفاعلاته في العالم العربي والإسلامي ومنطقة المتوسط. اهتم بالمصادر التاريخية من مخطوطات ووثائق أرشيفية ورحلات ومذكرات وشهادات، وذلك بالدراسة والتحقيق، والترجمة والتعريف، بهدف بناء الوقائع التاريخية واستجلاء خباياها. وأسعى من جهة أخرى من خلال بعض الدراسات في إطار فقه التاريخ، إلى رصد الأدوار المميزة في حركة التاريخ بجغرافية الجزائر، وتحدياتها القارة والعابرة، وشخوص الأحداث والوقائع والأعلام، والتكوين التاريخي للجزائر؛ ذاكرة الدولة والأمة.
ومن بين المواضيع التي مسها البحث بالتفصيل موضوع الوقف ومؤسساته، والنخب العلمية ومجموعاتها، وملحمة المقاومة الجزائرية في القرن التاسع عشر، ودور الأمير عبد القادر التأسيسي. علاوة على جوانب من التاريخ المحلي للحركة الوطنية والثورة الجزائرية.
نصيحتكم لشبابنا كيف يمكننا الاستفادة من تاريخنا؟
– نصيحتي للشباب عموما، والجامعي على وجه الخصوص، هي أن يعتز بجزائريته، وهُويته التاريخية في أبعادها الحضارية، ويفتخر بتاريخه بعيدا عن الطرح الوعظي، والتمجيد الأسطوري، والتخييم التاريخي. وينبغي عليه عند الخوض في المسائل التاريخية، أن ينتبه إلى طبيعة المصادر التي يُراجع منها تاريخه، ويتعرف من خلالها على ذاكرته. لأن الجزائر مثلما استهدفت في أرضها وعرضها عبر التاريخ، نالها مكر الأعداء والمتربصين، ولا يزال، في تاريخها، وأبطالها وبطولتها. فهذه الدوائر المشبوهة لم/ولن تتوقف عن التشكيك والتهوين، والطعن والتشويه، والخنق والتضييق والتدمير، والتقنيط والهدم. تختفي وراء الطرح العلمي وحرية التعبير تارة، وتحتمي بالمناهج العصرية والمدارس النقدية تارة أخرى.
ليس كل من هب ودب يكتب في التاريخ، ويتحدث عنه! إنه كما نُسلم المريض للطبيب لفحصه وتشخيص حالته وتطبيبه، ونتوجه بالمراكب السيارة للميكانيكي والكهربائي للمعاينة وإصلاح الأعطاب، ونعترف بكفاءة خبراء الهندسة المدنية والمعمارية ورجال القانون وأهليتهم، ينبغي أن نُقِر أن الواقعة التاريخية هي من اختصاص المؤرخين وحدهم، لا غير. فالمؤرخ هو أولى وأقدر من غيره على إثباتها، أو نفيها، والتأريخ لها بمصادر متعددة، ومن زوايا مختلفة، في سياقها التاريخي وبأطرافها الفاعلين الأساسيين، وبظروفها المحلية والدولية، وشروط الزمان والمكان، وينجح في مهمته ويتفوق أكثر حينما يتجرد من الايديولوجيا والخلفيات ويتحرى الحقيقة والموضوعية، وإن لم يكن كذلك، فلا طائل فيه.
شكرا جزيلا دكتور، كلمة ختامية لجريدة البصائر؟
– هناك خيارات للتعامل مع بنك التاريخ والذاكرة، فعلينا أن نحسن الاختيار، وأن نقف في الطريق السليم ونلج الباب الآمن، ونطرح السؤال الصحيح خصوصا في وسائل الإعلام العامة، ومع عموم المواطنين، والمتلقين البسطاء. فإما نعود لهذا البنك، ونبحث عن الايجابي والجميل، والحكيم والقوي، والمنسجم والمفيد، والنادر والإضافة، وهذا من أجل البناء والتشييد، والاستقواء والحماية والدفاع، والتفاؤل والإقدام، والانتشاء بالانتصار، والتراكم المعرفي والتحصيل العلمي، والتعبئة الايجابية والتوظيف الهادف، والاصطفاف الحضاري والتكتل النوعي، وتوحيد الصف وترتيب الأولويات.
وإما أن نفتش في هذا المخزون عن السلبي والقبيح والمخزي، والسيئ والخائب، والمُحزن والمفجع والمؤلم، والضعيف والمتهاوي، والضار والاستثنائي، والناقص الوحيد الشاذ الذي لا يقاس عليه، والخيبات والمطبات، والأخطاء والمآسي، والمزالق والانحرافات، وما أكثرها في تاريخ الشعوب. وهنا، نكون أمام خيارين في استدعاء الوقائع، إما أن يتم ذلك عن وعي وبصيرة، وبمناسبة رسالة علمية أكاديمية، مطلوبة وضرورية، وإما أن يكون هذا الاستدعاء عن غفلة وسذاجة وبلادة، أو حقد وخلفية فكرية وحسابات سياسوية. في الحالة الأولى، يفضي الوعي على مستوى عال إلى الاعتبار والإصلاح، والدراسة والتحقيق، ورصد العيوب والتشوهات، وسد الثغرات وشحذ الهمم، وتجاوز العقبات، والتطلع إلى مستقبل أفضل. أما الاندفاع باللامبالاة أو بالخلفية الايديولوجية في الحالة الثانية، فيؤدي إلى التأزيم والتحطيم، والارتياب والتراجع، والانهزام والتعثر، والتيئيس والاستسلام، وتشتيت القوى وزرع الفوضى، والنيل من الرموز والمقدسات.

اظهر المزيد
زر الذهاب إلى الأعلى

مرحبا بكم في الموقع الرسمي لجريدة البصائر

 

تفتح جريدة “البصائر” صفحاتها للأساتذة الجامعيين والمؤرخين والمثقفين، لنشر إسهاماتهم في شتى روافد الثقافة والفكر والتاريخ والعلوم والأبحاث، للمساهمة في نشر الوعي والمبادرات القيّمة وسط القراء ومن خلالهم النخبة وروافد المجتمع الجزائري.

على الراغبين والمهتمين إرسال مساهماتهم، وصورة شخصية، وبطاقة فنية عن سيرهم الذاتية، وذلك على البريد الالكتروني التالي:

info.bassair@gmail.com