الاستعمار الفرنسي والقضية البربرية/ عبد اللطيف سيفاوي
يمكن الجزم بأنّ الطرح القائم على تمييز وتقسيم الجزائريين على أساس مجموعات عرقية متباينة، يعد من ثوابت النظرة والطرح الاستعماريين للمجتمع الجزائري.
وإن كانت الفوارق والتمايزات الكائنة داخل المجتمع الجزائري، هي من الظواهر الطبيعية التي تفرضها عوامل جغرافية واجتماعية واقتصادية و تاريخية عدة، إلاّ أنّ الاستعمار رأى فيها أساسا وأرضية بنى عليهما صرحه النظري القائم على تصور مجتمع منقسم على نفسه، لا وجود لروابط قوية تربط مختلف مكوناته السكانية، ولم يكن في أي مرحلة من مراحل تاريخه أمة متماسكة ومتجانسة وإنّما مجموعة من العشائر والقبائل المتحاربة والمتعادية. وكانت المشاعر الوطنية بالمفهوم الغربي لم تكن موجودة في الجزائر بحكم حداثة المفهوم، لكن كانت هناك روابط أخرى تربط الشعب الجزائري تجاهلها المستعمر وقفز عليها، كالدين واللغة والمصالح العامة والعدو المشترك والماضي المشترك ونحو ذلك على غرار ما كان موجودا عند مختلف الشعوب في قارة آسيا وإفريقيا، وفي أجزاء من أوربا، والتي لم تعرف تلك المشاعر أيضا في بداية القرن التاسع عشر، كما نبه على ذلك الدكتور أبو القاسم سعد الله.
ولم يقتصر الاستعمار على بناء صرح نظري ألبسه ثوبا علميا، وجنّد له عساكره وخبرائه ومختلف مؤسساته، وإنّما استغل وشجع هذا الجهد النظري الضخم في وضع سياسات تستند إلى نتائجه وإيحاءاته وتوصياته، ثمّ تبين بعد ذلك عند الحديث عن السياسة البربرية الفرنسية؛ وبالنسبة للجزائر فإنّها كانت سياسة تركز أكثر على منطقة محددة، وهي قبائل جرجرة وما أصطلح عليه الفرنسيون بالقبائل الكبرى.
وعلى أساس هذه الملاحظة الأخيرة تحدث المؤرخ الفرنسي “آجرون” عن ما اصطلح عليه بالأسطورة القبائلية، والتي أحدثت جدلا بين الباحثين، بين مؤيد ورافض ومعلق .
وفي حقيقة الأمر فإنّ المستعمر في سياسته ضرب الجزائريين بعضهم ببعض لم يتوقف على مستوى عامل واحد دون غيره، فسياسته كانت قائمة على استغلال كل ما يمكن استغلاله لذلك الغرض.
لكن يبدو أنّ مسألة التفريق بين العرب من جهة والبربر من جهة ثانية كانت من العوامل التي تم التركيز عليها أكثر.
كما أنّ النزعة البربرية المطروحة لم تكن قائمة على أساس التفرقة عرب – بربر فقط بل كانت قائمة أيضا عل التفرقة بين البربر فيما بينهم، وخاصة بين القبائل وباقي البربر وبين القبائل الكبرى والقبائل الصغرى؛ ثمّ هذا التمييز بين العربي والبربري كان قائما على أساس معيار أساسي هو فرنسا وثقافتها وحضارتها ومفاهيمها.
ويمكن اعتبار أنّ الاستعمار الفرنسي من حيث تعاطية مع المسألة البربرية، قد عرف ثلاث محطات أساسية، المحطة الأولى هي محطة وضع الأسس والتأكيد عليها، المحطة الثانية هي محطة الدراسات المتخصصة ووضع السياسات، والمحطة الثالثة والأخيرة هي محطة التأكيد والتورية والحذر.
المحطة الأولى تمتد من أواخر العشرية الأولى من الاحتلال إلى غاية انتفاضة المقراني سنة 1871م، وأهم ما يميزها هو تشكيل اللجنة العلمية لاكتشاف الجزائر سنة 1939م، وأعمال “كاريت” و”ودونوفو” التي تمخضت عنها، ثم مشروع نابليون الثالث المعروف بالمملكة العربية، ورد فعل المناوئين لتلك السياسة والذي كان أبرزهم السيد “وارنييه”.
والمحطة الثانية، تمتد من احتلال الحكم المدني بالجزائر إلى الثلاثينات من القرن العشرين، وأهم ما ميز تلك الفترة، هو الحكم المدني وفتح المدارس العليا، وسياسة التعليم واحتلال المغرب، ثم الظهير البربري، وهي المرحلة التي تمت فيها كبرى المحاولات لوضع السياسات القائمة على الأسس النظرية التي تمّ بلورتها والمتعلقة بالمسألة البربرية.
والمحطة الثالثة تمتد من بداية الثلاثينات إلى سنة 1962م، وتميزت بانتهاج سياسة حذرة خفية، لكنّها مؤكدة للنهج الذي تمّ وضعه في الحقبة السابقة، وذلك لسببين أساسيين، رد الفعل الإسلامي الغاضب والقوي على الظهير البربري بالمغرب من أجل كشف وفضح مخطط الاستعمار ودسائسه، ثم بروز التنظيمات الشعبية الوطنية التي كانت تراقب المخططات الاستعمارية، وتقاوم بكل الوسائل المتاحة.
ويمكن القول أنّ بالنسبة إلى المرحلتين الأوليين قد استطاع بعض الباحثين كشف الكثير من جوانب تخصها، ولكن المرحلة الثالثة فهي إلى حد الآن لم يسلط عليها الضوء بشكل أوفى.
ولعلّ الكِتاب الذي صدر في هذه الحقبة باسم مستعار خير مثال على طبيعته الخاصة لهذه المرحلة الثالثة، فبالمناسبة المئوية لتأسيس جمعية العلماء التاريخية، تمّ عرض حصيلة أعمالها من سنة 1931م إلى 1956م، تضمن التنويه بكتاب وصف بالمفيد والمثير للجدل صدر سنة 1949م باسم مستعار الحسين متوقي ” LHAOUSSINE MTOUGGI” حول تاريخ البربر[1].
وستنشر في مقالات مقبلة – بإذن الله تعالى، وسنتحدث بشيء من التفصيل عن هذه المراحل الثلاثة.
[1] Centenaire société historique Revue africaine vol 100 année 1956 p 122