مسؤوليـــة العالِــم فــي الـمجتمـــع
أد. مولود عويمر/
يجد القارئ في هذه السلسلة نصوصا قديمة متجددة حررها العلماء والأدباء الجزائريون حول قضايا عصرهم واهتماماتهم العلمية والأدبية والفكرية والسياسية الوطنية والعالمية. وحوت هذه النصوص المرجعية للفكر الجزائري المعاصر معينا غزيرا يغرف منه الباحثون المشتغلون على تاريخ الجزائر في القرن العشرين والدارسون لذخائر تراثنا. وألتزم هنا قدر الامكان بنشر الآثار المغمورة أو المتداولة بشكل محدود لننفض الغبار عنها ونحيي جهود أصحابها الذين لم ينصفهم دائما الباحثون لأسباب مختلفة. وأمهد في كل مرة بترجمة موجزة لصاحب النص، وبيان سياقه العام وعرض مختصر لمضمونه، وتعريف مقتضب للمصدر الذي اقتبست منه، وهي في غالب الأحيان عبارة عن جرائد ومجلات قديمة تعتبر في حد ذاتها وثائق مغمورة أو نادرة.
صاحب هذا المقال المرفق هو الشيخ عبد اللطيف سلطاني المولود في يوم 8 جوان 1908 بمدينة القنيطرة بولاية بسكرة سابقا، وولاية باتنة حاليا. درس في مسقط رأسه ثم انتقل مع أخيه الكبير في سنة 1916 م إلى بلدة سيدي عقبة حيث درس فيها سنتين ثم انتقل إلى زاوية الشيخ علي بن عمر بطلقة وأقام بها عامين. وفي عام 1922 التحق بجامع الزيتونة حيث نال شهادة التطويع في عام 1929 بعد أن امتحنه الشيخان محمد الطاهر بن عاشور وصالح المالقي في الفقه المالكي، والشيخان محمد رضوان وأحمد بيرم في المذهب الحنفي.
عاد إلى الجزائر واشتغل بالعمل الاصلاحي في بلدته إلى أن تأسست جمعية العلماء المسلمين الجزائريين في عام 1931 فالتحق بها وعمل معلما في مدارسها في الجنوب الشرقي ثم استقر في بلدته مربيا ومعلما وواعظا ومرشدا. وفي عام 1946 عين عضوا في المجلس الإداري للجمعية وأستاذا في معهد الشيخ عبد الحميد بن باديس بقسنطينة. وفي عام 1951 عين أمين مال الجمعية ومديرا لمركزها بالجزائر العاصمة. وبالإضافة إلى هذه المهمة الإدارية، كان يعمل إماما واعظا متطوّعا بمسجد النور بالعناصر ثم في مسجد المدنية. وكان خلال الثورة على اتصال بقادتها بالعاصمة أمثال عبان رمضان، بن يوسف بن خدة وغيرهما، وكلف من طرفهما بجمع الأموال لصالح الثورة الجزائرية، ولما كشف أمره أعتقل ورمي في السجن. وبعد الاستقلال، عمل أستاذ للغة العربية بين 1964 و1971 بثانوية حسيبة بن بوعلي للبنات بالقبة ثم انتقل إلى ثانوية الإدريسي للبنين في ساحة أول ماي، وشغل أيضا إماما بجامع كتشاوة ثم بمسجد ابن فارس بالقصبة.
له عدة مقالات وكتب أذكر منها: «سهام الإسلام»، «المزدكية هي أصل الإشتراكية»، «في سبيل العقيدة الإسلامية»، و«مذكرات» التي انتهى من تحريرها في 4 مارس 1983م ونشرت أجزاء منها في مجلة «الإرشاد خلال عامي 1992 و1993 « ثم نشرت بكاملها سنة 2011 في أعداد متسلسلة في جريدة «الشروق اليومي».
نشر الشيخ عبد اللطيف سلطاني هذا المقال في مجلة «التهذيب الإسلامي» في عددها 8 الصادر في ذو الحجة 1385 هـ / مارس 1966. وهي مجلة كانت تصدرها جمعية القيم التي تأسست في الجزائر في 9 فبراير 1963. وكان يترأسها الدكتور الهاشمي التيجاني، وتضم مجموعة من العلماء والمفكرين والأعيان والنشطاء السياسيين والنقابيين، أذكر منهم الأساتذة: عمار الطالبي، محمد الأكحل شرفا، أحمد سحنون، عمر العرباوي، عبد اللطيف سلطاني، ورشيد مصطفاي…الخ.
وفي هذا المقال يشرح الشيخ عبد اللطيف سلطاني مهمة العالم في توجيه الناس نحو الخير والفضيلة والابتعاد عن الشر والرذيلة، ودوره في بناء المجتمع والارتقاء به في مدارج الازدهار. وهي مهمة مزدوجة ثقيلة لا يقوم بها إلا العلماء العاملون والمخلصون الصادقون، وهم يمثلون دائما أقلية في تاريخ البشرية لما يتطلب تحقيق ذلك من جهود جبارة وصبر كبير وضحية مستمرة.
كان الشيخ سلطاني واحدا منهم فلم يكن يسكت عما كان يراه مخالفا للأخلاق ومنافيا للدين الإسلامي فيشهر برأيه علنا. فقد كان معارضا للتوجهات الاشتراكية والعلمانية التي اختارتها الحكومة الجزائرية، وعبّر عن ذلك في خطبه ورسائله الموجهة إلى رؤساء الجزائر الثلاثة: أحمد بن بله، هواري بومدين ثم الشاذلي بن جديد، وتم توقيفه عن العمل الدعوي في المساجد، كما تم وضع تحت الإقامة الجبرية حتى توفاه الله إليه بالقبة بالجزائر العاصمة في 15 أفريل 1983.
*********
«إن الله العلي القدير خالق هذا العالم بما فيه من إنسان وغيره. الرحيم بمخلوقاته، قد إختار من بين مخلوقاته هذا النوع المعروف بالإنسان، وجعله مكرما محترما، وفضله على كثير ممن خلق تفضيلا قال الله جلت حكمته: «ولقد کرمنا بني آدم وحملناهم في البر والبحر ورزقناهم من الطيبات وفضلناهم على كثير ممن خلقنا تفضيلا». وقد أحاطت به العناية الإلهية في جميع مراحل حياته من صباه إلى شيخوخته إلى موته.
ومن أظهر عناية خالقه به هذه الأديان السماوية التي جاءت لإسعاده وتكريم جانبه، فلم يترکه مهملا كبقية المخلوقات، بل أرسل إليه رسله الكرام، عليهم الصلاة والسلام، المختارين من بين أهل زمانهم، المعروفين بكمال إيمانهم وأمانتهم ورحمتهم، أرسلهم معلمين مرشدين، فبلغوا رسالة ربهم ونصحوا أمتهم.
وعندما لحقهم ما يلحق أمثالهم من بقية المخلوقات، وارتحلوا عن هذه الحياة، تركوا وراءهم الدين الذي أرسلهم به رب العباد إلى العباد.
ومن المعلوم أن الدين لا يموت بموت الرسول الذي جاء به، بل يستمر العمل به إلى أن يأتي رسول آخر من ربه، مصدق لما جاء به من سبقه، وقد يأتي هذا الرسول بنسخ وإبطال بعض الأحكام أو تحويرها بحسب الوقت والبيئة المرسل فيها، وهكذا إستمر تواردهم الواحد بعد الآخر، إلى أن ختمت الرسالات السماوية برسالة وشريعة محمد صلى الله عليه وعلى جميع الأنبياء والمرسلين وسلم.
ومن المعروف أن أصحاب کل رسول قد أخذوا عنه ما جاء به، وبلغوه إلى من جاء بعد موت الرسول وهكذا إستمر الحال، لم تخل الدنيا من دین سماوي إلى أن تنتهي هذه الحياة، كما لم تخل من دعاة يخلفون رسلهم، ما هم بالرسل، إنما هم أتباع لرسولهم – يدعون أهل زمانهم إلى العمل بدينهم.
إن هذه الخلافة أو الوراثة عليها واجب أكيد وهو المحافظة على روح الدين وتعاليمه وتقديمها وتبليغها إلى الناس كاملة مكملة في أنفسهم وأفعالهم، يحافظون عليها أشد مما يحافظون على أرواحهم وأهليهم، لأنها أمانة الله والرسل في أعناقهم، ولأنها جاءت لإسعاد البشر، والخلفاء طبعا والورثة حقا إنما هم علماء الدين وحملة الشريعة، فهم ورثة الأنبياء كما جاء في الحديث النبوي الشريف.
والتاريخ الاسلامي – على الخصوص – مملوء بمواقف العلماء العاملين الصادقين المدافعين عن الدين، وهم الذين قال فيهم رسول الله محمد صلی الله عليه وسلم: «يحمل هذا العلم من كل خلف تحريف الغالين وانتحال المبطلين وتأويل الجاهلين»، فالتاريخ الاسلامي حدثنا أن العلماء العاملين وقفوا مواقف صارمة شديدة وثابتة في وجه كل من حاول العبث بتعاليم الدين، أو إزالة أحكامه العادلة، أو تعويض أخلاقه العالية، أو الخط والسخرية من إرشاداته الكاملة، كل هذا مسطر في تاريخ الاسلام النقي الطاهر.
ومن المعلوم أن الدين الاسلامي – كغيره من الأديان السماوية – شن حربا شديدة على الفساد بجميع أنواعه وفساد العقيدة، وفساد الأحكام، وفساد السلوك الخ – وبالطبع على الشر والفساد، وفي الانسان غرائز وطبائع لا يصلحها إلا الدين الاسلامی، فخرج الاسلام وتعاليمه من كل حرب منتصرا عزيزا قويا مکينا، وهذا صراع دائم بين الاسلام و بين خصومه وخصوم الأديان السماوية أولى الشر والفساد والانحطاط الخلقي.
والعلماء وهم حملة الشريعة، وهم المدافعون عن تعاليم الاسلام العالية إذا رأوا ما يعطل الشريعة ، أوأبصروا من يحاربها، فإن الواجب المحتم عليهم أن يهبوا للدفاع عن الأمانة التي هي في أعناقهم، والميراث الذي ورثوه عن سلفهم الصالح وعن رسولهم الأمين، فالعلماء العاملون ومن إنضم إليهم من أنصار الدين المخلصين هم الذين بشر بهم الرسول محمد صلى الله عليه وسلم بقوله: «لا تزال طائفة من أمتي على الحق ظاهرين لا يضرهم من خالفهم حتی یأتی أمر الله». رواه مسلم، فردوا هجمات الملحدين الكافرين ودحضوا إفتراآتهم على الاسلام الخالد النقي، وما تهجماتهم على الإسلام إلا بالكذب والتزوير بل بالإتباع والتقليد، للملاحدة الكافرين.
فالواجب على العلماء وأنصارهم أن يقفوا في وجه کل معتد أثيم ودعي زنیم، يحاول النيل من قيمة الاسلام وتعاليمه السامية، وشريعته الكاملة، فإذا سكت علماء الإسلام، ولم يرفعوا أصواتهم بالنكير، عالية مدوية في وجه المعتدين على دينهم فإن سكوتهم يعد خيانة منهم للأمانة التي في أعناقهم ونکوصا على أعقابهم، وجبنا في وقوفهم أمام المعتدين وبسكوتهم عن علم يرفع الباطل رأسه، ويأخذ صفة ومكان الحق – وهو الباطل – فيسيطر على الميدان الذي غاب أصحابه وبطول الزمن ينقلب الباطل إلى حق، لأن أهله أثبتوه، كما يصير الحق باطلا لسكوت أهله عنه، وفي هذا قلب للأوضاع وخسارة كبرى للإنسانية التي تتجاذبها جاذبية الشر والفساد ولم يجد الحق أنصاره الدفاع عنه.
إن لسكوت العلماء أسبابا عدة، كثيرا ما أشار إليها الباحثون الحذاق، منها الطمع في حطام الدنيا الفانية، والرغبة في التقرب إلى قصور الملوك والأمراء والرؤساء، ومنها الجبن والخوف من سطوة الحكام الظالمين. وکلا هذين، شين وقبح ممن تزعموا الدفاع عن الدين وسنة أشرف المرسلين، وهذا يدل على ضعف الإيمان في القلوب وسمعنا بعضهم يقول: إن الحكمة تقتضي منا (السكوت) خوفا من اختلاف الأمة، وتشتت قواها، وهل يليق السكوت بالعلماء؟ وبالخصوص في هذا الوقت، وهم ينظرون ويسمعون ويقرأون أخبار الحرب الخسيسة التي يشنها دعاة الالحاد على تعاليم السماء، على أكمل شريعة أنزلت إلى الأرض، ويرمونها بالجمود والقصور الخ وهم الخاطئون المخطئون المضللون، وهي الكاملة الصالحة لكل زمان ومكان.
وقد رأينا من يتسمون بالعلماء يتقربون إلى قصور الحكام، ويلتمسون لهم أضعف الأقوال وأوهاها، ويزينون لهم أعمالهم وتشریعاتهم المخالفة لتعاليم وتشريع الاسلام دفعهم إلى ذلك الطمع وقلة الإيمان، وبهذا العمل إنتشر الطغيان، وکثر الظلم من الحكام، لأن المدافعين عن الدين رأوا أن في السكوت (حكمة) عملا بقول الصوفية «سلم تسلم وتغنم».
هذه حقيقة مرة يدرکها كل مدرك في كثير من العلماء المهمين في الوقت الحاضر في جميع البلدان الإسلامية، اللهم إلا طائفة قليلة، أخلصت لربها، وشعرت بقيمة المسؤلية، وثقل الأمانة، فرفعت صوتها مدافعة عن الدین وتعاليمه في بعض الأقطار الإسلامية، فكانت الطائفة الناجية من الوعيد والهلاك المنصورة من الله، المتمسكة بالحق، لم يضرها من خالفها وخذلها حتى يأتي أمر الله بإنهاء هذه الحياة.
وفق الله العلماء العاملين، وثبت أقدامهم، وأمدهم بعونه ونصره إنه سميع الدعاء، مجيب النداء «إن تنصروا الله ينصركم ويثبت أقدامكم»، وصدق الله القوي العزيز».