ضرورة النقد والنقض
أ.د. عبد الملك بومنجل/
ليس الهامش الذي في عنوان المقال من قبيل الهامش الذي في عنوان العمود؛ إذ المراد بالثاني أن جُلَّ ما كتبه الفكر العربي المعاصر تحت عنوان «الحداثة» و«التنوير» هو على هامش التنوير الحقيقي وليس في صميمه؛ أما المراد بالأول فهو ما أثاره مقالي السابق «أكذوبة الحرية والتحرير في خطاب التنوير» من نقاش وإن قلّ على صفحات التواصل.
جميلٌ أن تثيرَ قضيةٌ فكرية ذات صلة وثيقة بأزمتنا الحضارية التي لا تزال تراوح مكانَها قدرا من النقاش بين أهل النظر من مشاربَ فكرية مختلفة. وحريٌّ بنا أن نثمّن هذا النقاش، وأن نفتح صدورَنا له وافقنا الرأيَ أم خالفه.
ولقد أثار مقالنا المذكور حفيظةَ أحد وجوه النضال الثقافي والإعلامي في الجزائر، فكتب معلقا:
«مقال جميل يادكتور؛ ولكن ألا تلاحظ أن مشاريعنا الفكرية لا تقدم نفسها بعقلانية من أجل كسب تأييد الجماهير، بقدر ما تقوم على نقد مشروع الآخر ومحاولة هدمه ونقضه. بهذه الطريقة وصلنا إلى الطريق المسدود، فلا الأصولي أو الماضوي ولا أقول الظلامي استطاع أن يعيد لنا جنة الماضي التي يعدنا بها، ولا الحداثي أو التنويري استطاع أن يقفز بنا الى جنته الموعودة .. والحقيقة أن الجميع في ظلام دامس، لأن كل طرف مهتم بإطفاء شعلة الآخر، بدل التعاون أو العمل جنبا إلى جنب ولو بالموازاة دون التقاطع ، من أجل رقي الإنسان.
لذلك تمنيت أن أقرأ وجهة نظر ك يا دكتور عن مفهوم الحرية، بدل إرهاق نفسك في نقد مفهوم الحرية عند التنويريين.
نحن في مأزق كبير، ونحتاج إلى خطاب مغاير لنتقدم خطوة. تقبل تحياتي».
وإني لمدركٌ أن المسألة التي أثارها المناقش على قدر من الوجاهة لا يُنكَر؛ إذ الأمة منذ أكثر من قرن لا تكاد تخرج عن وضعِ تبادل الهدم والنقض بين تيارين كبيرين يولّي أحدهما وجهه شطر الأصول المتينة للحضارة الإسلامية، ويولّي ثانيهما الوجه شطرَ القيم الحديثة للحضارة الغربية، وأن ذلك جنى على الأمة جناية بالغة، وأقعدها عن التقدم عقودا متطاولة؛ ولكني مع ذلك لم أرتضِ إنكارَه عليَّ ما أمارسه من النقد لتيار أراه سببَ النكبة ومانِعَ النهضة، وإشفاقَه عليَّ من جهد يُبذلُ في الهدم بدل أن يُبذَلَ في البناء؛ فكان جوابي:
«أظنك لا تختلف معي يا كمال في أن النقد هو روح الحداثة وجوهر العقلانية ومنطلق التنوير، وأنه فضيلة وليس رذيلة إذا قام على أسس موضوعية برهانية سليمة.
ولا أظنك تختلف معي أيضا في أن المشاريع التي تسمي نفسها، ولعلك تسميها أنت أيضا تنويرية، قامت أساسا على نقد التراث الإسلامي، بل على نقد النص المقدس تلميحا وتصريحا، وأنها لم تبن شيئا من المشاريع العملية القابلة لأن تتحول إلى نهضة، لأن التشكيك في صحة القرآن باسم الإسلاميات التطبيقية، والتحقير من شأن العقل العربي الإسلامي باسم الموضوعية والعقلانية، لا يمكنهما أن يبنيا منهجا، أو يشحذا همة، أو يثمرا تفجيرا لطاقات الأمة الروحية والعقلية والعلمية في بناء أصيل لا يتقتت من موائد مختلط غثها بالسمين.
أإذا انتقد بومنجل تحولَ النقدُ من فضيلة إلى رذيلة، وطولب بالبناء بدل الهدم، وكأن هدم العمارة المهترئة المتهالكة ليس ضرورة في بناء عمارة جميلة متماسكة؟
نحن يا كمال نهدم ونبني. وقد هدم «التنويريون» العرب أهم أعمدة النهوض الحضاري والأصالة الفكرية والمعرفة النقدية ولم أرَكُم تصديتم لهم بالاستنقاص والاعتراض. وقد أرهقوا أنفسهم طويلا في مناطحة الجبال ومحاولة إطفاء نور السماء الباهر القاهر، ولم أرَكم أشفقتم عليهم من إرهاق أنفسهم وقرائهم في كتابة تلك الكتل من الأوراق التي يراها بعضكم أسفارا، ويراها بعضنا أصفارا؛ أفَتُشفق على بومنجل من أن يرهق نفسه في كتابة مقال قصير، يكشف فيه في حدود ما يتيحه المقام (أكذوبة الحرية والتحرير في خطاب «التنوير»)؟!
ولعل الشاعر والإعلامي نور الدين درويش قد تفاعل بطريقته مع هذا النقاش فكتب على صفحته:
«كان الرسول صلى الله عليه وسلم يفرغ أصحابه ثم يملؤهم من جديد. والحكمة تقول: لتشييد بناء جديد يجب هدم القديم هدما كاملا، إذ لا ينبغي البناء فوق المهترئ». وأظن صديقنا قد أصاب، وسنستمر في هدم المهترئ حتى لا يستمر الزيفُ، ولا يستمر النزيفُ، ولا يستمر الخراب.