اكتشاف علي عزت بيغوفيتش!/ علي حليتيم
علي عزت بيغوفيتش فيلسوف مسلم فريد من نوعه جمع بين القيادة الإسلامية الفذّة والرؤية الإسلامية التجديدية للفكر الإسلامي ودور المسلم في قلب الجغرافيا والحضارة الأوروبية وفي منطقة البوسنة بالذات وما تمثله من رمزية عالية بالنّظر إلى كونها نقطة التماس بين الإسلام المتمدد في زمن العثمانيين والغرب الإسلامي الخائف خلف أسوار فيينا، ولكن بالنظر إلى الحاضر كذلك بما تمثله من هزيمة هوياتية للغرب رغم انتصاره السياسي والعسكري في البوسنة وعداوته القديمة/الجديدة لا للإسلام فحسب بل لمنظومة الإنسان كلها كما تجلى ذلك واضحا في مجزرة سريبرينيتشا.
أول ما يسجله الدارس لعلي عزت بيغوفيتش هو إلمامه الكامل بالحضارة الغربية فلسفة وفكراً وعلوماً حين نلمس أنه قرأها بعين الدارس المكتشف بل والباحث المتردد وربما المقتنع في أول شبابه من مصادرها وفي بيئتها وبلغتها بعيدا عن القراءات العربية الموغلة في النقد مما أوقعها في بعض السطحية أو الموغلة في الإعجاب والانبهار مما أوقعها في التقديس علمانياً.
كان علي عزت بيغوفيتش من المفكرين الإسلاميين القلائل الذين وجهوا خطابهم نحو الخارج ونحو الغرب بالتحديد متجاوزاً بذلك كل الأزمات الفكرية والنفسية الإسلامية الداخلية التي جعلت المسلمين ينصرفون عمّا في الفكر الإسلامي من قضايا جوهرية كرؤى العالم ومكانة الإنسان ومفهوم الحرية إلى قضايا أخرى هامشية وانتحارية وتشويهية لجمالية الإسلامية كالخلاف المذهبي مثلاً.
وليس هو وحده من انتبه لهذا الأمر لكن المفكرين الإسلاميين الذين وجهوا خطابهم نحو الخارج محققين بذلك الخطاب الإسلامي الدعوي الإيجابي بدل الخطاب الداخلي السلبي قليل لعلَّ من أبرزهم عبد الوهاب المسيري ومالك بن نبي وطارق رمضان. حتى الشيخ محمد الغزالي -رحمه الله- على جلالة قدره وسمو فكره قد وقع في رأي في فخ الخصومة الداخلية والخطاب الداخلي مما شغل الساحة الإسلامية بارتدادات خطابه عقودا ولا يزال، وحرم كثيرا من الشباب المتدين من كتبه لما رأوْا فيها من شدة عليهم.
وحين نستقرئ حركات التجديد الإسلامي في القرن الماضي نجد أن الناجحة منها هي التي أدركت عالمية الصراع بين الشرق والغرب وأن جوهر التجديد هو لفت المسلمين نحوه لا عن طريق صيحات التحذير الفارغة أو ردود الفعل المتشنجة بل بالعمل الفكري التوعوي الذي يفككه ويرجعه إلى أصوله الأولى وهي اختلاف رؤى الكون والنظرة للإنسان. فالحركة السنوسية التي قادها محمد بن علي السنوسي في ليبيا كانت مدركة للخطر الإيطالي والفرنسي والبريطاني على شمال إفريقيا وكانت تعمل على تحصين الجبهة الداخلية ضد العدوان القادم كما يبدو جلياً من الدراسات الغربية حول هذه الحركة. وحركة الإخوان المسلمين كانت مدركة للخطر الصهيوني وهيمنة الإنجليز على مصر وجمعية العلماء المسلمين الجزائريين إنما قامت كي تعيد للأمة الجزائرية روحها وحريتها الذين سلبهما الاستعمار الفرنسي.
إن التجديد الذي جاء به علي عزت بيغوفيتش ليس تغييرا لأصول الإسلام أو تحويرا لحقائقه فهذا تحريف مذموم، وهو ليس تجديدًا في بعض علوم الإسلام كما يوفق لذلك بعض العلماء والباحثين بين الحين والحين فهذا تجديد جزئي لا يفي بالغرض المطلوب، إن التجديد المطلوب هو إعادة صياغة الوحي كما نزل أول مرة بروح العصر وكلماته حتى يتحول الدين إلى قناعة وقضية حية وفكرة متوقدة في ذهن المسلم وحينها سينطلق نحو العمل. وإذا كان شرك زمن الرسالة الأول هو شرك الأصنام فإن شرك جاهلية القرن الواحد والعشرين هو شرك الأفكار المتلبسة بالعلم وما هي من العلم التي تقول إن الإنسان مادة صرفة لا علاقة لها بما وراء الطبيعة، وتقول إن الإنسان هو مركز الكون يتصرف في نفسه ولا يتصرف فيه أحد وهذا هو الشرك الذي أبطله علي عزت بيغوفيتش في كتابه الماتع: “الإسلام بين الشرق والغرب”.
والأمة الإسلامية مطالبة اليوم أن تدرك أسرار التجديد الذي لا يقوم على استنساخ أعمال المجددين الأوائل،فلو كان الاستنساخ وحده كافيا لكفانا استنساخ تجربة المعلم الأول -صلى الله عليه وسلم-، ولو لم تكن هناك حاجة للتجديد لما أنزل الله كل هؤلاء الأنبياء والرسل ولما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إِنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ لِهَذِهِ الْأُمَّةِ عَلَى رَأْسِ كُلِّ مِائَةِ سَنَةٍ مَنْ يُجَدِّدُ لَهَا دِينَهَا) فليس هذا التجديد إلا تفاعلا مع روح العصر ولغته وعلومه، وليس إلا تفاعلا للنفوس مع حقائق الدين ليتحقق التغيير الاجتماعي المنشود.