مجازر الثامن من ماي بين الفكرة والذكرى
أ.عبد القادر قلاتي/
لم تكن أحداث الثامن من ماي عام 1945م، أحداثاً عابرة، ميّزتها المجازر الفظيعة التي مارسها الاستعمار الفرنسي، والتي راح ضحيتها أكثر من 45 ألف جزائري اعزل من أي سلاح، إلاّ قوة الإيمان بهذا الوطن، وبالشخصية الجزائرية تنتمي إلى فضاء حضاري مخالف تماماً لما كانت هذه الدولة الاستعمارية تعمل من اجله، وهو المحاولة المستحيلة بقطع هذا الكيان المهم من جسد الأمة العربية والإسلامية ليتبع فرنسا وما هو بتابع، بل كانت ثورة حقيقية دبجتها نضالات سياسية طويلة قامت الحركة الوطنية فيها بدور كبير في تشكيل وعي الشعب بحقيقة هذا الاستعمار الغاشم.
ونحن اليوم لا نقف عند هذه المحطة التاريخية المهمة من اجل الذكرى فحسب، بل من اجل استحضار الفكرة، فكرة أن تتمكن من توعية النّاس البسطاء، بما يشكله الاستعمار، أو بما يشكله أي منطق ظالم مهما كان نوعه وجنسه، وإذا كان الاستعمار يشكل أعلى درجات الظلم والقهر والاستعباد، فان الاستبداد السياسي لا يقلّ خطورة عن الاستعمار وما يتركه من آثار لا تمحى بمرور الأيام والسنون في النّفس والمجتمع والدين والهوية.
لقد مرت هذه الذكرى العظيمة في تاريخنا المعاصر، دون أن نرى لها ذكراً، ذلك أن السياسة أحياناً تتجاوز المنطق، لصالح خطاب آنيّ تـفرزه لغة براجماتية، تحسن السلطة السياسية تسويغها، لتظر أكثر حداثة وتقدم، حتى ترضي هذا الطرف أو ذاك، ويكون هذا التجاوز مبرراً، بلغة الواقع وما تقتضيه الظروف السياسية والاقتصادية، وكأن من ينسى تاريخه يملك الحق في تبرير خذلانه والحط من كرامته، وما أكثر الذين يبررون كل شيء وأي شيء.
لم أشاهد في شوارع الجزائر ما يدل على استحضار الذكرى كما كنا نعهد ذلك من قبل، وإن كان استحضار التاريخ واستلهامه، أكبر من أن نعلق يافطة هنا أو هناك، يكتب عليها، عبارات تدل على حدث تاريخي أو ذكرى ما، لكننا في جزائرنا هذه الأيام بدأنا نلحظ ثقافة جديدة يريد أصحابها، أن يغيروا معاني الأشياء، فالوطنية ليست أن تحب وطنك وتدافع عنه، وان تؤدي الوجبات وأن تطالب بالحقوق، بل الوطنية أن ترفع علماً في الشارع، أو تعلقه في بيتك عندما تجرى مقابلة رياضية، أو أي تظاهرة أخرى، ويومها تكون قد حققت انتماءك لهذا الوطن، وليس لك من التزام آخر.
أردت الوقوف أمام هذه الذكرى/المجزرة، لأفهم كيف استطاع الشعب الجزائر، والحركة الوطنية، الوصول إلى هذه الصياغة الجديدة في النضال السياسي، فعندما نقرأ تاريخ تلك المرحلة الزمنية، ونتتبع سياقات النضال السياسي في تلك المرحلة، ندرك حقيقة واحدة وهي أنّ المجال السياسي، في العهد الاستعماري، كان أكثر نضجاً وأوعى تقديراً لمخاطر الاستعمار من زماننا هذا -أقصد المرحلة السياسية التي تمر بها الجزائر اليوم-.فالواقع السياسي في تلك الفترة كان يتسم بحالة من الغليان على مستوى العالم، وكان الاستعمار الفرنسي يشهد حالة من الضعف العسكري والسياسي لا مثيل لا، لذا رأت الحركة الوطنية أن تنشأ ما أصبح يعرف بحزب”أصحاب البيان والحرية”، هذه الحركة السياسية التي كانت تضم نخباً من كل الأطياف السياسية والدينية في جزائر ذلك الوقت ، وكان هذا التحالف السياسي، يحاول أن يفهم التحولات السياسية في العالم، وان يستفيد منها في قضيته المركزية، وهي الاستقلال التام عن هذا الكيان الاستعماري الغاشم، وعمل هذا التحالف السياسي على جمع النّاس حول هدف واحدة، “وخلال وقت قصير انضم عدد كبير من الأتباع إلى حزب الأصدقاء، حتى بلغ عددهم خمسمائة ألف شخص..”، و تمكن هذا التحالف من اختراق الواقع السياسي الفرنسي، ليدفع بقضيته نحو الحل النهائيّ، وقد كانت الظروف مواتية تماماً لهذا، لكن المنطق الاستعماري، ورؤيته الدونية للشعب الجزائر، حوّلت مطالب الجزائريين إلى مجازر شهدتها مدن سطيف وقالمة وخراطة، حيث راح ضحية هذه السياسة الاستعمارية، أكثر من 45 ألف جزائري، واتهمت السلطات الاستعمارية يومها جمعية العلماء المسلمين الجزائرين، بافتعال هذه الثورة، وقامت باعتقال العديد من السياسيين بينهم الشيخ محمد البشير الإبراهيمي رئيس الجمعية، وكتب الإبراهيمي عن هذه الأحداث الأليمة في حديث لمجلة المصور المصرية: “لو أن تاريخ فرنسا كتب بأقلام من نور ..ثم كتب في آخره هذا الفصل المخزي بعنوان مذابح سطيف وقالمة وخراطة لطمس هذا الفصل ذلك التاريخ كله”.
وللأسف الشديد ما زالت الفصول المخزية لهذا الكيان الاستعماري البغيض، تتواصل في بلادنا، وتبحث دائماً لها عن موطئ قدم، يشدها إلى هذه البلاد، فتتدخل في قضية سياسية هنا أو هناك، وتضغط لتمكين لغتها وثقافتها، وتحارب لغتنا وهويتنا بأذنابها الذين تركتهم، والفصول تتلاحق ولنا في مجازر الثامن من ماي الفكرة قبل الذكرى.