أكذوبة الحرية والتحرير في خطاب «التنوير»
أ.د. عبد الملك بومنجل/
للحرية في سمع الإنسان رنينٌ أي رنين، وإلى الحرية في قلب كل كائن حيٍّ حنينٌ أي حنين؛ وعندما يُحدثك أحدهم عن الحرية يكون قد فتح في قلبك إلى بُغيته نصفَ الطريق، إذ النصف الآخر في عقلك وهمّتك: فإمّا أن يرى عقلُك أن مُحدّثك يوهمُك بالحرية وهو يرمي بك إلى العبودية، أو تقعد همّتك عن طلب الحرية لما في طلبها من تضحية، وإمّا أن يتحالف عقلك وهمّتك على إدراك الحرية في جوهرها غير المشوب بتزييف، فتستجيب لإغرائها، وتمضي في طريقها، متحملا في سبيلها كل تكليف.
لذلك يعمد خطاب التنوير في أصله الغربي وفي نسخته العربية إلى استعمال لفظ الحرية طعما لاستدراج الناس إلى ساحته. وربما كان التنوير الغربي معذورا في فعل ذلك؛ إذ التنوير عندهم تحرير للإنسان من غبن الخرافة، وجور الإقطاع، وقهر الكنيسة؛ وهي جميعها عنوان العبودية والتخلف؛ أما «التنوير» العربي فعلاقته بالحرية والتحرر والتحرير كعلاقة اللئيم بالمروءة، والبغيِّ بالعفة، والعاجز بالقوة، والتابع بالأصالة !
لا تكاد تطّلع على كتاب أو مقال مما يتكلّفه أدعياء التحرير والتنوير، إلا وجدت فيه جعجعة عن الحرية بغير طحين، وإغراء بها ولكن إلى حين؛ ولا تكاد تقرأ اسما لهيئة فكرية أو ثقافية أو سياسية تتدثّر بدثار التنوير والحداثة، إلا وجدت لفظا من عائلة الحرية المزعومة حاضرا فيه؛ فإذا لم تجد ذلك في الاسم وجدته مترددا في الخطاب إلى حد الغثاثة !
وإن للحرية ريحا لا أكاد أجد لها شميما في معاطفهم، وسمتا لا أكاد ألمح له ملمحا في مواقفهم، ونبلا لا أكاد أجد له أثرا في عواطفهم؛ وتعالوا أحدِّثْكم عن الحرية التي يدّعون:
-ما من «تنويري» عربي –ودعك من الأتباع الصغار الذين لا يعرفون ما يصنعون- إلا وهو يرى ركنَ تنويريته الأول التمرد على الله، والتجرد من الدين، والتحرر من سلطة الوحي؛ تصريحا حينا وتلميحا أحيانا. يرى ذلك لا عن تفكير حر، ورأي أصيل؛ بل تبعيةً وتقليدا لسيّده في الغرب! وإن تعجب فاعجبْ لمن يتمرد على سيّده الحقيقي صاحب الخلق والأمر: ((أَلَا لَهُ الخَلْقُ والأَمْر))، خضوعا لسيّدِه المزيَّف الذي هو بشرٌ مثله ليس له أيُّ امتيازٍ عليه!
سيتعلل «التنويري» العربي بألوان من العلل، ويحاول التملص من تهمة التمرد على الله؛ ولكن هذا لا يُغيّرُ من واقع الأمر شيئا؛ فدعوته إلى أخراج الدين تماما من نظام الحياة هو تمرد صريح على كلمات الله، والتمرد على جزء من أمر الله تمرد على الدين كله. وليس التمرد هاهنا عنوانا للتحرر كما يتوهمون، وإنما هو وقوعٌ في ألوان من القيد والعبودية لغير الله. وإني أتحدى المتمرد على كلمات الله أن يكمل تمرده على كل ما يتصل بالله، فلا يشرب ماءه، ولا يتنفس هواءه، ولا يخضع للقوانين التي أجرى عليها أرضَه وسماءَه. إنه لا يقدر على ذلك، والسموات والأرض أعقل منه في هذا وأرشد، وأبعد عن القيد والقهر إذ خيّرها الله بين الإسلام له طاعة واختيارا والإسلام كرها فاختارت الطاعة.
– ما من «تنويري» عربي إلا وهو يقف صاغرا فاقدا لحرية التفكير وأصالة النظر واستقلال الرأي أمام ما يقرأه لأعلام الفكر الغربي، لاسيما فيما يتعلق بعلاقة الدين بالحياة، والموقف من الوحي والغيب، وشعارات الحرية والعقلانية والحداثة. إنه يدعو قارئه إلى حرية الفكر وهو تابع لغيره، وإلى حركية الاجتهاد وهو قابعٌ في تقليده، وحين يؤلف كتابا، أو يدبّج خطابا، فإنما هو ينقل ما تشربته عبوديته الفكرية على مدى عقود من القراءة الساكنة المطمئنة، وما تسرّب إلى ذهنه وضميره وهو يوالي الإعجاب بالآخر واعتقاد صوابه والركون لرأيه. وليس بمثل هذه التبعية تنال الحرية، ولا في مثل هذه الأجواء من التسليم بوصاية الآخر تنشأ ثقافة الحرية والتحرر.
– ما من «تنويري» عربي إلا وهو يرى الحرية من الزاوية التي تخدم عبوديته لأهوائه وغرائزه. إن عجز «التنويري» العربي عن مقاومة ما تدعوه إليه نفسه من السقوط في وحل اللذائذ المحرمة دون حسيب، أو دون تأنيب ضمير، يدفعه –واعيا بذلك أو غير واع- إلى اتخاذ لباس الحرية غطاء لعجزه، وتبرئة لسقوطه. فهو يرتكب كل الموبقات باسم الحرية. ثم هو في الغالب يدافع عن الأنظمة الاستبدادية الفاتكة بالحرية؛ وإذا عارضها فلأنه لم يستفد منها، وليس لأنه عاشق للحرية. فأين أنتم من الحرية والتحرير، يا أدعياء التنوير؟