يومان من شهر مايو بين منهجية الإحياء ووحشية الأعداء
أ.د. عبد الرزاق قسوم
رئيس جمعية العلماء المسلمين الجزائريين/
هما يومان من أيام شهر مايو، المليئة بالأحداث والعبر، والمُحيلة للمعاني والصور.
أما أولهما فهو يوم الخامس من مايو، الذي يرمز إلى الحدث المزلزل الذي حصل منذ واحد وتسعين سنة، وتحديدا يوم 05 مايو عام 1931، الذي شهد ميلاد أم الجمعيات الأساس، وخير جمعية أخرجت للناس، جمعية العلماء المسلمين الجزائريين.
لقد استهلت هذه الجمعية صارخة بمنهجية الإحياء، مؤذّنة في الجزائريين بشعارها الثلاثي المقدس، الذي غدا رمزا لثوابت الأحياء من الجزائريين الأصلاء، ممثلا في تعميق الانتماء، وهو الإسلام ديننا، والعربية لغتنا، والجزائر وطننا.
أما الحدث الثاني فقد رمز إليه الثامن من مايو، عام 1945، هذا الذي جاء شاهدا على وحشية الفرنسيين المحتلين الأعداء.
ولئن كان يوم الثامن من مايو، هو مأساة نهاية الحرب العالمية المدمرة، التي زرعت الهدم في الربوع، وفي أعين الثكالى والأرامل، الحزن والدموع، لئن كان ذلك كذلك، فإنه مثل بالنسبة للجزائريين المقدمة السليمة للجهاد الحاسم بيننا وبين العدو الاستعماري الغاشم.
ففي الوقت الذي كان العالم يحتفل بنهاية الحرب العالمية، فيزرع الأمل، في إعادة البناء والعمل، أبى الاستعمار الفرنسي في الجزائر إلا أن يذيق شعبنا جزاء ما قدمه من ضحايا في حرب لا ناقة له فيها ولا جمل، أبى إلا أن يذيقه ألوانا من القتل الهمجي، والتنكيل الوحشي في أكثر من موطن من وطننا، كقالمة، وسطيف، وخراطة، التي لا تزال مقابرها، وشوارعها، شاهدة على ما دهى الاستعمار به جماهيرنا، ولا ذنب لها إلا أنها أرادت أن تحتفل كباقي العالم بنهاية الحرب، مذكرة هذا العدو الذي أنجدته في زمن الشدة بأن لها قضية، هي قضية وطننا الذي يطمح إلى تحقيق أمله في الحرية، شأنه شأن أية بهيمة.
ولقد ألهم الله، إمامنا محمد البشير الإبراهيمي بثاقب حكمته، وبراعة حنكته، إلى وضع معادلة لهذا الصدام الذي يرمز إلى علاقة الحرب بالاستعمار، فصاغها على النحو التالي:
اثنان قد خلقا لمشأمة الاستعمار والحرب؛ ولحكمة ما كانا سليلي أبوة، لا يتم أولهما إلا بثانيهما، ولا يكون ثانيهما إلا وسيلة لأولهما؛ وقد تلاقت يداهما الآثمتان في هذا اليوم في هذا الوطن، هذا مودع إلى ميعاد، فقعقعة السلاح تحيته، وذلك مزمع أن يقيم إلى غير ميعاد، فجثث القتلى من هذه الأمة ضحيته. [آثار الإمام الإبراهيمي ح.3 ص333].
وكانت نتيجة هذه المعادلة «أن الاستعمار العاتي، يتحدى العقول لأنه عدوها، والشرائع لأنها عدوه، فلا يقوم (هذا الاستعمار العاتي) إلا على قتل غير القاتل، ويغلو في التأله الطاغي، فيتحدى خالق العقول، ومنزل الشرائع، وينسخ حكم الله بحكمه، ورحمة الله بقسوته، فيقتل الشيوخ، والزمنى، والنساء والأطفال».
أرأيت –يا قارئي العزيز- المقارنة العجيبة بين الخامس من مايو، الذي شهد ميلاد جمعية العلماء المسلمين الجزائريين، مبشرة الأحياء بالإحياء، فبثت فيهم روح العلم، وحب العمل، وإرادة العزم والحزم، وبين هذا الأخطبوط العجيب، والغريب، الذي يقتل في الناس كل إرادة، ويستأصل منهم كل الصالح من العبادة، فيحرمهم من كل ما يرمز إلى السيادة، وما قد يؤهلهم إلى القيادة.
وعندما يستعرض شعبنا اليوم، آثار التاريخين، سيكتشف، أن منهجية الإحياء التي ولدت مع ميلاد جمعية العلماء، قد كانت السجل الخالد والطويل المدى للمقاومة، وأن وحشية الثامن من مايو على ما أحدثته من فضاعة، فقد كانت البسملة الحقيقية لكتاب المقاومة الذي دشن فصوله الأولى جهاد نوفمبر.
ذلك أن مجازر الثامن من مايو، قد حررت جماهيرنا نفسيا من الخوف، والجبن، وخلقت فيها روح التحدي للعدو، وعقد العزم على الإعداد والإستعداد لمقاومته، وهزمه، وقد نجحت في ذلك والحمد لله.
فاليوم ونحن نحيي ذكرى اليومين التارخيين نذكر شعبنا، ولا سيما الجيل الصاعد منه، بأن رب ضارة نافعة، «وعسى أن تكرهوا شيئا وهو خير لكم»، فبطش الاستعمار الأعمى، ومصباح الإحياء الأجدى قد مكنا شعبنا من النهوض من سباته، وإزالة الغشاوة عن بصره وبصيرته، فانطلق، يعد العدة ليوم الخلاص، من عدو لا يفهم إلا لغة الرصاص والقصاص.
إن ميلاد جمعية العلماء المسلمين الجزائريين –إذن- قد كان بمثابة الغيث النافع الذي ساقه الله إلى أرض كانت تعاني الجفاف الفكري، والقحط الثقافي، والعطش السياسي، فأنبتت الكلأ، والعشب، وبعثت الأمة في رحلة جديدة إلى الحياة.
من هنا كان لا بد، ونحن نستهل شهر مايو الذي يصاحبه شهر شوال، لا بد أن نضع كل هذه الأحداث في السياق الزمني المناسب والمطلوب.
فذكرى الخامس من مايو، هي بالإضافة إلى ذلك عيد ميلاد جمعية العلماء المسلمين الجزائريين، وهي أيضا ذكرى استشهاد رمز المقاومة، الحاج محمد المقراني [ 05 مايو 1871] ويا لها من صدفة نافعة وشافعة.
كما أن شهر مايو الذي وصفه المفكر التونسي الأستاذ محمد كرّو، بأنه شهر الدماء والدموع.
إن هذا الشهر يمثل حقا، سلسلة من الأحداث ففيه يوم الخامس عشر من مايو، الذي يذكرنا بالقضية الفلسطينية، هذا الجرح النازف الذي لا يزال إلى اليوم، يقض مضاجع كل المسلمين الصادقين.
كما أن يوم التاسع عشر من مايو، يحيلنا إلى يوم الطالب، الذي وعى فيه شبابنا، بأن الدراسة في عهد الاستعمار، والمقاومة دائرة، قد أصبحت دون جدوى، فهجر قاعات الدراسة، إلى ساحات المقاومة والجهاد والمِراسة.
وتلى يوم الطالب يوم الأستاذ أي يوم 20 مايو 1965، يوم وفاة عالم الجزائر، ومحيي نهضتها الإمام محمد البشير الإبراهيمي، الذي كانت وفاته أذانا في القلوب والعقول، بضرورة تجسيد منهجية الإحياء، التي نادى بها العلماء.
فبمزيد من الحزم، والعزم، وبكثير من الإخاء والوفاء، يواصل أبناء وبنات جمعية العلماء الجهاد لتحصين الذات ضد الذوبان، وتوعية المواطنين والمواطنات بضرورة المساهمة في بناء جزائر جديدة في ضوء منهجية الإحياء التي هي الأمل في كل بناء وإعلاء.