هل فقد الموت معناه وما عاد أحد يهتز له أو يخشاه؟/ محمد العلمي السائحي
يبدو أنّ الإنسان في هذا العصر لم يعد يربأ بالموت أو يبالي به، وبات لا يعني له شيئا، ولا يحرك منه ساكنا، اللهم إلاّ إذا أصاب أحداً هو على صلة عائلية به، أما إذا داهم شخصاً آخر داخل مجتمعه أو خارجه، فهو لا يهتز له، ولا يتأثر به، ولا يثير فيه مشاعر الحزن أو الرحمة، وكأن القلوب تحجرت، واعترتها قسوة شديدة، جعلتها عاجزة عن الاستجابة لهذا الحدث، بما يتفق معه من مشاعر الحزن، والرقة، والرأفة، والرحمة، فمثلا ها هو الإعلام ينقل لنا يوميا أن الموت يحصد الألاف بل الملايين في أماكن مختلفة من العالم، بسبب الحروب التي نشبت هنا أو هناك، أو بفعل الأوبئة الفتاكة، مثل الكوليرا، أو الخناق، أو الكوارث، الطبيعية كالزلازل والبراكين، والفيضانات والأعاصير، أو نتيجة الفقر وما يترتب عنه من سوء التغذية، الذي أودى بآلاف الأطفال في آسيا وإفريقيا، كما هو الشأن اليوم في اليمن، ومع ذلك لا نرى تجاوبا مناسبا يصدر من هنا أو هناك، يؤكد التجاوب الإنساني مع الضحايا، بما يكفل التضامن معهم والتكفل بذويهم، فلم تبلّدت الأحاسيس، وتحجّرت المشاعر، وقست القلوب، حتى ما عادت تستجيب لهذا الحدث الجلل، وما بات يحرك فيها دواعي الألم، أو مشاعر الأسى والحزن؟
لعلّ ذلك يرجع إلى عامل الألفة والاعتياد، حيث أن عصرنا هذا قد تميز عن سابقه، بكثرة الحروب واستخدامها لأسلحة شديدة الفتك، تحصد الأرواح حصدا، وهذا ما تشهد به وقائع هذه الحروب الدائرة في الساحة العربية اليوم، أو ما جرى في الفلبين وفي بورما من فتك فظيع بالمسلمين هناك، فجعل تكرار حدث الموت يغدو حدثا معتادا ومألوفا، فأفقده ذلك قدرته على التأثير وابتعاث مشاعر الأسى والحزن، من حيث أن العادة تقتل الإحساس، كما دلت على ذلك الأبحاث النفسية.
ولعل ذلك يرجع إلى التكييف النفسي الذي خضع له الإنسان، عن طريق ملاحقته بأفلام الأكشن وألعاب العنف، مما غير من نظرته للموت وغير من موقفه منه، وجعله ينظر لهذا الحدث وضحاياه، النظرة نفسها لضحاياه التي يسقطها في ألعابه، فالموت الحقيقي، بات عنده صوري غير فعلي، ولذلك ما عاد يتجاوب معه، ويتأثر له.
أو لعل ذلك راجع إلى تراكم مشاعر الألم على الإنسان في هذا العصر بفعل تتابعها وتواليها عليه ممل لم يترك مكانا لمشاعر جديدة، وقد رأينا كيف أن الناس الذين يحيون في سوريا والعراق واليمن وليبيا وفلسطين، حيث نشاهد الموت يعصف بمئات الأرواح كل يوم، لم تعد الاستجابة النفسية للموت هي نفسها لمن يعتبر حدث الموت بالنسبة له حدثا استثنائيا، لأنه لا يحدث بوتيرة متواصلة ومتتالية على مرّ الأيام والليلي، بل على مرّ الدقائق والساعات.
لكن مهما كان الأمر تبلد الأحاسيس وتكل س المشاعر وتحجر القلوب إزاء هذا الحدث الجلل، الذي كان إلى وقت قريب يهزنا من الأعماق لا يخلو من دلالة، لابد من التوقف عندها والتأمل فيها، لأن فقد الإنسان القدرة على الإحساس بالألم، والاستجابة له، والتجاوب معه، يعني أن هذا الإنسان لم يعد قادرا على التواصل وهو بهذا الوضع لا ننتظر منه أن يتضامن مع الغير وما عاد يعول عليه في منح العون أو بذل المساعدة وهذا يعني أن المجتمعات التي يتواجد فيها مثل هؤلاء الأفراد باتت معرضة للتفكك والانهيار.
وهذا ينتهي بنا إلى أنه بات من الضروري أن نراجع أنفسنا وأن نعمل على تصحيح هذا الوضع، فليس من الطبيعي إطلاقا أن يموت الناس من الجوع في اليمن، أو يموتون من التجمد في سوريا، أو تتم تصفيتهم بالقصف أو بالسلاح بكل برودة هنا وهناك، ولا نحرك ساكنا، وكأن الأمر لا يعنينا، إن ذلك يعني أننا جردنا من إنسانيتنا تماما وذلك وضع ينبغي أن نرفضه بشدة وحزم.