الشيخان السنوسيان في ملتقى تلمسان*/ الأستاذ الدكتور عبد الرزاق قسوم
تحولت مدينة تلمسان، وهي مدينة الأمن والأمان، والعلم والإيمان، والأدب والبيان، إلى قبلة للقلب واللسان، والعقيدة والبرهان.
يزينها عالمان جليلان هما السسنوسيان، مصلحا العقيدة والجنان، وبانيا نهضة الأوطان والإنسان.
لقد ازّينت تلمسان بجمال سهولها ووديانها، واخضرار نجودها وشطآنها بطبيعتها الخصيبة، وهضابها الجميلة، ففتحت لزائريها معالمها، ومجامعها، ونواديها وجوامعها.
أمّ تلمسان -إذن- بمناسبة ملتقى الشيخين ثلة عجيبة من علماء الأمة، وأقاليمها البعيدة والقريبة، فصنعوا في دار ثقافتها الفسيحة والجليلة، صنعوا مشهدا علميا فسيفسائيا، امتزج فيها علماء المغرب العربي الإسلامي مع علماء جمعية العلماء من كامل أنحاء الوطن الجزائري.
ومن وحي جمال طبيعة تلمسان الجميلة، ومن إلهام مشهد علماء دار الثقافة الجليلة، جاءت هذه الكلمة الافتتاحية مخاطبة الجميع بهذه العبارات.
فيا أصحاب السماحة، والفضيلة، والمعالي، ضيوف الجزائر الأجلاء، ويا أصحاب السعادة، ممثلي السلطات الوطنية، والولائية، والأمنية، والإعلامية الفضلاء.
ها نحن في رحاب العلم والعلماء، وفي ظلال عالمين جليلين، هما الشيخان محمد بن يوسف السنوسي، ومحمد بن على السنوسي، نقيم ملتقى الشيخين في طبعته الثالثة، فنخصصه لمنهجية الصلاح والإصلاح، والنهوض بالأوطان والإنسان، وإصلاح العقل واللسان بمنهج العلم والإيمان، والتجديد والإتقان.
ولقد وفق القائمون في جمعية العلماء المسلمين الجزائريين، يتقدمهم العالم العامل بعلمه، فضيلة الشيخ ابن يونس آيت سالم إمام دار الحديث، وفقوا في اختيار السنوسيين لموضوع الملتقى، لما لهما من رمزية علمية، وإصلاحية لتوحيد منطقة المغرب الإسلامي على تديّن صحيح، وخطاب إسلامي فصيح، يعنى بإصلاح التصوف في نقائه وصفائه، وحسن عطائه، وتصحيح العقيدة الإسلامية السديدة في سماحتها الحميدة، وأخلاقها الرشيدة وقيمها المجيدة.
وقد دعوْنا لمعالجة هذا الموضوع الضارب بعمق في باطن واقعنا، وهو التجديد في ظل المنهج الإسلامي القويم كما جسده الشيخان السنوسيان، دعونا كوكبة من أقطاب العلم في الغرب الإسلامي، منهم من لبى النداء، وهم اليوم بيننا، نقول لهم: حللتم أهلا، ووطئتم سهلا في مدينتكم تلمسان، وفي الجزائر بلدكم، الذي هو بكم قد ازدان.
ولكن هناك من حالت دون حضورهم معنا، ظروف صحية أو مهنية من أمثال العالم العلامة الشيخ مصطفى بن حمزة من المغرب الشقيق، والعالم العلامة الشيخ محمد الحسن ولد ددُّو من موريتانيا الشقيقة، والعالم العلامة الشيخ علي الصلابي من ليبيا الشقيقة، شفاهم الله جميعا.
كما غاب لظروف مهنية كل من العالم العلامة مفتي موريتانيا الشيخ ولد امبالة، والعالم الباحث الجاد، أخونا الدكتور عبد المجيد النجار من تونس الشقيقة، وأختنا الفاضلة المجدة نزيهة معاريج من المغرب الشقيق، وفق الله الجميع وسدد خطاهم.
أيها الإخوة، أيتها الأخوات الأفاضل؛
إن هذه السُنة الحسنة التي دأبت عليها جمعية العلماء، تنظيم ملتقى دولي بهذا المستوى، لهي سنة تمثل إحياء لقيمة الوفاء للعلماء، الذين أضاءوا منهج السلف، ليصبح نورا يهتدي به الخلف.
والشيخان مصطلح عميق في ثقافتنا الإسلامية، عميق في باطننا الثقافي، يبدأ بالشيخين الجليلين، الخليفتين أبي بكر الصديق وعمر بن الخطاب، ليمتد فيما بعد إلى الشيخين الجليلين في الحديث وهما البخاري ومسلم، ليصل إلى الشيخين الصالحين المصلحين، وهما عبد الحميد بن باديس ومحمد البشير الإبراهيمي. وهاهو المصطلح يطال اليوم، الشيخين الجليلين السنوسيين، محمد بن يوسف، ومحمد بن علي.
إنه الوفاء للعلماء الأتقياء، الأصفياء الذين وضعوا بصماتهم في مسيرة الأمة الإسلامية، للنهوض بها من هوة السقوط، بتجديد الفهم الديني للتدين الإسلامي الصحيح.
وكم تحتاج أمتنا اليوم لمنهج الشيخين للقضاء على تيارين تعاني منهما أمتنا، وهما تيار الغلو، والتشدد والتنطع، وهو تيار أجنبي ينفث خطابا دخيلا على عقيدتنا، يضيّق واسعا، ويمنع مباحا، ويكفّر مخالفا.
والتيار الآخر الذي تعاني منه أمتنا بنفس الخطورة، هو تيار مضاد ومعاكس، إنه تيار التسيب، والانحلال، والدوس على القيم، إنه التيار المنسلب الذي اتخذ إلهه هواه، فهو لا يستند إلى علم، ولا يعتمد على مرجعية، ولا يقتدي بإمام، إنه كشجرة في مهب الريح تميل حيثما مالت أهواؤه وأطماعه.
على أن الفاحص المدقق، والباحث المحقق لواقع أمتنا اليوم، يدرك مدى الحاجة إلى منهج التجديد، والنهوض، والتصويب والتصحيح لأسلوب التعامل في أمتنا لفقه الدين وفقه الفقه، لعلمائنا، وشبابنا، ومواطنينا، والقائمين على الشأن عندنا، لتصحيح الذهنيات، والقضاء على الغلو والتشدد في الفقهيات والمعاملات، وكل أنواع العنف اللفظي والمعنوي في العلاقات.
فيا علماء أمتنا؛
إن أمانة العلم المنوطة بكم، وثقل المسؤولية الملقاة على عاتقكم، لتناشدكم العمل لتخليص أمتنا، وشبابها، مما تعانيه من شتات، وتقاتل، وتجزيئات.
لقد حمّلكم الله أمانة الدين، لتبيينه للناس ولا تكتمونه.
فالجيل الصاعد من أبنائنا وبناتنا هو أمانة في أعناقكم، والبيت المسلم وديعة في ضمائركم، والمنظومة التربوية والاجتماعية كلها تسائلكم، أن أفيضوا عليهم من العلم، ومن حسن الفهم مما يجعل أجيالنا تتجدد ولا تتبدد، وتجعلها تتوحد ولا تتعدد، وتصان ولا تهدد.
ولقد وفت تلمسان بواجبها بفضل عزم وحزم أبنائها وبناتها، وبتشجيع من واليها المصلح ومساعديه، وهاهي قد وضعت كل التسهيلات المادية والمعنوية لتفسح للعلماء المجال، وتمكنهم من تقديم أفضل الحلول لفقه المآل.
وكلنا ثقة في أن تعاون الجميع سوف ينتج ولادة الأمل، الذي يُترجم إن شاء الله إلى عمل، فعسى أن تكون تلمسان هي محيية الأمة اليوم كما كانت بالأمس.
فإلى كل الجهود التي بذلت، والأموال التي صرفت، والطاقات التي جندت، ندعو الله أن تعوض بأحسن الجزاء، وأن يكون ذلك كله، نموذجا في حسن الاقتداء.
وفقكم الله، وسدد خطاكم، وحقق في الصالحات مبتغاكم.
* الكلمة الافتتاحية التي ألقيت في ملتقى الشيخين بتلمسان.