رمضانيات

في “البهجة”، رمضان الصائمين…دُنيا ودين

فوزي سعد الله */

كان رمضان “البهجة” بهجتيْن… بهجة التقرب إليه الله عز وجل بالصيام في النهار، وبهجة السهرات الجميلة التي تمتزج فيها التَّسَابِيح والذِّكْر بالمساجد بأنغام النوبات الأندلسية و”الحوازة” و”العروبيات” بالمقاهي الشعبية وبأفنية الديار والقصور والجِنان والبساتين. كانت حياة الناس جميلة ومتوازنة ببساطتها وعفويتها إلى الحد الذي جعل الأوروبيين يعتبرونها ساذجة… لكن هذه “السذاجة” أثارت الإعجاب وانتزعت الاحترام، وهناك مَن جاء من أوروبا ومن غيرها خلال العهد العثماني واختار العيش ضِمْنَها كغيره من الجزائريين. ولعل هذه البساطة العفوية في العيش هي التي سمحت للمدينة بالتكفل بفقرائها والغرباء وعابري السبيل طيلة شهر رمضان في أجواء تضامنية رحيمة.

إفطار الفقراء
كلما صَدحتْ صوامعُ المساجد بآذان المغرب، تهدأ المدينة وترتاح من عمل وصخب النهار ريثما ينتهي الصائمون من تناول وجبة الإفطار، فتنقطع الحركة والنشاط في السوق الكبير الذي يمتد من باب عَزُّون حتى حَوْمَة الـ: “زُوج عْيون” عند باب المدينة الشمالي المعروف بـ: “باب الوادي” لمحاذاته لمصب وادي “المْغَاسل” أو “وادي قُرَيْش” في شاطئ “قاع السُّور.
كلما نودي بموعد الإفطار بالآذان وبطلقة مدفعية من دار السلطان في حومة الباب الجديد في المرتفعات الجنوبية الغربية لـ: “بهجة” سيدي عبد الرحمن الثعالبي، يَصمتْ حَيّ القيسارية، حي النخبة والمثقفين، وما جاوره من الأحياء و”الزّنَيْقات” الخاصة بالحِرَف وأصحابها كالورَّاقين والصياغين والمْقايْسيَّة والنَّحَّاسِين والبّشْماقْجِية والقُنْدَقْجِية وغيرها، التي كانت منتشرة بكثافة في وسط ما يُعرَف اليوم بـ: ساحة الشهداء، وتُمْسِكُ هذه الفضاءات عن الكلام وكأن الطَّيْرَ على رؤوسها حتى ينتهي أهل المدينة من الأكل والشراب لتتدفق مجددا حيويةً ونشاطا في سهراتٍ عذبة لا تنتهي عادة إلا بآذان الإمساك وصلاة الفجر.
مع بداية الآذان، يكون الفقراء والغرباء، الذين نُسَمِّيهم في عصرنا “المُشَرَّدِين”، قد حجزوا أماكنهم إما في الملاجئ العامة، كملجأ “بو الطويل”، المعروف أيضًا بـ: “المَارْسْتَان”، الواقع آنذاك أسْفل ضريح سيدي عبد الرحمن الثعالبي أو في الأضرحة والزوايا العديدة، المنتشرة داخل المدينة وعلى أطرافها وفي ضواحيها، المعروفة بخدماتها الخيرية الإنسانية الجليلة، وحتى في مختلف المساجد والجوامع الكثيرة العدد والتي تفوق 100 جامع ومسجد، لتناول حقهم من وجبات الإفطار التي يتبرع بها المحسنون والكرماء من أثرياء المدينة وضواحيها في سبيل الله والذين لم يكن عددهم أبدًا بالقليل…
لم يكن يدوم هذا الطقس الرمضاني، الإفطار، أكثر من ساعة لتعود الحيوية إلى المدينة وسكانها في أجواء بهيجة تبعث الحياة والانبساط من جديد في قلوب الناس حتى طلوع الفجر.
كان يتقاسم السَّهرات الرمضانية في مدينة الدَّايات وريّاس البحر المجاهدين كلٌّ مِن المساجد والزوايا والمقاهي الشعبية والرَّحْبات والساحات العامة والشوارع الضيقة الملتوية في قلب المدينة وأطرافها وفي الأسواق وحتى داخل الدِّيار والقصور بين أسوار المدينة وخارجها في جِنان الفحوص المحاذية كفحص باب عزون وفحصيْ باب الوادي والباب الجديد…
في مقاهي “البهجة”…
بعد الذكر والصلاة…
وإذا كان أغلب السكان يبدؤون بالصلاة في المساجد المالكية، مثل الجامع الكبير وجامع سيدي رمضان، والحنفية كالجامع الجديد وجامع صَفَر، الذي يُنطَق اليوم “سَفير”، وجامع “كَتّْشّاوَة” وجامع علي بتشين وجامع السيِّدة، الذي كان الدايات والباشوات يفضلونه عن غيره لِقُرْبِه من قصر الجُنَيْنة، مقرّ الحُكْم، الذي كان ملاصقا لـ: “دار عزيزة” الحالية، فإن عددا آخر كان مدمنا على المقاهي وحتى على عدد محلات الحِلاقة التي كانت تلعب دورا ثقافيا واجتماعيا لا يقل عنها أهمية.
في “قهوة العْزَارَة” و”قهوة البُوزَة” في باب عزون و”قهوة العْرِيش” بالباب الجديد و”قهوة بجاية” و”القهوة الصغيرة” و”القهوة الكْبيرة”، أكبر المقاهي آنذاك بمدينة الجزائر وأجملها وأفخمها على الإطلاق والتي كانت تقع بمحاذاة الجامع الكبير ضمن مجموعة من نظيراتها، كان أهل البهجة يُغذون أنفسَهم بالموسيقى والغناء والرقص ويتابعون أيضا قصائد المداحين بخشوع إلى حد الإجهاش بالبكاء، لم يَقِلّ جدًّا وروحانيةً عن أجواء التسبيح والذِّكْر والترتيل والتجويد التي كانت سائدةً داخل المساجد والزوايا حتى ساعات متأخرة من الليل… في هذه وتلك، كانت “بُرْدَة” البوصيري وقصائد كبار رجال الدِّين الشُّعراء في مدينة الرّياس أمثال سيدي محمد بن الشَّاهد وسيدي أحمد بن عمار وسيدي بن علي والشيخ المَانْجَلاَّتِي تحتل صدارةَ القصائد والمدائح النبوية الرائجة والمحبوبة لدى أهل “البهجة”.
ومثلما كانت المساجد والجوامع تؤدي مثل هذه الطقوس الروحية بمجموعة صوتية يقودها البَاشْ قَصَّاد والبَاشْ حَزَّاب وشيخ الحَضرة، حسب مفاهيم ذلك العهد، فإن للمقاهي أيضا مدّاحيها الذين تميزوا باستخدام آلات الإيقاع كالطّرّ والدَّرْبُوكَة والبَنْدِير وبالأداء الصوتي الأكثر تنميقًا وثراءً والأقرب إلى الغناء الدنيوي.
في البيوت والقصور…
نفس هذه الأجواء الروحية والدنيوية، يمكن أن نصادفها داخل قصور الضواحي المسماة حينذاك بـ: الفحوص” وحتى في أفنية قصور وديار مختلف حَوْمات المدينة العتيقة التي نسميها منذ عهد الاحتلال مجازًا بـ: “القصبة”، حيث كانت تجمع الأهل والأحبة والجيران والأصدقاء حول مختلف الطقوس الروحية وأيضًا حول الموائد المزيَّنة بالصِّينِيَات المُتْخَمة بأطباق الباقلاوة والقلب باللوز والتشاراك وعلى أطرافها أكواب الشاي والقهوة في دفئ عائلي وحميمية تبدو اليوم أنها في طريقها إلى الزوال.
الدايات والباشاوات أنفسهم لم يكونوا يصبرون أو يستغنون عن إقامة مثل هذه الجلسات الدينية والغنائية في قصورهم ، لاسيما في منتصف شهر الصيام وفي ليلة القدر، وكانوا يغدقون عليها الأموال حتى تكون في مستوى فخامتهم وجاههم، وكثيرا ما كانوا يتبرعون بتمويل حملة ختن المئات من أبناء الفقراء في أعراس بهيجة صاخبة يتحول وسط المدينة ميدانا لها. وعندما نقول وسط المدينة، فإننا نقصد ساحة الشهداء التي نعرف اليوم التي كانت تحتضن ساحة قصر الجُنينة وحيّ القيسارية والمركز التجاري للحِرف سابقة الذكر وجزءا من شارعيْ باب الوادي وباب عزون حتى شارع الديوان قرب جامع كتشاوة ودار الداي حسان المحاذية وحَمَّام سيدنا…
ومن أبرز الذين كانوا يحيون مثل هذه السهرات الدينية الروحية/الغنائية منذ نهاية القرن 18م، أيْ منذ عهد الداي حسان والداي مصطفى باشا، هم “الأشياخْ” بن سالم والحاج إبراهيم وعْميمرات والوَنَّاسْ قبل أن يخلفهم على عرش الموسيقى في “بهجة” سيدي الثعالبي عبد الرحمن الشيخ عبد الرحمن المْنَمَّشْ المتوفي حوالي عام 1890م ثم تلميذه محمد بن علي سْفِنْجة الذي فارق الحياة عام 1908م.
كانت النساء هُنَّ الأخريات يَقضيْن السهرات الطويلة حول “المْسَمّْعَاتْ”، اليوم نقول “المْسَامْعِيَاتْ”، على غرار نَفِيسَة المَدَّاحَة وفَاطْمَة الكَمَنْجَة، في المدح والغناء والرقص وكذلك حول “البوقالات” الشَّاعِرية سواء أُقِيمتْ في “وَسْطَ الدَّار” أو في “الغْرَفْ” أو بـ: “المْنَاَزْه” في أعلى طابق بتلك الدِّيَار الجزائرية العتيقة أندلسية الروح والطابع المعماري. وكانت تلك الجلسات النسوية تُقام أيضا في حال حلول رمضان في فصل الصيف في الهواء الطلق على السطوح المطلة على البحر الأبيض المتوسط والسفن الراسية في الميناء التي تعكس بِصَواريها وأشرعتها ضياءَ القمر وأنوارَه المتلألئة فوق مياه البحر. كل ذلك في الوقت الذي ينسحب فيه الأطفال إلى “السّْقِيفة” أو إلى شوارع الحَوْمَة ليبتدعوا لأنفسهم ألعابًا ولُعبًا مُسلِّية حسب الإمكانيات المتاحة. ولعل آخر كبار ورثة الفنانات الكبيرات اللواتي أحييْن السهرات الرمضانية وغير الرمضانية خلال نهاية القرن 19م والنصف الأول من القرن 20م هي اللاَّ يَامْنَة بنت الحاج المَهْدِي ابنة قصبة الجزائر ثم الشِّيخَة طِيطْمَة التلمسانية التي طاب لها المقام في هذه المدينة حتى انتهت إلى الاستقرار الدائم بها…
رمضان التزيين
مدينة الدايات والرياس التي كانت تتحول إلى معبد كبير وقاعة ضخمة للحفلات خلال شهر رمضان لم تُقْصِ رعاياها وأسْراها وعبيدها من غير المسلمين من رحمة هذه الأجواء المتسامحة البهيجة وعميقة الروحانية في هذا الشهر المقدَّس حيث كانت لهؤلاء “طْبَرْناتهم” وكباريهاتهم وكنائسهم داخل مقرات إقامتهم المعروفة بـ: “البَانْيُو”، وهي سجون أقْرَب إلى المَراقِد منها إلى السُّجون ولم تكن تختلف في أشكالها عن ديار وقصور المدينة، وذلك تحت أعين المُحتسِب وشيخ البلد الضابطة للنظام العام، حيث يغنون ويرقصون ويَسْكرون ما شاؤوا ما داموا يلتزمون بعدم إزعاج الناس أو استفزاز المتعبدين الصائمين. وكان أحد أبرز هذه البانيوهات سجن باب عزون الذي كان يقع تقريبا في وسط الشارع الذي يحمل هذا السم اليوم…
ومع اقتراب موعد السحور والإمساك، يكون قد نال من البهجة الجهد والعياء، فتستعيد سكونها وهدوءها وتستعد للإغفاء. حينها، تصمت الآلات عن الأنغام وتسكت الأصوات عن المدح والدعاء، ولا يبقى في الشوارع والرحبات سوى ما تيسر من الأضواء، التي تنير بها الفوانيسُ هذه الأحياء، وأنوار الجوامع والمساجد والفنار في الميناء، الهادية لكل مَن اقترب بقواربه أو بسفُنه من ساحل مدينة الرياس والأتقياء، لتقول لهم إن “بهجة” سيدي الثعالبي في عيد وفي فرحة بشهر رمضان، وإن نامت بعد جهد وعناء فإنها تترقب بشوق حلول السهرة الموالية بعد المساء…
* كاتب ومهتم بالتاريخ والتراث الوطني مقيم بباريس

اظهر المزيد
زر الذهاب إلى الأعلى

مرحبا بكم في الموقع الرسمي لجريدة البصائر

 

تفتح جريدة “البصائر” صفحاتها للأساتذة الجامعيين والمؤرخين والمثقفين، لنشر إسهاماتهم في شتى روافد الثقافة والفكر والتاريخ والعلوم والأبحاث، للمساهمة في نشر الوعي والمبادرات القيّمة وسط القراء ومن خلالهم النخبة وروافد المجتمع الجزائري.

على الراغبين والمهتمين إرسال مساهماتهم، وصورة شخصية، وبطاقة فنية عن سيرهم الذاتية، وذلك على البريد الالكتروني التالي:

info.bassair@gmail.com