رمضانياتمعالجات إسلامية

الاجتهاد في العشـر الأواخـر من رمضـان… وليلة القدر

د. يوسف جمعة سلامة*/

أخرج الإمام مسلم في صحيحه عَنْ عَائِشَةَ – رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا- قَالَتْ: (كَانَ رَسُولُ اللَّهِ – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَجْتَهِدُ فِي الْعَشْرِ الأَوَاخِرِ مَا لا يَجْتَهِدُ فِي غَيْرِهِ).
هذا الحديث حديث صحيح أخرجه الإمام مسلم في صحيحه في كتاب الاعتكاف، باب الاجتهاد في العشر الأواخر من شهر رمضان.
من المعلوم أننا نعيش في ظِلاَلِ العشر الأواخر من شهر رمضان المبارك، هذا الشهر الذي جعله الله سبحانه وتعالى سَيِّد الشهور، وأفاض فيه الخير والنور، إذْ بارك الله سبحانه وتعالى أيامه ولياليه وضاعف فيها المَثُوبة والأجر وجعلها موسماً للعبادة، وخصّ العشر الأواخر من أيامه ولياليه بمزيدٍ من الفضل ترغيباً في إحياء هذه الليالي المباركة والإكثار فيها من التَّقَرُّب إلى الله بالذّكر والصلاة وتلاوة القرآن وفعل الخيرات والطاعات، كما جاء في الحديث عَنْ عَائِشَةَ – رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا- قَالَتْ (كَانَ النَّبِيُّ – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- إِذَا دَخَلَ الْعَشْرُ شَدَّ مِئْزَرَهُ، وَأَحْيَا لَيْلَهُ، وَأَيْقَظَ أَهْلَهُ)، ومعنى شَدَّ مئزره: هو كناية عن الاستعداد للعبادة والاجتهاد لها زيادة عن المُعْتاد، وقيل هو من ألطف الكنايات عن اعتزال النساء وترك الجماع، وقالت- رضي الله عنها- أيضاً : (كَانَ رَسُولُ اللَّهِ – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَجْتَهِدُ فِي الْعَشْرِ الأَوَاخِرِ مَا لا يَجْتَهِدُ فِي غَيْرِهِ).

الاعتكاف في العشر الأواخر من رمضان
إِنَّ الاعتكاف من السُّنَن العظيمة التي شُرعت في الإسلام، وقد أجمع المسلمون على أنّ الاعتكاف فضيلة ينبغي لِلْمُسلم أن يقوم بها متى كان قادراً على ذلك، لأنّ الاعتكاف يزيد النفس الإنسانية صفاء ونقاء وَحُسْن صلة بالله عزَّ وجلَّ، فقد ورد أنّ رسول الله – صلّى الله عليه وسلّم – قام بإحياء العشر الأواخر من شهر رمضان، حيث اعتزل نساءه فيها وتفرَّغ لعبادة رَبِّه، وأيقظ من يستطيع القيام من أهله ليشاركوه في إحيائها، التماساً لليلة القدر التي هي خير من ألف شهر.
ومن المعلوم أنّ آخر شهر رمضان أفضله لأنه خاتمة العمل، والأعمال بخواتيمها، ولذا خُصَّت العشر الأواخر بوظائف خاصة، منها: طلب الاعتكاف، وقيام الليل، وإيقاظ الأهل، واعتزال النساء، والإكثار من الدعاء كما جاء في الحديث الشريف: (أَنَّ النَّبِيَّ – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- كَانَ يَعْتَكِفُ الْعَشْرَ الأَوَاخِرَ مِنْ رَمَضَانَ حَتَّى تَوَفَّاهُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ، ثُمَّ اعْتَكَفَ أَزْوَاجُهُ مِنْ بَعْدِهِ).
فعلينا أن نُشَمِّر عن ساعد الجدّ، ونغتنم هذه الأيام والليالي المباركة المُتبقية من العشر الأواخر من هذا الشهر المبارك، للإكثار من الطاعات والقُربات وفعل الخيرات.

ليلـة القـدر خيرٌ من ألف شهر
ما فضل ليلة القدر؟: ليلة القدر تحدّثت عنها سورة بأكملها سُمِّيت باسمها، كما تحدّث عنها الرسول –صلّى الله عليه وسلّم – فقال: (مَنْ قَامَ لَيْلَةَ الْقَدْرِ إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ)، فهي ليلة عظيمة الشأن، فهنيئاً لمن قامها حقّ القيام.
هل ليلة القدر باقية أم رُفعت؟: إنها باقية، وإلا لَمَا كان هناك داعٍ إلى الحَثّ على طلب تحرّيها، فقد وردت عِدَّة أحاديث تدعو إلى تحرّيها، منها قوله –صلّى الله عليه وسلّم – (تَحَرَّوْا لَيْلَةَ الْقَدْرِ فِي الْعَشْرِ الأَوَاخِرِ مِنْ رَمَضَانَ)، ولا فائدة في تحرّي ما هو مرفوع.
ومن المعلوم أنّ ليلة القدر مكرمة من الله سبحانه وتعالى للأمة الإسلامية، فقد خَصّها بهذا الفضل الكبير، وحيث إِنّ هذه الأمة أَقْصَرُ الأُمم أعماراً، وأقلّها أعمالاً!!، بينما غيرهم من الأُمم السابقة كانوا أطول أعماراً وأكثر جهاداً، فأكرمهم الله بهذه الليلة التي هي في جُملتها تساوي ما يزيد على ثمانين سنة، وقد تناقل السّلف الصالح رؤيا هذه الليلة مِمّا يَدُلّ دلالة واضحة على استمرار هذه المكرمة الربانية لهذه الأُمّة.
ما وقت ليلة القدر؟: لقد أخفى الله ليلة القدر لِحَثّ المؤمنين على الاجتهاد في طلبها وإحيائها بالعبادة والطاعة، وقد اختلف العلماء في وقت تحديدها حيث وردت عِدّة أحاديث في ذلك، منها قوله – صلّى الله عليه وسلّم -: (تَحَرَّوْا لَيْلَةَ الْقَدْرِ فِي الْعَشْرِ الأَوَاخِرِ مِنْ رَمَضَانَ)، وأرجى وقت تُلتمس فيه ليلة القدر هي ليلة السابع والعشرين من شهر رمضان للأحاديث الواردة ، ومنها: قوله –صلّى الله عليه وسلّم -: (مَنْ كَانَ مُتَحَرِّيَهَا فَلْيَتَحَرَّهَا فِي لَيْلَةِ سَبْعٍ وَعِشْرِينَ)، وكذلك ما رُوي عن أُبيّ بن كعب- رضي الله عنه- أنه قال: (وَاللَّهِ الَّذِي لا إِلَهَ إِلا هُوَ، إِنَّهَا لَفِي رَمَضَانَ – يَحْلِفُ مَا يَسْتَثْنِي -، وَوَاللَّهِ إِنِّي لأَعْلَمُ أَيُّ لَيْلَةٍ هِيَ، هِيَ اللَّيْلَةُ الَّتِي أَمَرَنَا بِهَا رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بِقِيَامِهَا، هِيَ لَيْلَةُ صَبِيحَةِ سَبْعٍ وَعِشْرِينَ، وَأَمَارَتُهَا أَنْ تَطْلُعَ الشَّمْسُ فِي صَبِيحَةِ يَوْمِهَا بَيْضَاءَ لا شُعَاعَ لَهَا)، كما استنبط ذلك من عدد كلمات السورة، فقال: ليلة القدر تسعة أحرف وقد أُعيدت في السورة ثلاث مرات فذلك سبع وعشرون، وهذا ما أخذَ به الأكثرون.
إذا هَيَّأَ الله لي ليلة القدر فماذا أقول؟: إذا هَيَّأ الله سبحانه وتعالى للمسلم ليلة القدر فعليه أن يَتَّبِعَ ما أرشدنا إليه رسولنا – صلّى الله عليه وسلّم -، كما رُوِي عن أمّ المؤمنين عائشة – رضي الله عنها – قالت: قلتُ: يا رسولَ اللَّهِ! أَرَأَيْتَ إنْ عَلِمْتُ أيّ لَيلةٍ لَيلةُ القَدرِ، ما أقولُ فيها؟ قالَ- صلّى الله عليه وسلّم-: قولي: “اللَّهمَّ إنَّكَ عفوٌّ كَريمٌ تُحبُّ العَفْوَ فَاعْفُ عَنِّي”.
فإذا علمتَ هذا الفضل العظيم لتلك الليلة فاحرص على قيام ليالي رمضان، وهذا لا يمنع ثواب من قام بإحياء غيرها من الليالي، وإنما لهذه الليلة ميزة في الحصول على الثواب الفريد لمن قامها.

صلاة التراويح
صلاة التراويح من أفضل العبادات التي يتقرّب بها المسلم إلى خالقه، وَيُؤَدِّيها في كلّ ليلة من ليالي شهر رمضان المبارك بعد صلاة العشاء وقبل صلاة الوتر، ويمتدّ وقتها إلى قُبيل صلاة الفجر، وَسُمِّيت بهذا الاسم لأنّ المُصَلّين لها يستريحون بالجلوس عقب كلّ أربع ركعات منها، أو لأنّ أهل مكة كانوا يطوفون بين كلّ أربع ركعات فينالون فضل الطواف ويستريحون، وتُسَمَّى أيضاً بصلاة القيام لأنّ المصلين يقومون لصلاتها عقب صلاة العشاء.
وقدْ رَغَّب النبيّ – صلّى الله عليه وسلّم- في هذه الصلاة وغيرها من صلاة الليل في أحاديث كثيرة، منها: قوله – صلّى الله عليه وسلّم-: (مَنْ قَامَ رَمَضَانَ إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ)، وكان النبي – صلّى الله عليه وسلّم– أوّل من سَنَّ الجماعة في صلاة التراويح في المسجد، ثم تركها خوفًا من أن تُفرض على أمته، وقد تُوفي رسول الله – صلّى الله عليه وسلّم -والأمر على ذلك، ثم كان الأمر على ذلك في خلافة أبي بكر وصدرٍ من خلافة عمر -رضي الله عنهما-، كما جاء في الحديث عن عبد الرحمن بن عبد القاريِّ أنه قال: (خَرَجْتُ مَعَ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ – لَيْلَةً فِي رَمَضَانَ إِلَى الْمَسْجِدِ فَإِذَا النَّاسُ أَوْزَاعٌ مُتَفَرِّقُونَ يُصَلِّي الرَّجُلُ لِنَفْسِهِ، وَيُصَلِّي الرَّجُلُ فَيُصَلِّي بِصَلاتِهِ الرَّهْطُ، فَقَالَ عُمَرُ: إِنِّي أَرَى لَوْ جَمَعْتُ هَؤُلاءِ عَلَى قَارِئٍ وَاحِدٍ لَكَانَ أَمْثَلَ، ثُمَّ عَزَمَ فَجَمَعَهُمْ عَلَى أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ).
والذي تطمئنّ إليه النفس أنّ صلاتها في المسجد جماعة أفضل من صلاتها في البيوت، لأنّ في صلاتها في المساجد تكثيراً للجماعة ومحافظة على وحدة الأمة، اللهم إلا إذا كانت هناك ضرورة تدعو إلى صلاتها في البيت فلا بأس من ذلك.

وداع شهر رمضـان المبارك
من المعلوم أننا سَنُوَدِّع بعد أيام هذا الضيف الكريم شهر الخيرات والبركات، فيه تتضاعف الحسنات، وفيه تكتظّ المساجد بالراكعين الساجدين من أهل القرآن، وفيه يظهر التكافل الاجتماعي في أَبْهَى صُوَره.
لك الحمد رَبَّنَا، ذِكْراً وشكراً، بما أنزلتَ، وبما تفضَّلْتَ به علينا من أجر الصائمين القائمين والعاكفين والرّكّع السّجود، سلاماً منك ورحمة في يوم لا ينفع فيه مال ولا بنون، إلا من أتى الله بقلب سليم .
فأحسنوا توديعه بالصدقة والزكاة كما أحسنتم استقباله بالصيام والقيام، ورحم الله القائل:
وَدِّعوا يا إخوتي شهرَ الصيام بدمـوعٍ فائضـاتٍ كالغَمَـــام
وَسَلُوا اللهَ قَبُولاً في الخِتَــام فالكريـمُ مَنْ رجــاهُ لا يُضـام
اللهم اكتبنا من عتقاء شهر رمضان، واكتبنا في قوائم الأبرار، واكتب لنا سِعَة الحال من الرزق الحلال، ربنا وارفع الإِصْرَ عن أُمَّةِ حبيبك محمد – صلّى الله عليه وسلّم -، واسلكْ بهم صراطك المستقيم ليكونوا من الذين أنعمتَ عليهم، آمين … آمين … يا ربّ العالمين.
وصلّى الله على سيّدنا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين.

* خطيب المسـجد الأقصى المبـارك
وزير الأوقاف والشئون الدينية السابق
www.yousefsalama.com

اظهر المزيد
زر الذهاب إلى الأعلى

مرحبا بكم في الموقع الرسمي لجريدة البصائر

 

تفتح جريدة “البصائر” صفحاتها للأساتذة الجامعيين والمؤرخين والمثقفين، لنشر إسهاماتهم في شتى روافد الثقافة والفكر والتاريخ والعلوم والأبحاث، للمساهمة في نشر الوعي والمبادرات القيّمة وسط القراء ومن خلالهم النخبة وروافد المجتمع الجزائري.

على الراغبين والمهتمين إرسال مساهماتهم، وصورة شخصية، وبطاقة فنية عن سيرهم الذاتية، وذلك على البريد الالكتروني التالي:

info.bassair@gmail.com