حديث والد النبي.. في الصناعة الحديثية 3/محمد عبد النبي
أخرج الإمام مسلم (1/191) عن أبي بكر بن أبي شيبة عن عفان عن حماد بن سلمة عن ثابت عن أنس «أن رجلا قال: يا رسول الله، أين أبي؟ قال: في النار، فلما قفّى دعاه فقال: إن أبي وأباك في النار».
بين الملمح الذّوقي والمنهج النقدي توزّعت آراء بعض الخائضين في حديث الإمام مسلم، أصحاب الملمح الذوقي جرفهم الذوق بعيدا عما استقرّ من بيّنات النقد الحديثي، وراح بعضهم يقوّي حديثا «منكرا» في إحياء أبوي الرسول صلى الله عليه وسلم، لنسخ ما جاء في حديث مسلم! وأتباع المنهج النقدي استدرجهم يقين مُدّعى إلى تجاهل بعض القرائن والملاحظات، التي أزعم أنها تخفِّف من القطع الذي أذهلهم عن أدب، كان يُفترض أن يتحلّوا به، فلا يسيئوا إلى علم ولا إلى مقام.
ومن هذه القرائن المشار إليها: أن حديث الإمام مسلم لم يخرجه البخاري، ولا أخرج لحماد بن سلمة أصلا، ولا أشار إليه في كتبه الأخرى، كالأدب المفرد! والغريب أيضا أن البخاري لم يخرج حديث الإمام مسلم (2/671) عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:» استأذنت ربي أن أستغفر لأمي فلم يأذن لي، واستأذنته أن أزور قبرها فأذن لي». والشاهد أن الإمام البخاري لم يخرج في هذا المعنى المتعلق بأبوي النبي صلى الله عليه وسلم شيئا في كتبه!
والقرينة الثانية: أن الإمام مسلما أخرج حديثا لحماد عن ثابت عن أنس في سبب نزول آية الحجرات، وفيها ذكرٌ لسعد بن معاذ، والمعروف أن ذلك كان عام الوفود سنة تسع، وسعد إنما توفي سنة خمس، فاستشكل النقاد وورده في حديث حماد عن ثابت في صحيح مسلم! وقد أتبع الإمامُ مسلم الرواية المشار إليها بثلاث متابعات عن ثابت، ليس فيها ذكرٌ لسعد! ما يوحي بأن الإمام مسلما على علم بالإشكال، لكنه لم يصرّح بالتعليل، وهو ما تجرّأ عليه الحافظ ابن كثير في تفسيره (7/367) حين قال: «فهذه الطرق الثلاث معلِّلة لرواية حماد بن سلمة، فيما تفرّد به من ذكر سعد بن معاذ، والصحيح: أن حال نزول هذه الآية لم يكن سعد بن معاذ موجودا، لأنه كان قد مات بعد بني قريظة بأيام قلائل سنة خمس، وهذه الآية نزلت في وفد بني تميم، والوفود إنما تواتروا في سنة تسع من الهجرة، والله أعلم».
ومعنى ذلك أن الإمام مسلما أخرج لحماد بن سلمة في ثابت حديثا بَدا أن فيه علة واضحة، تتعلّق بمخالفة ما في التواريخ، فهل بعد هذه العلة نستطيع أن نقطع بمضمون هذا الحديث؟ فلِم نلجأ للقطع بمحتوى حديثٍ آخر مشكل عند مسلم نفسه، بنفس هذا الطريق؟!
ومن القرائن: أنّ حديث الإمام مسلم هذا لم يخرجه البخاري كما مرّ ذكره، ولم يخرجه من أصحاب السنن إلا أبو داوود (ت275)، ولم يخرجه الإمام مالك في موطئه (ت179) ولا عبد الرزاق الصنعاني (ت211) ولا ابن أبي شيبة (ت235) في مصنفيهما، ولا ابن راهويه في مسنده (ت238) حتى جاء الإمام أحمد- (ت241)- في منتصف القرن الثالث، ومعنى ذلك أن هذا الحديث لم يكن معروفا أو مشهورا طيلة هذه الفترة، في المصنفات السابقة على مسند الإمام أحمد رحمه الله، وإذا وسِع هؤلاء الأئمة أن لا يذكروه في كتبهم -لسبب من الأسباب- أفلا يسعنا أن لا نقطع بما جاء فيه، من مصير والده صلى الله عليه وسلم؟