حوار

البروفيسور عبد المالك بومنجل “أداء جمعية العلماء جيّد، ولكنه في حاجة إلى المزيد”. “التّيه المتلبّس بنا سببه التمزّق بين هُويتين”./حوار/ حسن خليفة

 

لقد سبق أن أشرنا إلى هذه الصيغة الإعلامية المتمثلة في لقاءات/ حوارات مع ثلة من أعلامنا في الفكر والدين والثقافة والأدب، وبخاصة منهم الشباب، وفي هذا الحوار مع الأستاذ الدكتور عبد المالك بومنجل نستعرض عددا من القضايا ذات الصلة بواقعنا الجزائري تعليما وأدبا وبحثا وهموما ثقافية، وإليكم هذا الحوار:

ـ نبذة عن مسارك العلمي والتعليمي والمهني؟

– أنا من الفئة التي علّمها الريف المكابدة في طلب العلم وفرَضَ عليها الطموح إلى ما هو أفضل وأمثل. وُلدت بقرية أولاد شوق بلدية ذراع القائد في 28 جانفي 1970م. تلقيت تعليمي الأول في مدرسة القرية، ثم كابدت مشاقّ التنقل اليومي إلى متوسطة خراطة وثانويتها سبع سنين دأبا. وُجهت في الثانوية إلى الشعبة العلمية فأبيت إلا أن يكون توجهي أدبيا. حصلت على بكالوريا الآداب في 1988م، فاخترت اللغة العربية وآدابها وجهةً لي في الجامعة أُخلص بها لموهبتي ومجال اهتمامي. احتضنتني جامعة تيزي وزو سبع سنين أخرى خرجتُ بعدها متوّجا بدرجة الماجستير في الأدب المعاصر عن أطروحة عنوانها “شعر الحب والرفض بين مفدي زكريا ومصطفى الغماري”، نشرت شطرا منها مؤخرا بعنوان “الموازنة بين الجزائريَّيْن: مفدي زكريا ومصطفى الغماري”.

في 1997م رسوتُ على موضوع بحث جديد منحتُه جلَّ اهتمامي إلى أن تكلل الجهد بنيل درجة دكتوراه الدولة مطلع 2006م عن أطروحتي “جدل الثابت والمتغير في النقد العربي الحديث”، وقد سرّني احتفاء لجنة المناقشة بها وتوصيتهم بطبعها. وقد وُفقت إلى نشرها في دار نشر عربية في 2010م، ويسرّني أن ذلك الجهد في متناول القراء والباحثين.

كان أول عهد لي بالتعليم بجامعة سطيف، وكنت أستاذا مؤقتا خلال السنة الجامعية 1995م-1996م. وبعد انقطاع دام عامين حصلت على وظيفة أستاذ مساعد بجامعة بجاية. وبعد خمس سنوات تحولت إلى قسم اللغة العربية وآدابها بجامعة سطيف، وبقيت فيها إلى الآن مترقيا في سلم الدرجات العلمية إلى غاية حصولي على رتبة أستاذ (التعليم العالي) أواخر 2011م.

أُديرُ مخبر المثاقفة العربية في الأدب ونقده منذ تأسيسه في 2014م. وقد أصدرت إلى الآن عشر دراساتٍ نقدية آخرها “الإبداع في مواجهة الاتباع؛ قراءات في فكر طه عبد الرحمن”، وخمسة دواوين شعرية آخرها “أنتِ أنت الوطن” و”عناقيد الغضب”، ونشرت العديد من المقالات في مجلات علمية وطنية وعربية، كما شاركت في عديد المؤتمرات الدولية ذات الصلة بمجال اهتمامي. وسواء تعلق الأمر بالفكر والنقد أو تعلق بالشعر والأدب فإن همّي الشاغل هو الرقي بإنسانية الإنسان، تحسيسا بحريته وكرامته، وترقية لذوقه، وتحفيزا له على التحرر من التبعية لغيره. وحين أقول الإنسان فلا شك أن الإنسان المسلم يحتل الصدارة من هذا الاهتمام، لاسيما وهو يعاني هذا التمزق الحضاري وهذه السلبية المفرطة.

2ـ أنت أستاذ التعليم العالي في الجامعة؛ كيف ترى وتقيم الوضع التعليمي الجامعي في بلادنا؟

-لن أتحدث إلا عن الوضع التعليمي الذي أنا شاهد على عيّنة منه: العلوم الإنسانية عموما والأدبية خصوصا. الوضع مُزرٍ بكل معنى الكلمة.

العلوم الإنسانية لا يوجّه إليها إلا أصحاب القدرات المتوسطة أو المحدودة، والخطط التعليمية توظيفا وبرامجَ وأهدافا واضحةً محددةً غيرُ موجودة، والمشروع الذي يستهدف بناء الإنسان العارف الواعي الراشد المفكر صاحب الذوق العالي والفكر المستقل لا وجود له في أذهان المسؤولين ولا الأساتذة إلا من رحم ربك…! وأخلاط المذاهب والمناهج والنظريات تزاحم العلوم الأساسية التي تشكل قاعدة المعارف اللغوية والأدبية والتاريخية والفكرية، بل تزيحها عن موقع القيادة إلى موقع الهامشية؛ والهمّة لدى الطالب كما لدى الأستاذ والمسؤول لا تكاد تجاوز عتبة المصالح المادية القريبة الهيّنة. ولا أدلّ على بؤس الوضع التعليمي الجامعي في العلوم الأدبية مثلا من أن الهدف الأساس من هذا التخصص، وهو إقدار الطالب على سلامة التعبير وطلاقة الحديث الفصيح ومهارة الإقناع وتذوق الجمال وتحليل الخطاب، لا يكاد يتحقق منه إلا جزء يسير جدا، إذ يتخرج جل الطلبة وهم عاجزون عن كتابة مقال بسيط، وقد يقال قريبٌ من ذلك في حق كثير من الأساتذة، وتلك هي المعضلة، ومع ذلك تجد برامجنا مشحونة بما لا ينفع من علوم ونظريات حقها في مراتب العلوم أن تكون تالية لعلوم قاعدية لا غنى عن استوائها في ذاكرة الطالب كعلوم اللغة وعلوم البلاغة.

3ـ كيف تنظر إلى الأبحاث الأكاديمية: ماستر، ماجستير، دكتوراه، ونحن نقرأ ونتابع الكثير مما يقال عن السرقات واللطش والضعف والهُزال؟

-كنت أقول لك إن قليلا جدا من المتخرجين من أقسام اللغة العربية وبقية العلوم الإنسانية من يتخرجون بحد مقبول من مهارات التعبير والكتابة والتفكير والتحليل، ماذا ينتج عن هذا الهزال سوى هزالٍ أكبر على مستوى البحوث العلمية.

ثم إن العجزُ عن تركيب عبارة سليمة العجز عن فهم فكرة فهما صحيحا العجز عن مناقشة مقولة أو نظرية العجز عن اتخاذ رأي وموقف إزاء مسألة من مسائل الفكر قلة الصبر على مكابدة القراءة الجادة الواعية والكتابة المتينة الأصيلة، وغلبة منهج التلقين والتقليد في تدريس العلوم المختلفة، أنتج باحثين لا يملكون أدوات الكتابة ومهارات الفهم والنقد والتذوق والتحليل والمساءلة؛ لذلك يلجأ أكثرهم إلى سياسة القطع واللصق، وكثير منهم لا يملك حتى مهارة اللصق (الربط). وبسبب هذا العجز يلجأ  كثير من الباحثين في المستويات المختلفة إلى الجريمة العلمية الفادحة: السرقة، العجز عن التعبير والتفكير والتحليل، مع انعدام الضمير الأخلاقي واحترام الذات، هو السبب؛ ولا أدري لمَ يطالَبُ طالب الليسانس والماستر بإنجاز بحث وهو عاجز عن إنشاء مقالة…! ولمَ يُدرَّس السيميائية والتأويلية والتفكيكية وهو عاجز عن تذوق صورة شعرية بسيطة، وتحليل عبارة مجازية مألوفة؟

لا أدعو طبعا إلى إلغاء البحوث ولا إهمال هذه المناهج والمذاهب النقدية الحداثية؛ ولكنني أتسائل عن الجدوى؟ نحن في الميدان، ونعرف مقدار تخبط الطلبة، بل حتى الأساتذة في تطبيق هذه المناهج: النمطية القاتلة، والجفاف المضجِر، والخواء الصارخ، والخبط في متاهات من الفكر الوافد والرأي الكاسد تجعل القارئ لهذه البحوث يشعر بعبثية البحوث الأدبية، وتجعل الباحث والمشرف والمناقش يشعرون وهم يمارسون هذه الأعمال الثقيلة كأنما يُساقون إلى الحيف وهم ينظرون!

4ـ تكاد الدراسات الأدبية والأبحاث العلمية الأكاديمية تقتصر على ما يُسمى بـ”الشأن الحداثي” في الشعر والسرد وما أشبه، كيف تستوعب ذلك؟

-مؤسفٌ أن أقول لك إننا نعيش منذ عقدين أو ثلاثة في تيه كبير، لا نعرف ماذا نفعل ومن نحن وماذا نريد؟ لقد استقبلنا الحداثة (الغربية) بسذاجة منقطعة النظير! استقبلناها كما لو أنها منظومة معارف صحيحة، وعلوم دقيقة أنتجها عقل جبّار لا يعرف الخطأُ والهوى إليه سبيلا.

ظلت النظريات والمذاهب والمناهج تتعاقب هناك، وينسف بعضها بعضا، لملابسات خاصة بالمجال التداولي الغربي، وظللنا نلاحقها ونجتهد في تعلمها وتعليمها على نحو بائس عنوانُه التقليد والتبعية والعجز عن التفكير والنقد والمسائلة والإبداع. فرّطنا لأجل هذه النظريات والمناهج الوافدة في رصيدنا الزاخر من علوم اللغة والأدب والنقد والبلاغة، فضيقنا عليها الخناق لتفسح المجال لهذا الوافد المبهرَج، فأضعنا معرفتنا بأنفسنا لغة وبلاغة وتاريخا وأعلاما وقيما واعتقادا، ولم نحسن استيعاب ما تلقفناه من الغرب لا على جهة التقليد الصحيح الناجع ولا على جهة التثاقف الراشد الناقد.

لقد علّمْنا طلبتنا التقليد بدل أن نعلّمهم التفكير والاجتهاد والاستقلال والنقد. لقد حملنا حداثة الانتقاد والاختلاف والإبداع ونفي اليقين شعارا وجسّدنا الاعتقاد والمطابقة والتقليد و”الدُغمائية” واقِعا! فليس غريبا أن تجد بحوثنا غارقة في هذه الدوّامة من التقليد والنمطية البائسة باسم “الحداثة” في الشعر كما في السرد كما في النظريات النقدية المختلفة لا نكاد نجد سوى المقولات والمناهج والمصطلحات وإجراءات التحليل وأسماء الأعلام الغربية، دونما قدرة على إبراز الوجه الجميل لهذه المادة المستوردة، ودونما قدرة على إظهار قدر من الذوق والمهارة في التعامل مع النسوج الأدبية، ودونما حفاظ على الروح العربية أسلوبا وتذوقا ووعيا بالقيم التي شكلت هويتنا على مدار التاريخ.

5ـ في شأن الحداثة دائما، كيف تفهم هذا التلهف وراء الوهج الحداثي الذي يكاد يغطي على ما عداه؟ وهل يمكن أن نفهم منك هذا الأمر في المجالين النقدي والأدبي العربيين في الفترة المعاصرة؟

-مصدر هذا اللهاث هو الصدمة الأولى التي تلقيناها زمن اتصال المغلوب بالغالب، تلك الصدمة -التي يؤرخ لها بالحملة الفرنسية على مصر- أفقدت كثيرا من حمَلة الفكر والثقافة وأهل القرار السياسي توازنهم وثقتهم في ذواتهم ودينهم وحضارتهم، لقد ظن هؤلاء المهزومون نفسيا أن الحضارة الغربية ازدهرت بسبب فصلها الصارم بين الدين وشؤون الحياة، وإسلامِها زمام القيادة للإنسان بدل الوحي، كان ذلك الاعتقاد خطأ علميا ومنهجيا وفكريا وسياسيا قاتلا. لقد بنى المسلمون حضارتهم العظيمة على أساس من الدين، وتلقى الغربيون المبادئ الأولى لإقامة حضارة على منهج العلم والعقل والاجتهاد من الأثر الذي خلفه فيهم اتصالهم مع المسلمين؛ فكان مفارقة عجيبة أن يستنتج هؤلاء المهزومون أن الدين هو عائق التحضر والتطور، وأن علينا أن “نسير سيرة الأوربيين” في تمردهم على الدين لكي نلحق بهم في طريق الحضارة! لا أدري كيف صح لهم هذا الاستنتاج وهم يعلمون أن دين المسلمين غير دين الكنيسة، وأن مزية الإسلام الكبرى أنه دين الحرية والتفكير والعقل والبرهان!  كأنما إذا ضربك معلّم غير صالح وجب عليك أن تهجر التعليم كلَّه!

بعد هذا الاستنتاج البائس والخيار القاتل شرعنا في تلقف ما ينتجه الغرب من أفكار ومناهج ونظريات دون مسائلة من العقل ودون مراقبة من الدين مضينا في ذلك أشواطا، فكان التمزق بين هُويتين ثمرةَ تيهنا، وكان التخلف العلمي والفكري وحتى الأخلاقي ثمرةَ هذا التمزق، وكانت عوامل القوة في ديننا تضمر فينا باستمرار دون أن نقدر على ملء فراغها بعوامل القوة في حضارتهم. كان الأساتذة الذين علمونا ضحايا ذلك التقليد العاجز والسلبية القاتلة، وكنا نحن استمرارا لذلك العجز وتلك السلبية مع قدر زائد من الهزال على مستوى اللغة والذوق والتزود من العلوم العربية، وقد أورثنا طلبتنا كل هذه الرذائل الفكرية والأسلوبية مع زيادة مطّردة في ضمور القدرة البيانية والاستقلال الفكري والأمانة العلمية.

كان العقاد في مرحلة تلمس العرب خطواتهم في طريق النهضة يقول: “ليس التجديد أن نُضرب عن العرب لنقلد الإفرنج فننظم كما ينظمون، لأن الإفرنج يُخطئون في فهم الأدب كما يُخطئ الشرقيون، ويأبون على طائفة منهم أن تقلد الآخرين”؛ ولكن تيار ادّعاء التجديد وممارسة التقليد صارت له الغلبة، وها نحن نزداد إمعانا في التقليد والعجز والتيه.

الغريب في الأمر أننا بلغنا من السلبية في النظر والعجز عن الفكر والنقد مبلغا جعلنا نتبنى الفكرة ونقيضها، ونمجّد المنهج ونقيضه، ولا نحترم تراثنا وأعلامه إلا إذا ذكرهم الغربي بخير! لا أنكر أن عددا لا بأس به من أهل الفكر خطوا لهم طريقا مستقلا في الإبداع والتفاعل مع المنجز الغربي، وأن صحوةً فكرية بدأت تلوح في الأفق؛ ولكن الغلبة ما زالت بيد التقليد “الحداثي”، كما أن من أدركته الصحوة لا يمتلك من العدة المعرفية والمنهجية والفكرية والبيانية ما يؤهله لتحويل الوعي إلى فعل.

6ـ هل يمكن أن توجه الشباب الباحثين إلى القضايا ذات الأهمية في مجال العمل والبحث الأكاديمي الرصين؟

-لو كان لي رأيٌ يطاع لوجهتُ المنظومة الجامعية، بل التعليمية بأسرها، إلى إجراء إصلاحات جذرية على مستوى فلسفة التعليم في العلوم الإنسانية برامجَ ومناهجَ وأهداف؛ لقد أثبت المسلك المتّبع إخفاقه الذريع على النحو الذي بيّنتُه آنفا، ولا أحد يجادل في هذا الإخفاق، أليس علينا الآن أن ننظر في أهدافنا من تعليم اللغة والأدب على سبيل المثال، ثم ننظر في النتائج الآن لنعيد النظر في البرامج والخطط بناء على ذلك؟ أليس من الواجب العلمي والقومي والحضاري أن نعيد الاعتبار لعلوم العربية المختلفة وللتراث الأدبي والفكري العربي الزاخر، نأخذ منه الكفاية التي تنشئ الملَكة، وترفع الذوق، وتبث القيم الحضارية الخاصة، وتشعر بالانتماء، وتزوّد بالمعارف البانية، وتُهيّء لمثاقفة راشدة واعية؟ أليس من الجريمة في التخطيط والبرمجة أن يدرس الطالب زبدة العلوم الأدبية، وهو علم البلاغة، خلال عام واحد أو سداسي واحد؟

أما بشأن القضايا ذات الأهمية في مجال البحث، فأعتقد أن هناك مجالات كثيرة أهملها ما سمّيتَه “اللهاث وراء الوهج الحداثي” وصرف عنها نظر الباحثين، ويجدر بهم الآن أن يولوا وجوههم شطرها. هناك مجال البحث في أعلام اللغة والأدب والنقد والفكر العرب قديما وحديثا ممن لم يُقرؤوا قراءة واعية ولم يسلّط الضوء على منجزاتهم برؤية نقدية واعية ومعاصرة (الرافعي ومحمود شاكر وسيد قطب ووليد قصاب على سبيل المثال). وهناك مجال المسائلة للنظريات والمناهج النقدية الغربية في أسسها المعرفية وتطبيقاتها العملية وكيفيات تلقيها وتطبيقها عند العرب، وهناك مجال الاجتهاد في دراسة أعمال أدبية قديمة وحديثة لم تأخذ حظها من الدراسة بمنهج متحرر من النمطيات المنهجية السائدة يُعيد للعمل الأدبي بشاشته وتأثيره وحيويته، وينفي عن العمل النقدي هشاشته واغترابه وآليته، ويصل كليهما بجوهر الأدب كله وهو الذوق والقيم الجمالية والإنسانية؛ ويمكن الإفادة هنا من التجارب التي تضافر فيها النسق مع السياق لدى العقاد ومحمود شاكر والنويهي ومندور وعبد القادر القُط وإيليا الحاوي ممن امتلكوا الثقافة والذوق والبيان. وهناك مجال المقارنة الموضوعية المتعمقة البصيرة بين المنجز النقدي والأدبي العربي ونظيره الغربي لكشف وهم الحداثة فيما ليس له من الحداثة إلا المصطلح، أو إثبات جدارة هذا الحديث بأن يحل محل قديم فقد مسوغ استمراره. وهناك مجال المصطلحات والمفاهيم التي سلّمنا فيها زمام القيادة لغيرنا يوجّهنا بها حيث شاء، إذ يجدر إعادة النظر في كثير منها، وهناك مجال النقد الثقافي لمضامينَ أو اتجاهات أدبية أو نقدية، ولكن على غير منهج الغذامي في جنايته على المتنبي والشعر العربي، ولكنّ المشكلة الكبرى ليست في اختيار الموضوعات (على أهميتها)، بل في مدى امتلاك الباحث للعدة المعرفية والفكرية والإبداعية والبيانية التي تؤهله لخوض هذه الموضوعات بالاقتدار المرجوّ، في ظل شيوع ذلك الهزال الذي سبق الحديث بشأنه.

7ـ بصفتك كمشرف على مخبر علمي، هل يمكن أن نعرف بعض تفاصيل تجربتك في هذا المجال: الموضوعات المطروحات، الاهتمام من الأساتذة والطلبة؟

– المخبر الذي أشرف عليه هو “مخبر المثاقفة العربية في الأدب ونقده”، وقد اعتُمد في 2014م، وفي جوهر أهدافه إشاعة الوعي النقدي والحس الإبداعي وشعور التميز والاختلاف والقدرة على التفكير والاجتهاد والإضافة بدل الاكتفاء باستيراد الأفكار والمناهج والنظريات وملاحقة المنجز الغربي دون مسائلة وتمحيص.

إن فلسفة المخبر هي النهوض بمستوى الوعي والنظر لدى الطالب والباحث والأديب والناقد بحيث يؤمن بذاته ويثق في قدراته ويعي حقه في التميز والإبداع حين يتعلق الأمر بعلاقته بغيره، هي الإسهام في تغيير مسار الثقافة العربية لتخرج من ربقة تقليد الثقافات الأخرى إلى مستوى التفاعل الواعي القائم على الانتقاد لا الاعتقاد، وعلى الندية لا التبعية، وعليه فإن مجال الاهتمام الأول في مشاريع المخبر هو مراجعة مسار التلقي العربي للمنجز الغربي قديما وحديثا، تقويما لهذا المسار، توجيها له في طريق الإفادة الواعية والمثاقفة الراشدة والإبداع الأصيل.

وقد نظمنا في سبيل هذا الهدف الطموح عشر ندوات وملتقى دوليا وازِنا عنوانه “المثاقفة العربية بين داعي التفاعل ومسعى التماثل”. وأصدرنا كتبا منها “تأصيل البلاغة” و”المصطلحات المحورية في النقد العربي بين جاذبية المعنى وإغراء الحداثة” و”إشكالية المنهج في النقد العربي”، ولدينا فريق بحث يشتغل في موضوع “التلقي العربي للنظريات النقدية الحديثة”. ونطمح إلى تجسيد أهداف المخبر رغم ضعف الموارد المالية والهمّة البشرية.

8ـ سأسألك بصراحة عن رأيك في فعاليات وأعمال جمعية العلماء المسلمين في المجالات العلمية والثقافية والفكرية. كيف تنظر إلى ذلك كأكاديمي وباحث ومهتم؟

  • جمعية العلماء تحسنَ أداؤها في الآونة الأخيرة على مستوى ما تنظمه من ملتقيات وما تصدره من جرائدَ ومجلات وما تنشطه من نشاطات ثقافية مختلفة وما تصدره من بيانات وتظهره من مواقفَ تخص الوطن والأمة. فلسان حالها “البصائر” أسبوعية محترمة تقدم مادة فكرية وثقافية قيّمة، وتتابع المشهد السياسي الداخلي والخارجي بمواقف وتحليلات ناضجة رزينة. كما أن تأسيسها لمجلتي “التبيان” و”المقدمة” يُعد إضافةً مبشّرة بالخير ومؤشّرة على التطور في الأداء. ويُعد مركز الشهاب بسطيف (وهو أحد فروعها) مثالا يُحتذى في كثرة نشاطاته وتنوّع أدائه، ويكفي أن “المقهى الأدبي” التي أتشرف بتنشيطه شهريا يختم الآن عامه الثاني معبّرا عن عناية الجمعية بالمواهب والطاقات الأدبية، كما كان شأنها زمن الاحتلال لدى مؤسسيها الكبار.

غير أن مقام الجمعية والمَهمّة الضخمة التي ينتظَر منها أداؤها بعدها حارسةَ للمرجعية الدينية والثقافية للأمة، يفرضان عليها أداء أجودَ وأكبرَ إعلاميا وتربويا وفكريا ودعويا وثقافيا، وهو ما يستلزم تخطيطا معمقا واستثمارا للطاقات واستقطابا لرجال الأعمال وانفتاحا على أهل الفكر والثقافة من مشارب مختلفة لا يشترط فيها غير أصالة المرجعية ونزاهة المقصد؛ وأظن أن امتلاك مطبعة وقناة فضائية وجريدة يومية مما يستحسن أن يخطط له وتعد له العدة.

9ـ كيف تفسر التفاف الباحثين والباحثات بالجمعية؟

    – أظن أن مردَّ ذلك إلى أن الجمعية هي هيئة علمية دعوية فكرية منفتحة على جميع المشارب الأصيلة، وليست هيئة سياسية أو فكرانية متعصبة، انفتاحها وحيادها وأصالة خطها ووطنيته سيجعلها محط اهتمام كل الطاقات العلمية الخيّرة في الأمة، من بعد ما فقد أكثرهم الثقة في الهيئات المسيسة والمؤدلجة؛ ولا أعني هنا سوى الباحثين عن مساحةِ خدمةٍ للأمة بنشر أفكارهم ونتائج اجتهادهم في حقول المعرفة المختلفة، أما من له أهداف أخرى فستبقى تلك المنابر الأخرى أكثر إثارة لاهتمامه. وعلى أية حال فإن الجمعية مدعوّة لمزيد استقطاب لمختلف الطاقات العلمية للأمة، فهي جمعية علماء بالدرجة الأولى، وعلى العلماء والباحثين أن يحتفلوا بها ويضعوا ثمرات كفاحهم العلمي في خدمتها، فهي محضن مناسب لكل جهود المخلصين لهذا الوطن الطامحين إلى نهضة الأمة.

10 ـ كلمة أخيرة.

-أتمنى للبصائر أن تظل بصائر للناس في هذا الزمن المتخبط في ظلمات الجهل أو الضلال أو التقليد والتبعية والاستلاب؛ وأرجو لها التوفيق في استقطاب أكثر الأقلام أصالة واقتدارا ومهارة أداء.

وشكرا لك جزيلا على هذه النوافذ الحوارية الراقية التي تفتحها لأصحاب الرأي والفكر والتجربة في مختلف مجالات المعرفية الإنسانية.

اظهر المزيد
زر الذهاب إلى الأعلى

مرحبا بكم في الموقع الرسمي لجريدة البصائر

 

تفتح جريدة “البصائر” صفحاتها للأساتذة الجامعيين والمؤرخين والمثقفين، لنشر إسهاماتهم في شتى روافد الثقافة والفكر والتاريخ والعلوم والأبحاث، للمساهمة في نشر الوعي والمبادرات القيّمة وسط القراء ومن خلالهم النخبة وروافد المجتمع الجزائري.

على الراغبين والمهتمين إرسال مساهماتهم، وصورة شخصية، وبطاقة فنية عن سيرهم الذاتية، وذلك على البريد الالكتروني التالي:

info.bassair@gmail.com