الـمثل العــربي دراســـــــة في نشأتــــه وتطــــوره مرحلة الجمع والتدوين المنهجي
الحلقة الخامسة

أ. د. محمد عيلان */
تناولنا في الحلقة الرابعة بداية جمع وتدوين الأمثال العربية التي لم تخضع لمنهج معين، سواء في التلقي أو التدوين؛ نتناول في هذه الحلقة وما يليها من حلقات، عناية الدارسين العرب بها من حيث تدوينها وتصنيفها، وحاجة اللغويين إليها في التقعيد للغة العربية (نحويا وصرفيا وبلاغيا).
وتبدو ملامح هذه المرحلة مع نشأة الدولة العباسية بعد سقوط آخر الخلفاء الأمويين في الشام سنة (132 هـ)، حيث بدأ المركز الحضاري ينتقل إلى العراق؛ المقر الجديد للحكومة. وفي تلك الفترة نشأت مدارس العلماء التي اشتهر منـها (مدرسة البصرة) و(مدرسة الكوفة). وقد ألف علـماؤها الأوائل كتبا عن الأمثال جمعا ودراسة 34.
وتطالعنا هذه الفترة كما تشير المصادر والمراجع 35 بالرواد الأوائل الذين كانوا أول من انتهج الجمع الميداني للمثل العربي وتدويـنه في كتب متنـوعة؛ في أسلوبها ومنهجها، وهـؤلاء هم: أبو عمر بن العلاء (ت نحو 154هـ) 36 والمفضل بن يحيى بن يعلى الضبي الكوفي (ت نحو 168 ـ أو 170 هـ) 37، ويونس بن حبيب (ت نحو 182 هـ) 38، وأبو الحسن علي بن المبارك اللحياني ( كان حيا قبل سنة 189 )39 وأبو فيد مؤرج السدوسي العجلي (ت 195 هـ) 40 والنظر بن شميل (ت 204 هـ) 40.
وفي هذه الفترة نجد الدافع إلى العناية بالثقافة العربية بجميع فروعها، لم يكن الإعجاب أو إثراء معارف الحاكم بأحوال الناس وآدابها، بل ما هو أهم من ذلك، وهو اختلاط الشعوب، فكان الإحساس بأن الثقافة العربية الشفوية إن لم تجمع وتدون فإن تيار الحضارات سيجرفها ويقضي عليها، ثم يعقبها القرآن الذي هو كتاب الله بلسان عربي مبين؛ لذلك بدأت عملية الجمع العامة خارج دائرة السلطة في نوع من السرعة لم تترك لهم البحث عن أصول الثقافة العربية، فنسبوها بدءا إلى العصر الجاهلي أو الإسلامي دون تمحيص أو تدقيق في منشئها وروافدها، ورأيناهم يسارعون إلى أخذ كل ما يمكن أن يفيد المعجم العربي أو المعارف العامة التي كانت للعرب، لمواجهة التيارات الثقافية الوافدة مع المسلمين الجدد.
وفي هذه المرحلة يبرز المفضل بمؤلفه: (أمثال العرب) الذي يعد النموذج لرواد هذه الفترة في الجمع والتدوين، كما أنه أول مؤلف يصارع عوادي الدهر ويصل إلينا مع كتاب مؤرج السدوسي، بخلاف ما كتبه من عاصرهما كأبي عمرو بن العلاء، فإنه قد ضاع وفقد، ولم تبق منه إلا الإشارة إليه لدى الدارسين، سواء بالنقل أو التشويه أو غير ذلك.
وقد كان كتاب المفضل الضبي عبارة عن مجموعة من الأمثال الشيقة المسلية والطريفة في آن واحد؛ ولذلك فإننا نشك في أنها كانت منتقاة وفقا لذوقه وتأثره، ولما يقتضيه تدريب أولاد الحكام وتلقينهم إياه، كما فعل في المفضليات، ولعله يكون قد سلك في ذلك مسلك سلفه أو معاصريه ممن نسبت إليهم كتب الأمثال، كأبي عبيد بن شرية الجرهمي، وعُلاقة بن كريم الكلابي وغيرهما.
وهكذا نجد أن هذه الفترة قد وسعت من مجال الاهتمام، وظهرت دوافع أخرى كان لها أثرها في نشوء الجمع والتدوين الميدانيين، وانتقلت المدارسة للأمثال من مجالس الحاكم إلى مجالس العلماء والأدباء، واللغويين في أماكن الدراسة، وظهر العديد من المهتمين، وهم إن ضاعت كتبهم التي دونوها أو محاضراتهم التي ألقوها، فإننا لا نعدم أثرهم فيما نحن بصدده، كما يشير من جاء بعدهم، كأبي عبيدة القاسم بن سلام والميداني والزمخشري وغيرهم.
ج ـ مرحلة التدوين والتصنيف والبحث والاستقصاء.
يتجلى ذلك فيما فعله أبو عبيدة القاسم بن سلام (ت 224 هـ) في مؤلفه: «كتاب الأمثال»، والمفضل الضبي بن سلمة المتوفى أواخر القرن الثالث الهجري 42 في كتابه: «الفاخر». وحمزة الأصفهاني (ت بعد 350 هـ) في مؤلفه: «الدرة الفاخرة في الأمثال السائرة»، الذي اختار فيه ما كان على صيغة (أفعل)، وأبو على القالي توفي سنة 356 هـ، الذي سار على منهج حمزة في اختيار ما كان على صيغة: (أفعل).
وما تجدر الإشارة إليه أنه خلال هذه المرحلة، هو تنوع الدراسة وتنوع مصادر الأمثال، فلم يقتصر الدارسون والجامعون على الأمثال العربية القديمة أو الأمثال المنسوبة إلى لأعراب، بل تجاوزوا ذلك إلى العناية بأمثال المولدين وأمثال العرب الذين أبعدتهم الحياة عن طابع البداوة الصرفة إلى طابع تَـبَلْبَل فيه لسانهم وضاعت معه فصاحتهم. وهذا يعني أن العناية كانت مزدوجة، فإلى جانب الاهتمام بالتراث العربي الفصيح، كانت هناك نظرة أخرى للمحيط وما يدور فيه من معارف تولدت بمرور الزمن، من كثرة الاختلاط واتساع الرقعة الإسلامية.
والواقع أن ما غلب على هؤلاء الدارسين القدامى واهتمامهم بالتركيب العربي للمثل، الأمر الذي أدى إلى إهمال العناية بالتراث الشفوي عند الطبقات الشعبية الدنيا، فلم يكن يشكل لديهم مادة تضيء ألوان الحياة ويكشف عن كوامن نفسية واجتماعية واقتصادية مؤثرة في المحيط الثقافي والسياسي وفاعلة في التوجه الحضاري، بل مالوا إلى فرز الكلام العربي الفصيح من غيره، وتناولوا ما يشيع في أدب العوام مما له صلة بالموروث العربي، وإعجابهم به من حيث بناؤه وشكله، وما عداه فقد عد هجينا ملحونا، ليس به من القيم الشكلية ما يجعله مؤهلا للدراسة والتسجيل، ولذلك فإن الكثير من الفنون الشعبية المنطوقة: (إعرابها لحن، وفصاحتها لكن، وقوة لفظها وَهْن، حلال الإعراب بها حرام، وصحة اللفظ بها سقام) كما وصفها صفي الدين الحلي في كتابه: «العاطل الحالي والمرخص الغالي».
وخلال هذه الفترة يظهر الدارسون والمفتنون بالأمثال الفصيحة وبصيغها ونقاوتها اللغوية، إلا أنهم وجدوا إشكالا في عملية تصنيفها وتبويبها ـ وإن كان ذلك قد طرح من قبل ـ إلا أنهم اهتدوا أمام تكاثر المادة إلى تبويبها وترتيبها وفقا للحروف الهجائية (الألف باء).
ويمكن أيضا أن نشير إلى أنه خلال هذه المرحلة كثر النقل بين الدارسين والإشارة إلى ذلك في مصنفاتهم، خاصة خلال القرن الرابع الهجري الذي يعد أزهى قرون التأليف والبحث والاستقصاء في الثقافة والفكر العربيين. ونجد أبرز هؤلاء : أبوبكر محمد بن العباس الخوارزمي (ت 383 هـ) في كتابه: «الأمثال»، وأبو هلال العسكري (ت 395 هـ) في كتابه: «جمهرة الأمثال»، والميداني (ت 518 هـ) في كتابه : «مجمع الأمثال» ، والزمخشري (ت 538 هـ) في كتابه: المستقصي في أمثال العرب»، وقد عد الزمخشري أبرع من اهتدى من الدارسين إلى طريقة تصنيف الأمثال.
ومن القدماء الذين اهتموا بأمثال القرآن الكريم والأحاديث النبوية الشريفة، نجد باحثين ودارسين قد اختصوا بهذا المجال وألفوا فيها كتبا، من مثل: ( أمثال القرآن ) للجنيد بن محمد القواريري (ت 298 هـ)، و(أمثال القرآن) لنفطويه اللغوي (ت 323 هـ)، و(أمثال القرآن) لأبي علي محمد الإسكافي (ت 381 هـ)، و(أمثال القرآن) لأبي عبد الرحمن النيسابوري (ت 406 هـ) و(الأمثال القرآنية للماوردي) (ت 450 هـ)، و(أمثال النبي) لعلي بن محمد الأصفهاني (ت 369 هـ) و(الأمثال النبوية) لأبي هلال العسكري و(الأمثال من الكتاب والسنة) لعبد الله الترميذي وغير هؤلاء كثير.
وأمثال القرآن الكريم مختلفة كل الاختلاف عما ذكرنا، وأكثر ما يشيع منها المـثل الرمزي، ويطلق عليها في اللغات الأوروبية: PARABOLE و ALLEGORIE ويقصد به توضيح فكرة أو موقف، والبرهنة عليها عن طريق المقابلة والمقارنة، من ذلك قوله تعالى: (مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا) البقرة 17.
ومنها قصص الأنبياء وأمثال التوراة والإنجيل. وقد نقل السيوطي عن الماوردي رأيا لبعض الدارسين قوله: إن في القرآن ما يشبه الأمثال القصيرة المتداولة على ألسنة الناس فقال: (سمعت أبا إسحاق إبراهيم من مضارب بن إبراهيم يقول: سمعت أبي يقول: سألت الحسن بن الفضل فقلت: فهل في كتاب الله (خير الأمور أوسطها)؟ قال: نعم في أربعة مواضع، قوله تعالي: (لا فَارِضٌ وَلا بِكْرٌ عَوَانٌ بَيْنَ ذَلِكَ) البقرة:68. وقوله تعالى: (وَالَّذِينَ إِذَا أَنفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَٰلِكَ قَوَامًا) الفرقان 67. وقوله تعالى: (وَلَا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَىٰ عُنُقِكَ وَلَا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَّحْسُورًا) الإسراء 29. وقوله تعالى: (وَلَا تَجْهَرْ بِصَلَاتِكَ وَلَا تُخَافِتْ بِهَا وَابْتَغِ بَيْنَ ذَٰلِكَ سَبِيلًا) الإسراء 110. فقلت هل تجد في كتاب الله (من جهل شيئا عاداه)؟ قال نعم في موضعين: (بَلْ كَذَّبُواْ بِمَا لَمْ يُحِيطُواْ بِعِلْمِهِ) يونس 39. (وَإِذْ لَمْ يَهْتَدُوا بِهِ فَسَيَقُولُونَ هَٰذَا إِفْكٌ قَدِيمٌ) الأحقاف 11. قلت هل تجد في كتاب الله تعالى: (احذر شر من أحسنت إليه)؟ قال نعم: (وَمَا نَقَمُوا إِلَّا أَنْ أَغْنَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ مِن فَضْلِهِ) التوبة 74. قلت هل تجد في كتاب الله: (ليس الخبر كالعيان)؟ قال نعم في قوله تعالى: (قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِن قَالَ بَلَىٰ وَلَٰكِن لِّيَطْمَئِنَّ قَلْبِي) البقرة 260. وهكذا إلى آخر الحوار الذي نقله السيوطي في كتابه (الاتقان في علوم القرآن).
ومنها الأمثال التي تأتي على لسان الحيوان أو غيرها (Fable) وقد ورد ذلك عند ابن المقفع، وعند رواة ودارسين من شعوب أخرى.
ومنها ما كان على (أفعل) وتختص به العربية دون سواها من سائر اللغات. وهي في الحقيقة تعابير مثلية (Expressions proverbiales). وهناك الأقوال التي تدعى أمثالا، وليس لها من شروط المثل غير الشكل.
وهكذا فإننا بعد مرور ما يقرب من ثلاثة قرون على أول تأليـف تمثل في جمع بعض الأمثال في عهـد معاوية حتى وجدنا فيضا زاخرا بمؤلفات متنوعة أسلوبا ومنهجا وطريقة، ورأينا هذه العناية لم تقتصر على اللغويين وخدهم بل شملت فيمن شملت الفقهاء والوعاظ والمفسرين وعلماء التاريخ ، ينقلونها ويستشهدون بها على الأحداث والوقائع التاريخية والمعاني القرآنية. وكل باحث يعود إلى هذه المعارف التي ذكرتها يجد تراكما آخر يمكن جمعه ليضيف رصيدا جديدا للأمثال العربية.
لقد ظل هذا الجنس الأدبي متواصلا يعطي ثماره ولم يختف كما اختفت أجناس أدبية كالملحمة والمقامة، بل إننا نجد من يأتي بعد القدماء من ينهض بالمهمة ولكن ليس بالدرجة التي كانوا عليها، كما نجد عند العبدري والشيبي وعند الحسن اليوسي وغيرهم ممن ألفوا في الأمثال أو انتقوا منها.
والملاحظة التي يمكن أن نبديها هنا خاصة عند الدارسين الذين جاؤوا بعد ذلك وأسهموا في تطور هذا الجنس الأدبي هو الانفتاح على الأدب الموازي أو الأدب المنطوق، وذلك عن طريق الإتيان ببعض الأمثال العامية وأحيانا مقابلتها بما عرف في الفصحى أو الاستفادة منها في قوة حجـتها ودلالتها. وإن بقي إصرارهم على أنها لا ترقى إلى مستوى المثل العربي الموروث.
وهذه خطوة مهمة أن يعود هذا الجنس إلى مجاله من خلال اقتراب الباحثين الدارسين من المجتمع وتفهمهم لطبيعة التطور الذي يبدو في أفعاله وسلوكه، وإدراكهم أيضا أن الأمثال العربية قد لا تلبي في بعض منها حاجة بيئات أخرى غير البيئة العربية البدوية، وإن كنا نقر بأن هناك ما هو مشترك بين أبناء البشرية أخلاقا وسلوكا وممارسة في الحياة مما يجعل التعبير عنه متقاربا وإن اختلفت اللغات.
الحلقة القادمة: مرحلة الدراسة الأدبية
أ . د . محمد عيلان
كلية الآداب والعلوم الإنسانية والاجتماعية
جامعة باجي مختار ــ عنابة
ailafolk@hotmail.com