رمضان شهر الانتصــارات
د. يوسف جمعة سلامة*/
يعيش المسلمون في هذه الأيام في ظلال شهر رمضان المبارك، هذا الشهر الذي ارتفعت فيه راية الإسلام عالية خفّاقة، حيث وقعت فيه معارك عديدة غيّرت مجرى التاريخ، فهو شهر الانتصارات التي أكرم الله سبحانه وتعالى بها عباده المؤمنين، وعند دراستنا لِكُتب السّيرة والتاريخ فإننا نلاحظ أنه مَا مِنْ غزوة من الغزوات التي خاضها المسلمون في هذا الشهر المبارك إلا ونصرهم الله- عزَّ وجلَّ- فيها على أعدائهم، ولعلّ في هذا بياناً لأمتنا الإسلامية بقيمة هذا الشهر ومنزلته العظيمة عند الله سبحانه وتعالى.
ومن المعلوم أنَّ من عظمة هذا الشهر الكريم أنه ليس شهراً للصيام والتهذيب وقراءة القرآن فحسب، بل هو شهر الانتصارات وإعلاء كلمة الله سبحانه وتعالى في الأرض، فقد شهد شهر رمضان المبارك أحداثًًا إسلامية تاريخية عظيمة خلّدها التاريخ، من أهمها: غزوة بدر، وفتح مكة، ومعركة عين جالوت، وفتح عمورية، ونظراً لأهمية هذا الشهر الفضيل وذكرياته التي لا تُنْسَى على مدى التاريخ ؛ فإننا نحرص على إلقاء الضوء على بعض الانتصارات التي حَقَّقها المسلمون في هذا الشهر الكريم، هذه الانتصارات التي باتت لنا نبراساً نهتدي به وقبساً من نور يُضيء لنا الطريق، حتى يتعرَّف القارئ الكريم على ما كان لهذا الشهر المبارك من فضل عظيم لا يُضَاهيه أيّ شهر من شهور السنة.
* غزوة بدر الكبرى: وفيها يقول الله سبحانه وتعالى: {وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللّهُ بِبَدْرٍ وَأَنتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُواْ اللّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ}، ففي بدرٍ التقى الجمعان ، فئة تُقاتل في سبيل الله وأخرى كافرة ، حيث دعا رسول الله –صلّى الله عليه وسلّم- ربه سبحانه وتعالى أن ينصر المسلمين في هذه المعركة التي وقعت في السابع عشر من شهر رمضان في السنة الثانية للهجرة، والتي أطلق عليها القرآن الكريم “يوم الفرقان”، وهي أولى المعارك المُهمة في التاريخ الإسلامي، حيث كان عدد المسلمين فيها ثلاثمائة وثلاثة عشر رجلاً، وعدد المشركين تسعمائة وخمسين رجلاً، وكان مع المشركين سبعمائة بعير ومائة فرس، بينما لم يكن مع المسلمين سوى سبعين بعيراً وفرسين، ولكن كانت معهم القُوّة الإلهية والمَعِيَّة الرَّبَّانية التي لا تغلبها أية قوة في الأرض مهما كانت، وفي ذلك يقول الله سبحانه وتعالى: {إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعَاسَ أَمَنَةً مِّنْهُ وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُم مِّن السَّمَاءِ مَاءً لِّيُطَهِّرَكُم بِهِ وَيُذْهِبَ عَنكُمْ رِجْزَ الشَّيْطَانِ وَلِيَرْبِطَ عَلَى قُلُوبِكُمْ وَيُثَبِّتَ بِهِ الأَقْدَامَ}، فلم ينتصف النهار حتى فرَّ المشركون، بعد أن قُتِل منهم سبعون رجلاً ووقع نفس العدد أسيراً في أيدي المسلمين، واسْتُشْهِدَ من المؤمنين ثلاثة عشر شهيداً، فكان النصر للمسلمين، ومن المعلوم أنّ يوم بدر هو اليوم الأغرّ في جَبين التاريخ الإسلامي العريق، حيث كان فُرقاناً مَيَّز الحقّ وأظهره وأخزى الباطل وَحِزْبه.
وكانت هذه الغزوة أوّل انتصار حاسم للإسلام على قُوى الشّرك والباطل، {فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلَكِنَّ اللّهَ قَتَلَهُمْ وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللّهَ رَمَى}، وبعث الله جلّ جلاله الملائكة الكرام لتشهد المعركة تثبيتاً للمؤمنين وسحقاً للكافرين {إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلآئِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُواْ الَّذِينَ آمَنُواْ سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُواْ الرُّعْبَ فَاضْرِبُواْ فَوْقَ الأَعْنَاقِ وَاضْرِبُواْ مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ}، فكان يوم الفرقان يوماً صنعه الله – عزَّ وجلَّ-، ليخزي الكافرين وينصر المؤمنين، صادقاً وعده ناصراً عبده، يشفي بنصره صُدور المؤمنين وَيُذهب غيظ قلوبهم، وما النصر إلا من عند الله العزيز الحكيم.
وهكذا انتصر الحقّ وَهُزم الباطل، وأعزَّ الله المسلمين على قِلَّتهم، ودَحَرَ الكافرين رغم كثرتهم، {كَم مِّن فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللّهِ وَاللّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ}.
* فتــح مكــة: فتح المسلمون مكة المكرمة في العشرين من شهر رمضان المبارك في السنة الثامنة للهجرة، وقد كان أهلها عقبة كؤوداً في طريق انتشار الإسلام وامتداده، لذلك خرج – صلّى الله عليه وسلّم – ومعه عشرة آلاف مسلم، وباغت المشركين في مكة، وكان ذلك من أجل نُصرة المظلومين من بني خُزاعة الذين غَدَرَ بهم مشركو قريش، حيث اعتدى بنو بكر حلفاء قريش على خزاعة حليفة المسلمين، وأَمَدَّت قريش بني بكر بالسلاح فاستنجدت خُزاعة بالمسلمين، مِمّا دفع الرسول الكريم– صلّى الله عليه وسلّم – لتأديب قريش التي نقضت صُلْح الحُدَيبية، وخرج رسول الله – صلّى الله عليه وسلّم – ومعه عشرة آلاف من المهاجرين والأنصار والقبائل الأخرى، حيث أنعم الله على رسوله وعلى المؤمنين بفتح مكة، وقد حرص – عليه الصلاة والسلام – على دخول مكة دون قتال يُذكر، فدخلها- صلّى الله عليه وسلّم – دخول الشاكرين لله عزَّ وجل وهو يُرَدِّد قوله سبحانه وتعالى: {وَقُلْ جَاء الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا}.
وسيطر الرُّعب على أهل مكة خوفاً من أن ينتقم منهم الرسول –صلّى الله عليه وسلّم– نتيجة أفعالهم معه –عليه الصلاة والسلام- ومع أصحابه الكرام –رضي الله عنهم أجمعين-، عندئذٍ قال لهم- صلّى الله عليه وسلّم -: (يا معشر قريش، ما تظنّون أني فاعل بكم؟ قالوا: خيراً، أخ كريم وابن أخ كريم)، فما كان منه – صلّى الله عليه وسلّم – إلا أن قال لهم قولته المشهورة: (اذهبوا فأنتم الطُّلقاء).
هذا الخُلُق الذي غاب اليوم وللأسف الشديد عن البشرية، حيث نرى الحروب منتشرة في أجزاء كثيرة من العالم، بينما الإسلام دين الرحمة والحبّ والسلام للبشرية جمعاء.
* معركة عين جالوت: التي وقعت في الرابع والعشرين من شهر رمضان المبارك سنة 658هـ، وَتُعتبر هذه المعركة من الصّفحات المُشرقة في التاريخ الإسلامي المجيد، حيث قاتل المسلمون فيها بكلّ قُوّة وإيمان وحبّ للشهادة أو النصر، وكان النصر فيها حليف المسلمين حيث تمّ القضاء على أطماع التّتار في العالم الإسلامي، فكان الفضل فيها لله سبحانه وتعالى الذي نصر جنده وأولياءه الصالحين، حيث استطاع الجيش الإسلامي بقيادة سيف الدين قطز ومساعده الظاهر بيبرس أن يهزم الجيش المغولي (التّتار) الذي قَتَل المسلمين وَدَمَّرَ ديارهم عبر طريقه الطويل من منغوليا حتى فلسطين.
* فتح عمورية: من الذكريات الإسلامية الخالدة في هذا الشهر المُبارك الذي أكرم الله سبحانه وتعالى به المسلمين بالنصر المُؤَزَّر، وقد تمّ ذلك في السادس من شهر رمضان سنة 223هـ بقيادة الخليفة العباسي المُعتصم، وقد خَلَّدها الشاعر أبو تَمَّّام بقصيدة مطلعها:
السيف أصدقُ إِنْباءً مِنَ الكُتُبِ في حدِّه الحدُّ بين الجدِّ واللعبِ
ومن الجدير بالذكر أنّ الخليفة المعتصم من قادة المسلمين العِظَام الغيورين على دينهم وعلى أعراضهم، حيث استجاب – رحمه الله- لصرخة إحدى النساء المسلمات (وامعتصماه)، فحاصر عمورية وأمرَ بهدمها، وعاد مُنتصراً رافعاً راية الإسلام عالية خفاقة.
دروس من انتصارات شهر رمضان
عند دراستنا لهذه الفتوحات والانتصارات التي وقعت في شهر رمضان المبارك، فإننا نتعلّم دروساً كثيرة تُوجب على المسلمين أن يقتبسوها من تاريخهم المجيد في كلّ زمان ومكان، ومنها:
– الثقة بالله سبحانه وتعالى، بأنه ما بعد العُسْر إلا اليُسر، وما بعد الضّيق إلا الفرج، وأنّ النصر لا يكون إلا من عند الله سبحانه وتعالى، وضرورة الأخذ بالأسباب مع التّوكّل على الله سبحانه وتعالى، وكذلك الأخذ بمبدأ الشّورى، وأهمية التّضرع إلى الله سبحانه وتعالى والاستعانة به.
– تَآلفُ القلوب ووحدة الصّف من أسباب النصر، حيث كان موقف المهاجرين والأنصار رائعاً وَمُوَحَّداً وهذا من فضل الله عز َّوجلَّ، لذلك فإننا عندما نكون إخوة متحابين لايُعادي بعضنا بعضاً غير مُتفرقين، سَيَمُنّ الله علينا بالنصر المبين.
– فضل العفو عن المسيء مع القدرة عليه، فقد غرس ديننا الإسلامي في نفوس المؤمنين المعاني الإنسانية والأخلاق السامية، ورسمَ لهم منهجاً يقوم على العفو والتسامح والتّرفع عن الأحقاد والضغائن.
هذه بعض الدّروس والعِبَر التي نقتبسها من هذه الانتصارات والفُتوحات، فشهر رمضان شهر العِزّة والنصر والتمكين، ينتصر فيه المؤمنون الصائمون على أنفسهم، فعندئذ ينتصرون على أعدائهم في جميع معاركهم، فالإيمان بالله أقوى أسلحة النصر: {وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ}.
اللَّهُمَّ تقبّل منّا الصلاة والصيام والقيام وصلّى الله على سيّدنا محمد صلى الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين.
* خطيب المسـجد الأقصى المبـارك
وزير الأوقاف والشئون الدينية السابق
www.yousefsalama.com