عبد الحميد ابن باديس: رجل كان أمة
أ.د. عبد الرزاق قسوم
رئيس جمعية العلماء المسلمين الجزائريين/
أنزل اللهم –في يوم العلم- شآبيب رحمتك على قلب جزائري، وطني، آمن بالعلم فخلد ذكره وسجل، اللهم –في يوم العلم- بمداد الفخر في صحائف التاريخ، عقل مثقف جزائري آمن بقيمة العالِم، فجدد ذكره.
فعندما التقى الوطن الفسيح، بالعلم الفصيح، في جزائر التصحيح، نتج عن تزاوج كل ذلك، ميلاد يوم العلم، الذي هو يوم الإحياء، تخليدا لموت عالم العلماء.
فرحم الله من كان سببا في الإسهام، وخلد الله –في المصلحين- من كان سببا في الإلهام.
تذكر الجزائر كل هذا اليوم، وهي ترى هبة الوفاء، التي ينخرط فيها شعبنا الوفي، بكل وعي وإباء، إحياء لمآثر العلماء.
لقد أنصف التاريخ جمعية العلماء، رغم الداء والأعداء، وها هو شعارها يغدو رمزا للبناء، وعلماؤها يتصدر منهجهم عملية الإحياء والإعلاء، فيتحصن المفهوم الوطني بمقوّم العقيدة السمحة، وعمق الانتماء، وتجسيد الوحدة الوطنية العصماء.
فرحم الله الإمام ابن باديس، وصحبه الأجلاء، الذين عبّدوا طريق الهداية والإقتداء ورسموا للأجيال سبل التحرر من العبودية والانحناء، بإضاءة معالم الطريق التي لا التواء فيها، ولا انطواء.
فاشهدي يا سماء، واكتبوا يا نزهاء أن جمعية العلماء كانت، ولا تزال، وستظل، إن شاء الله، وفية لقيم العلماء، والمجاهدين والشهداء، مهما تَتَلَبَّدْ في بعض الأجواء السماء، وتشتد عليها العواصف الهوجاء.
ويسألونك عن جمعية العلماء الممتدة البناء، فقل إنها والحمد لله تزداد امتدادا وتجذرا في كل فضاء؛ فهي تنتشر في كامل الأرجاء، وترفع شعار التسامح، والصفاء والإخاء، تبني المدارس بعزم وحزم ووعي وإباء، وتغرس في قلوب الناشئة الصاعدة، قيم الكتاب والسنة، وآثار المصلحين الصلحاء.
لقد حصحص الحق، فبان لكل ذي عقل وذي عينين، المصلح من المفسد، والخبيث من الطيب:
إذا اشتبكت دموع في خدود تبيّن من بكى، مِمن تباكى
فإذا تحدثنا بلغة الكم والإحصاء، قلنا أن هيكلة الجمعية قد شملت اليوم إحدى وخمسين ولاية، من مجموع الثماني وخمسين ولاية هي حصيلة الوطن.
وإذا تحدثنا بلغة الكيف تَجَلَّى لنا أن الكفاءات العلمية والوطنية مقبلة على الجمعية، بعدما أيقنت من مصداقية خطها السليم، ومنهجها القويم، أي أنها لا تضيق بالاختلاف الحكيم، ولا تتنكر للانتماء القديم، وإن هيكلها لا يلفظ إلا الجسم النشاز، الهماز الغماز النباز.
ويشفع لنا في إصدار هذه الأحكام على الصعيد التنظيمي، ما تجلى في اجتماع المجلس الوطني للجمعية، في الدورتين الرابعة والخامسة التي عقدت في نهاية شهر مارس، بمدينة الوادي المضيافة الكريمة، وشعبتها الإصلاحية القويمة.
فقد أبان أبناء وبنات الجمعية عن وعي فكري، فاق كل تصور، تمخص عن انبثاق مكتب وطني كفيل بمواكبة كل تطور.
كما يشفع لنا في أحكامنا، ما نلمسه من التفاف شعبنا بجميع أطيافه حول الجمعية، وتجنده لمؤازرتها بالهبات المادية والعَيْنِيَّة، وبالتبرعات الإحسانية تضامنا مع المعوزين، وتضميدا لجراح المتضررين.
وثالثة المظاهر الإيجابية، ما تجسد هذه السنة بالذات، من مظاهر الإحياء ليوم العلم، على جميع المستويات، من كل الفئات، مما يؤكد مدى وعي شعبنا بقيمة العلم والعلماء.
إن في موت ابن باديس إحياء لمبادئ وقيم، وانبعاث لمعالم وهمم.
اقتلوني يا ثقاتي إن في موتي حياتي
فأخو العلم حي خالد بعد موته، وإذا كان أخو العلم في مستوى علمائنا، كابن باديس والإبراهيمي، والتبسي، والميلي، وخير الدين وأمثالهم، فإن ذلك يعني إضاءة للمشعل الذي لم ينطفئ أبدا ولن ينطفئ إن شاء الله.
لذا نريد لمشعل ابن باديس وصحبه أن يظل عاليا وغاليا، مضيئا وبريئا، ولكي يبقى كذلك، ينبغي على أبناء وبنات الجمعية أن يتيهوا فخرا واعتزازا، بأمجادهم، وأن يستخلصوا منهم العبرة والموعظة، في البذل والعطاء والتضحية والفداء.
إن أبناء وبنات الجمعية مدعوون أكثر من أي وقت مضى، إلى السعي أكثر لبناء المدارس التي هي المغارس، التي طبعت – على الدوام- منهج جمعية العلماء الإصلاحي في التشييد والبناء، وأن يتجاوزوا ذلك إلى العمل على ما أسسته الجمعية، فيتحلوا بثقافة التنظيم، ويسنوا كباقي الهيآت والمنظمات مثلا التداول على المسؤولية التي هي تكليف لا تكريم، ومن أولويات التحديات لمأسسة الجمعية، تأصيلها، وتثبيتها في كل ولاية ولا سيما في المقر الوطني المرغوب والمطلوب.
كما نذكر- القائمين على الشأن الوطني- وإن الذكرى تنفع المؤمنين، نذكرهم، بأن استعادة الجمعية لأملاكها الوقفية المستغلة وتمكينها من المقر اللائق برسالتها، وطموحاتها، وأدائها لمهامها العديدة أمر بات أكثر من ضرورة.
كما أن حرمان الجمعية من مقر يليق بمكانتها، سيظل وصمة عار تلاحق كل قادر على ذلك ولم يفعل.
نقول هذا في الوقت الذي نحيي فيه بهذا الصخب، يوم العلم، ذلك أن من الوفاء للإمام ابن باديس حماية تراثه، وإنقاذ ميراثه.
وعهدا منا للجميع، بأننا سنظل أوفياء للمبادئ والقيم التي مات من أجلها المجاهدون من العلماء، وإن الوطن أمانة في أعناقنا، إلى أن نلقى الله، فليس لنا عدو، إلا من عادى الوطن وثوابت الوطن، وما حليفنا إلا من يعمل لإحياء ثوابت الوطن من سيادة، ووحدة، وبناء، ذلك أن البقاء لن يكون إلا للأصلح، والأقوم والأدوم، وإن العالم يهدي للتي هي أقوم.
ورحم الله العالمين العاملين المخلصين في الأولين والآخرين.