فضائـــــل التكليــــف بصـــوم شهـــر رمضــــان2
أ. خير الدين هني/
والاعتراف بالخطايا والرجوع إلى الحق والفضيلة، هو ما يجعل المسلم مسلما حقا لأن التزامه بوصايا القرآن الكريم، وتعاليم السنة الشريفة، هو من يسْمو بنفسه إلى مراتب الكمال الإنساني، ويزكيها ويطهرها من نزعات الشيطان، ويهذّب غرائزه التي إن تركت من غير مراقبة ومحاسبة وخوف من الله، فستنزع به إلى ارتكاب الآثام والخطايا والموبقات، والانغماس في أفعال الشر والقبح والرذيلة، ويجنح إلى ارتكاب المناكر والمظالم والعدوان بغير حق، والمسلم الملتزم بوصايا القرآن الكريم هو من يعفو ويغفر ويتسامح ويتجاوز عن الناس الذين أساءوا إليه، حتى يكون من الأتقياء المحسنين لقوله تعالى في الآية 134 من سورة آل عمران: {وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ}.
وكتمان الغيظ والعفو عن الناس، لا يصدران إلا من النفوس النبيلة الكريمة ،المتسامحة المتخلّقة بأخلاق القرآن الكريم، لأن من كانت نفسه هيجاء مضطربة غير سوية، فهي التي تغلب عليها غرائز الشر والعدوان، لا نها دأبت على الجنوح والميل إلى الهوى، والخروج عن الآداب الإسلامية، وهذه النفس لا تلين بإيمان ولا بدين ولا بعبادة ولا بأخلاق ولا بأعراف، لأنها أُشربت في دواخلها القسوة والغلظة والجفوة والفظاظة، قال تعالى: {قَسَتْ قُلُوبُكُم مِّن بَعْدِ ذَٰلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الْأَنْهَارُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمَاءُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ} (البقرة:93).
فالآية الكريمة تشير إلى أن الحجارة تلين وتتشقّق، فيخرج منها الماء الذي ينتفع به الإنسان والحيوان والطير والنبات، ولكن القاسية قلوبهم لا تعرف نفوسهم اللين و الرحمة والرأفة والشفقة، لا يرحمون مؤمنا ولا كافرا ولا حيوانا ولا طبيعة، حتى الغابة لم تسلم من قسوة قلوبهم، فيحرّقونها من غير وعي ولا حس بالألم والإثم، لأن القسوة رانت على عقولهم فلم يصبحوا يشعرون بالذنب ولا بوخز الضمير وتأنيبه، والقسوة أعاذنا الله منها وإياكم هي شر مستطير، وما إن تستولي على قلب رجل إلا أوردته المهالك وجنحت به إلى فعل الشر والقبائح والمناكر، والصوم هو من يهذب النفوس ويرقق القلوب ويُليّن الطباع ويهذب السلوك، وهذا من أرقى فضائل الصوم ومنافعه.
والقسوة من الغرائز القبيحة التي تثير المشاعر الشريرة في النفس الإنسانية، فيميل من يتصف بها إلى الإحساس الدائم بكره خلق الله، لأن نفسه دائمة الغليان بنار الحسد والحقد والغل والبغض والكراهية، وهذه الظواهر النفسية معروفة منذ أن وجد الإنسان على الأرض، وقصة قابيل مع أخيه هابيل هي أحسن مثال يعبر عن حقيقة القسوة ونتائجها الشريرة، فبقسوته وغلظة قلبه حسد أخاه وحقد عليه ولم يشف غليله إلا بإزهاق روحه وهو ابن أبيه وأمه.
وفضلاء الناس في الجاهلية والإسلام يدركون قبائح القسوة وتوابعها، وهذا ما أدركه شاعر الجاهلية عنترة بن شداد، الذي كان يعيش بين قوم طحنتهم الجاهلية، بعربدتها وغطرستها وعنصريتها وطبقيتها وأخلاقها المتناقضة بين الخير والشر، وكان عصرهم لا يتقيد بأخلاق رفيعة إلا عند بعض أعيانهم وفضلائهم وأشرافهم وساداتهم، وكان يسود حياتهم الصخب واللغط والفوضى، ومع ذلك الاضطراب كان عنترة متخلقا بالأدب الرفيع، الذي يسمو بالإنسان إلى مراتب الكمال، لأنه أدرك بأن الحقد الذي يتولّد من قسوة القلوب وجفائها، خلق ذميم ممجوج قبيح، لذلك قال:
لا يحمل الحقد من تعلو به الرتب ولا ينال العُلَى من طبعه الغضب
وقال المقنّع الكِنْدي الشاعر الإسلامي في العصر الأموي: وقد تأدّب بأخلاق القرآن الكريم.
فَإِن قَدَحوا لي نارَ زندٍ يَشينُني قَدَحتُ لهم في نارٍ مكرُمةٍ زنْدا
وَإِن بادَهوني بِالعَداوَةِ لَم أَكُن أُبادِهُهُم إلاّ بما يَنعَت الـــــرُشدا
وإِن قَطَعوا مِنّي الأَواصِر ضَلَّةً وَصَلتُ لَهُم منّي المحَبَّة وَالوُدّا
وَلا أَحمِلُ الحِقدَ القَديمَ عَلَيهِم وليس كريم القوم من يحمل الحقدا
والمسلم الملتزم بأحكام القرآن الكريم والسنة المشرفة، هو من يتحكّم في غرائزه ويليّن قلبه وطباعه ويهذب أخلاقه ويتواضع مع خلق الله من غير تعال ولا استكبار ولا انتفاخ زائد على اللزوم، وإن علت منزلته بمنصب أو مال أو جاه أو وجاهة، ويجعل الروابط الإسلامية الخيّرة هي المعتبرة في إنشاء العلاقة بينه وبين غيره من عامة المسلمين، وأن هذه العلاقة تبنى على وحدة العقيدة والدين والمحبة والتعاون في السراء والضراء وفي المنشط والكسل، لقوله صلى الله عليه وسلم، في الحيث المروي عن ابن عمر رضي الله عنهما، وأخرجه البخاري في كتاب المظالم والغضب: “المسلم أخو المسلم، لا يظلمه، ولا يسلمه، من كان في حاجة أخيه، كان الله في حاجته، ومن فرج عن مسلم كربة، فرج الله عنه بها كربة من كرب يوم القيامة، ومن ستر مسلما ستره الله يوم القيامة”.
حدّد الحديث الشريف ست خصال، يتعين على المسلم مراعاتها حينما يتعامل مع أخيه المسلم، وهي: ألا يظلمه ظلما ماديا كأخذ شيء من ماله أو متاعه، أو ظلما معنويا بالانتقاص من قدره ومكانته ومنزلته وعلمه وفضله وأخلاقه، ولا يسلمه لعدوه أو لمن ظلمه ولو بمقالة سوء في عرضه، فوجب الدفاع عنه بذكر محاسنه وإخفاء معايبه وسترها، وأن يعينه إن احتاج إلى معونته، مادية كانت أو معنوية، أو بالسعي لقضاء حاجته إن كان الساعي أقدر منه في ذلك لجاهه أو وجاهته أو سمعته، وأن تفرج عنه مشقة مما قد يتعرض لها في حياته، ضائقة مال أو دين أو قضاء حاجة مما قد تضيق به سبلها…، وأن يستر عيوبه ومثالبه وقبائح فعله ولا يفضحه أمام أهله أو أصحابه أو جيرانه أو زملائه في العمل.
يتبع