رمضان … وفقه الأولويات في الطاعات
الصالح سلطاني/
ما أن يهل علينا هلال رمضان حتى يتواثب المسلمون على الطاعات و القربات لما يعلمون أن الأجور مضاعفة في هذا الشهر الفضيل، غير أن المسلم الحصيف في هذا الشهر هو الذي يكون عمله فيه على بصيرة فلا يُقدم على أي عمل ولا ينفق على أي مشروع ولا يقصد بابا من أبواب الخير إلا وهو يعلم أن ذلك هو خير ما تُنفق فيه الأموال وتبذل فيه المهج ،وربما حاز الأجر الجزيل بالعمل القليل وهذا هو معنى المتاجرة مع الله المذكورة في سورة الصف، فكما أن التاجر لا يُقبل إلا على السلعة التى تجلب له أعظم ربح ممكن، فكذلك المسلم لا ينبغي له أن يُقبل إلا على ما هو مراد للشارع بالقصد الأول، وهو بهذا يستثمر في قرباته أعظم الاستثمار ويتكثر في أجوره أعظم الاستكثار وهو ما يعرف في الفقه الإسلامي المعاصر ب”فقه الأولويات”، ودعني هنا أميز لك ثلاثة قواعد تضمن بها الاستثمار الأمثل لأعمالك في رمضان :
1/ الحرص على إخلاص العمل لله: كثيرة هي النفوس التى تسأم من التذكير بالاخلاص ،ولكن يبقى التذكير به أمرا مؤكدا لا مناص منه لأن الاخلاص أساس الأعمال والعمل بلا إخلاص باطل الأجر مردود على صاحبه فلا ينظر فيه إلى الأجر ناهيك عن مضاعفته ،الاخلاص من أعظم أسباب مضاعفة الأجر قال تعالى: {وَمَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ وَتَثْبِيتًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ أَصَابَهَا وَابِلٌ فَآتَتْ أُكُلَهَا ضِعْفَيْنِ فَإِنْ لَمْ يُصِبْهَا وَابِلٌ فَطَلٌّ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (265)} [البقرة: 265] “”وتثبيتا” قال ابن عباس وقتادة: معناه احتسابا من أنفسهم” ومعنى الآية في المجمل كما قال أهل التفسير أن هذه الربوة تُؤتي أُكلها مضاعفة سواء أصابها مطر غزير أو أصابها مطر خفيف ،ولكن أهمية الاخلاص لا تتوقف هنا بل هي أعظم ما تكون فضلا حين يؤجر المرء على إخلاصه وإن لم يعمل وفي الأثر –وإن كان فيه ضعف- “نية المؤمن خير من عمله” ولكن يشهد له حديث البخاري “فَمَنْ هَمَّ بِحَسَنَةٍ فَلَمْ يَعْمَلْهَا كَتَبَهَا اللَّهُ لَهُ عِنْدَهُ حَسَنَةً كَامِلَةً” وقوله صلى الله عليه وسلم«لَقَدْ تَرَكْتُمْ بِالْمَدِينَةِ أَقْوَامًا مَا سِرْتُمْ مَسِيرًا، وَلَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ نَفَقَةٍ، وَلَا قَطَعْتُمْ مِنْ وَادٍ، إِلَّا وَهُمْ مَعَكُمْ فِيهِ» ، قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَكَيْفَ يَكُونُونَ مَعَنَا، وَهُمْ بِالْمَدِينَةِ؟ فَقَالَ: «حَبَسَهُمُ الْعُذْرُ» رواه أبو داود وأصله في البخاري فأكثر من نية الخير فإنك تعامل كريما.
2/ ابتغاء النفع: ليس أحب إلى الله بعد الإخلاص له من نفع المسلمين ،ومن تأمل الشريعة وجدها تميل في أحكامها إلى نفع المسلمين ويظهر ذلك أكثر ما يظهر في أحكام الكفارات ،فليس أحب إلى الله بعد أداء فرائضه من نفع المسلمين ففي الحديث : “أَحَبُّ النَّاسِ إِلَى اللهِ أَنْفَعُهُمْ لِلنَّاسِ ، وَأَحَبُّ الأَعْمَالِ إِلَى اللهِ سُرُورٌ تُدْخِلُهُ عَلَى مُسْلِمٍ ، أَوْ تَكْشِفُ عَنْهُ كُرْبَةً ، أَوْ تَقْضِي عَنْهُ دَيْنًا ، أَوْ تَطْرُدُ عَنْهُ جُوعًا ، وَلَئِنْ أَمْشِي مَعَ أَخٍ لِي فِي حَاجَةٍ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ أَنْ أَعْتَكِفَ فِي هَذَا الْمَسْجِدِ شَهْرًا فِي مَسْجِدِ الْمَدِينَةِ … وَمَنْ مَشَى مَعَ أَخِيهِ فِي حَاجَةٍ حَتَّى يُثَبِّتَهَا لَهُ ثَبَّتَ اللهُ قَدَمَهُ يَوْمَ تَزُولُ الأَقْدَامُ” أخرجه الطبراني وصححه الألباني، والنفع على أقسام : أولها عظم النفع كإنقاذ نفس أو حفظ عضو أو هداية شاب فالنافع هنا أتى بعمل عظيم لا يعلم أجره إلا الكريم سبحانه ،وهناك طول النفع ونقصد به إستمرار ذلك النفع لمدة طويلة وهو أحب الأعمال إلى الله وتتجلى فيما يسمى الوقف ،وما أعظم ذلك الوقف الذي يكون عظيم النفع طويله، ما أحوج المسلمين اليوم إلى وقف بعض آلات الكشوف الطبية التى يجاوز بعضها مرتبات بعض محدودي الدخل أو يجاوزها .
3/ استغلال الاستثناءات: لكل عمل أصل يؤدى على وفقه فالصدقة مثلا الأصل فيها والأفضل أن تؤدى سرا لقوله تعالى:{إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإِنْ تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَيُكَفِّرُ عَنْكُمْ مِنْ سَيِّئَاتِكُمْ} [البقرة: 271] ولكن قد يحصل الاستثناء وتصبح صدقة العلن أفضل من السر عندما يراد منها مثلا التشجيع على الصدقة، فهنا اعلم بأن الأجر أصبح مضاعفا عن ما كان في الأصل ،من الاستثناءات التى يجدر الإشارة إليها في هذا الشهر الفضيل أن أعمال البر المقدمة فيه إنما هي قراءة القرآن وإطعام الطعام ،أما قراءة القرآن فلقوله تعالى :{شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ} [البقرة: 185] وهذا القرن بين رمضان والقرآن لم يأتي عبثا ،فلهذا كان سلف الأمة يتركون حلق طلب العلم وبثه التى هي مقدمة على قراءة القرآن في العادة إلى العكوف على قراءة القرآن ،وأما إطعام الطعام فلأن الذي يفطر صائم يكون له مثل أجره ففي الحديث: “مَنْ فَطَّرَ صَائِمًا كَانَ لَهُ مِثْلُ أَجْرِهِ، غَيْرَ أَنَّهُ لاَ يَنْقُصُ مِنْ أَجْرِ الصَّائِمِ شَيْئًا” رواه الترمذي وصححه، ولهذا كان الإمام الزهري رحمه يقول إذا دخل رمضان: “إنما هو تلاوة القرآن وإطعام الطعام”.