عوائق النهضة: فوضى المصطلحات وارتباك المفاهيم
د. بدران بن الحسن */
تواجهنا في واقعنا اليوم بعض المصطلحات سواء من داخل مجتمعاتنا أو موروثنا الثقافي، أو مصطلحات وافدة علينا من مجالات ثقافية وحضارية مختلفة، تجعلنا – هذه المصطلحات- في حالة اضطراب وارتباك، سواء في طريقة استعمالها أو في المضامين التي تحملها، وما يفهمها البعض منها ويخالفه البعض الآخر، مما يجعلنا في موقف تساؤل عن خطورة المصطلحات، والحاجة إلى «المشاحّة» فيها أو على الأقل في ما تحمله من مضامين.
وقد أشارك مالك بن نبي في عديد المواضيع من كتبه إلى أهمية تبين استعمال المصطلحات وما تحمله من مفاهيم، وأن بعض المصطلحات تحمل أفكارا ميتة، وبعضها يحمل أفكارا مميتة. بل أن بعض المصطلحات يمثل عائقا كبيرا أمام تحقيق نهضتنا الحضارية، بفعل ما يكتنزه المصطلح من مضامين، أو بفعل الفوضى في استعماله، أو اختلاف المفاهيم التي تؤخذ من مصطلح واحد، دون مراعاة اختلاف السياقات الثقافية والانتماءات الحضارية والمرحلة التي يمر بها مجتمع معين، بحيث يقع الخلط في استعمال المصطلح، مما يؤدي إلى ارتباك في المفاهيم التي تستنبط منه ويتم تنزيلها في واقعنا.
ولذلك فإننا في هذا المقال نحاول أن نتناول «فوضى المصطلحات وارتباك المفاهيم» باعتباره من عوائق النهضة، لما تحدثه هذه المصطلحات من خلال فكري واهتزاز في الوعي، واضطراب في المواقف والبرامج والسياسات والمشاريع.
فمصطلحات مثل التنوير، أو العقلانية، أو السلفية، أو المواطنة، أو العلمانية، أو الإسلام السياسي، أو المثلية أو «الجندر»، أو النسوية، أو الإرهاب، أو التطرف، أو غيرها من المصطلحات. تهز الوعي، وتؤثر عند تبنيها دون ضبط ودون مشاحّة في مضامينها، فإنها تؤثر في مستوى البرامج والمناهج والسياسات، وتربك واقعنا الذي نسعى إلى الخروج به إلى تأسيس متين يستعيد لمجتمعاتنا وأمتنا مكانتها ودورها.
وإن الناظر اليوم في واقعنا يجد هذه الفوضى في المصطلحات تكاد تحاصرنا في كل زاوية، بحيث تم استيراد مصطلحات من التاريخ أو من الغرب أو الشرق، وانتشرت، وتم استعمالها بمضامين مختلفة، مما أنتج اضطرابا فكريا ومفاهيميا، نجد له آثاره في الارتباك الحاصل في ضبط مناهج التفكير، أدى إلى تصرفات فردية وجماعية، وإلى مواقف وقرارات أربكت مجتمعاتنا، وأدخلتها في فوضى، وتمزق بفعل ما تحمله هذه المصطلحات من فوضى، وما أحدثته من ارتدادات فكرية وقيمية واجتماعية.
وبخاصة فوضى المصطلحات في ميدان العلوم الاجتماعية والإنسانية، وفي وسائل الإعلام ووسائط التواصل الاجتماعي، وفي قرارات المنظمات الأممية والدولية، حيث أنها في جوهرها ثمرة لسياق حضاري غربي، تحمل كثيرا من خصوصية الإنسان الأوروبي وثقافته ورؤيته الكونية ونمط حياته. وبفعل الإشعاع العالمي للحضارة الغربية ومشروعها وثقافتها، فقد شاعت معها مصطلحاتها، التي يراد تعميمها وعولمتها، وإكسابها صفة العالمية.
ولعل هذا ما جعل الدكتور محمد عمارة يخصص كثيرا من جهده العلمي والفكري إلى «معركة المصطلحات»، ويخص بالذكر معركة المصطلحات بين الإسلام والغرب. إذ يرى أننا «في عالم يموج بالمفاهيم المغلوطة، والمقولات المغالية، والمصطلحات التي لم يتم تحرير مضامينها، وبعد أن تجاوزت هذه المفاهيم والمقولات والمصطلحات ميدان الفكر إلى حيث فجّرت وتفجّرت عنفاً دموياً، عانى ويعاني منه ملايين العباد في كثير من البلاد، فمن الواجب المبادرة إلى تحديد المفاهيم وتحرير المقولات، وبيان المضامين العلمية الدقيقة للمصطلحات؛ وذلك لترشيد الفكر، ودعوة كل الفرقاء من كل الديانات والمذاهب والاتجاهات إلى كلمة سواء» (عمارة، تحرير مضامين المصطلحات، 2015).
لأن تحقيق الفهم المشترك بين الناس؛ سواء أكانوا ينتمون إلى مجتمع واحد أو مجتمعات مختلفة، ومن أجل التحاور والتعاون والتعارف ومن أجل فض المنازعات وتبيّن الحق من الباطل، لا بد من الاتفاق على المضامين وتحرير المصطلحات المستخدمة. وهذا ما جعل الدكتور محمد عمارة أن «أغلب حواراتنا هي ضحايا بائسة للفوضى الشائعة في مضامين المصطلحات.. وعلينا – كي يفهم كل منا الآخر، ولتحديد مناطق الاتفاق ومناطق الاختلاف، ولتنظيم حوار موضوعي وجاد وبناء – أن نبدأ بتحرير وتحديد مضامين ومفاهيم المصطلحات» (معركة المصطلحات، 2004، ص 22).
ولعل الحضارة الغربية بإشعاع منتجاتها الحضارية وفوضاها على العالم، أحدثت خلطا عجيبا في المصطلحات التي ذكرناها سابقا وغيرها من المصطلحات. وفي حوار له مع «مركز الأمة للدراسات والتطوير» بتاريخ 26 يوليو 2021، يقول محمد عمارة: «نتيجة الاحتكاك بالحضارة الغربية فقد حدث نوع من الخلط في مضامين المصطلحات، والمصطلح لا مُشّاحة فيه؛ لأنه مثل الكوب الذي يشرب فيه الإنسان أي شيء، لكن المشاحة في ما هو بداخل هذا الكوب، في المضمون وفي المفهوم والمحتوى، والناس قد خلطوا وأخذت المصطلحات ـ وبالذات في ظل هيمنة الحضارة الغربية، أخذت المصطلحات بمضامينها الغربية، بمعنى أنه حصل نوع من الغزو الثقافي لمضامين المصطلحات».
فالمصطلح وعاء يوضع فيه مضمون، ويتحول إلى أداة، تؤدي وتحمل معنى ورسالة. فالمصطلحات تؤدي دور الأوعية والأدوات في السياق الثقافي والاجتماعي والحضاري الذي ولدت فيه ونشأت ونضجت، وتعبر عن رؤية كونية وعن نمط تفكير وعن معايير قيمية، وبها حمولة ثقافية. وخذ أي مصطلح من المصطلحات المتداولة فستجده كذلك. وعدم مراعاة ضبط المصطلح، وتبين السياق الذي نشأ فيه والحمولة التي يحملها، والقيمة التي يتضمنها، والرؤية الكونية والعقدية المعبر عنها، يؤدي إلى خلط كبيرة في المصطلح وفي استعماله، ويجعله يفقد مضامينه أو يسرِّب مضامينه في وعينا دون أن نعي.
ولعل هذا ما جعل الدكتور أبو زيد المقرئ الادريسي ينبه على خطورة المصطلح في بناء الوعي ورسم المناهج وبناء البرامج والسياسات. وهو الأمر الذي انتبه له بناة تراثنا العلمي والفكري الأول في الحضارة الإسلامية، بدل اعتمادهم الكلي على المصطلحات التي جاءت من علوم الأوائل.
وهذا ما ينبغي أن نقوم به اليوم، حتى لا نبقى حبيسي فوضى المصطلحات اليوم ومضامينها ومفاهيمها المربكة لسعينا نحو الخروج من التخلف وتحقيق نهضة حضارية تستعيد لأمتنا مركزيتها وسيادتها وشهودها بدل البقاء تابعين لغيرنا في مصطلحاتهم التي تزيدنا تبعية ودونية.
* مركز ابن خلدون للعلوم الإنسانية والاجتماعية/ جامعة قطر