بشأن الرؤية: “دعوة إلى التقييم الموضوعي”/ حسن خليفة
من المقولات المهمة التي يمكن الاعتداد بها في مجال العمل والإنجاز، للأفراد والهيئات والمؤسسات مما يجري على ألسنة المهتمين بشؤون تطوير المؤسسات والأفراد قولهم: “إذا لم تعرف أين تقف، فلن تعرف أين تتجه”. وقولهم: “إذا عرفتَ بوضوح ماذا تريد.. سيسهل عليك تحقيق ما تريد”.
ولو سحبنا هذين الأمرين على الشأن المتصل بالجمعية، ونحن على أعتاب الجمعية العامة (المؤتمر الذي ينعقد كل خمس سنوات) لأمكن لنا أن نتساءل بروح المسؤولية والموضوعية: أين نحن الآن؟ بمعنى آخر: أين تقف الجمعية اليوم، بعد أن قطعت هذا المشوار الطويل ـ نسبياـ منذ بدايات عقد التسعينيات في القرن الماضي؟ ماذا حققت من أهداف وغايات؟. وماذا أنجزت من منجزات وقدمت من أعمال باقية ذات أثر ونفع ورجحان؟ وبالطبع سيكون ذلك بالقياس إلى ما تمّ تسطيره وتسجيله في مختلف التوصيات والحصائل المقدمة في اللقاءات، ومنها لقاء المجلس الوطني الأخير.
لعل مقتضى الأمر يستوجب تسجيل أن الجمعية عرفت تطوّرا ملموسا في أعمالها وأنشطتها وسائر فعالياتها، فقد اتسع مدى انتشارها أفقيا وعموديا، وتضافرت الجهود في إقامة الأنشطة المنتظمة في كثير من الميادين التربوية ـ التعليمية، والثقافية، والدينية، والفكرية…الخ. كما أن أعمالها شملت الكثير من الميادين، بما في ذلك حتى ما ليس جزء أصيلا من أعمالها وأنشطتها كالإغاثة والمساعدات الاجتماعية، ودعم الفئات المحرومة والتعاون مع الجهات المختصة في هذا المجال.
ولكن الأمر في حاجة إلى معرفة “النتائج” و”الثمرات” الحقيقية، مما هو منتوج أصيل وإنجاز أساسي للجمعية ضمن حقول نشاطها الرئيسة، كما أن الأمر يحتاج إلى معرفة ما تحقق على وجه التحديد..؟ وما هو مطلوب تحقيقه في الآجال القريبة والمتوسطة على الأقل. وحيث إن هذا الأمر في حاجة إلى تناول جماعي ومشاركة الأكثرية ممن يهمّهم أمر الجمعية، وبالأخص من يهمهم أمر تقدمها وانتشارها وتحسّن أدائها واتساع مدى تأثيرها، ويهمّهم أن تكون الجمعية واحة ظليلة وخيمة وسعة وميدان عمل ودعوة وإصلاح وإرشاد وتعليم وتوجيه، لا تحتكر ذلك بطبيعة الحال، ولكنها تجتهد في أن تكون الأكبر والأكثر تأثيرا، والأقوم تمثيلا، وكان هذا ضمن الأهداف التي سطرتها “وثيقة البصيرة” التي وضعت ونوقشت في الجامعة الصيفية الأولى والثانية قبل سنوات قليلة؛ حيث نصت بعض التوصيات في تلك الجامعة الصيفية المخصّصة على صناعة الرؤية الخاصة بالجمعية..، أي أن تكون (أي الجمعية) في أفق 2031م واحدة من أكبر الجمعيات الدعوية في العالم العربي؟ وأن يبلغ تأثيرها مدى يسمح بقياسه بكثرة من انتفعوا من الجمعية في السنوات الخمس عشرة السابقة 2016م/2031م.
ودعنا نذكِّر هنا بأهمية استحضار الرؤية التي هي “بوصلة ” هادية وقائدة، لا تظهر لنا فقط الاتجاه المطلوب، بل تظهر لنا أيضا ما يسمح بقياس المنجزات في شكل ملموس، بين فترة وأخرى (كل عام أو كل عامين أو أكثر من ذلك).
إذا أردنا وضع الإطار العام لأي تقييم موضوعي ممكن فنقول: إن أهداف الجمعية الحيوية التي هي مبتغى أساسي وهدف رئيس يكمن تحقّقها وقياسها بـ:
1ـ انتشار الصلاح على أكبر وأوسع نطاق ممكن في المجتمع.
2ـ الوصول إلى دفع الناس إلى انخراط حقيقي في حياة راقية مستقيمة؛ بنشر المعارف الدينية والإيمانية، ومحو الأمية الدينية؛ وتحفيز الناس على طلب “الحلال” والانفكاك عن “الحرام” في كل مجال وميدان، قدر المستطاع.
3ـ الاجتهاد في بلوغ سقف أعلى في مجال التهذيب والهداية لمجموع أبناء وبنات المجتمع، بمختلف فئاته وشرائحه (رجال ـ نساء ـ كبار ـ شباب ـ صغار..الخ).
4ـ انتشار نمط من المؤسسات المتميزة في مختلف ميادين وحقول العمل الصالح (في التعليم ـ الطب ـ الإرشاد ـ تعليم المهن ـ الإصلاح الإيماني والاجتماعي ـ تحسين الأداء وتطوير الأفراد ـ التأهيل والتدريب…الخ).
5 ـ تقديم نماذج مضيئة أفرادا ومؤسسات وهيئات تكون قدوة ومنارات هادية، ورموزا للخير والفعل الراشد.
ويمكن التدقيق في هذه الأهداف، بعد ذلك، بالأرقام والإحصاءات والبيانات والتحليلات وما أشبه، لبلورة وقياس كتلة الصلاح التي تحققت والتقدم الذي أُنجز.
أسارع إلى القول هنا: إن إي مشكلة أو اختلال في مسيرة أي منظمة أو هيئة أو مؤسسة سيكون قصور الرؤية هو أحد أهم الأسباب فيها. وأعني بقصور الرؤية عدم اتضاح الأهداف بشكل منهجي دقيق، كما يعني التلكؤ في السعي والعمل لتحقيق تلك الأهداف وفق جدول زمني محدد ومنتظم. كما يعني ـ أيضا ـ ضعف الانسجام في سلوك الأفراد، وضعف الدافعية وقلة الكفاءة، وربما كان من بين الأسباب الاختلاف ـ ظاهرا أو خفياـ في التصورات والرؤى بين أفراد المنظمة في أي مستوى كان: المستوى القيادي الأول، أو باقي المستويات الأخرى.
والحال أن جمعية العلماء اليوم في حاجة إلى مثل العمل التقييمي الصادق فيما مضى، والاجتهاد فيما هو آت، لبلورة مشروع دعوي ـ إصلاحي بنّاء ذي سقف عال، وبرؤية واضحة دقيقة البرامج، واضحة الملامح، محددة الأهداف، مع توفير آليات القياس اللازمة؛ وأعتقد أن أهم ما ينبغي التركيز عليه يكون في أمرين:
فأما الأمر الأول يتم عبر الاهتمام بالمورد البشري باجتذاب أكبر للكفاءات ـ في مختلف الميادين ـ إلى الجمعية والعمل على انصهارهم في بوتقتها، خاصة وأن الجمعية فضاء واسع، مرن، يتسع لكل أهل الصلاح والعلم والعمل والخير. وهنا، في تصوري على الأقل، ينبغي أن يكون سقف الطموح كبيرا: باستقطاب المئات إن لم أقل الآلاف من هؤلاء، وتيسير اندماجهم في الجمعية، والحرص على إيفائهم حقوقهم وتمكينهم ـ ككفاءات وكوادر ـ في جو يزيّنه العمل المؤسسي، ويغلب عليه روح الفريق والجماعة، وليس الفرد والزعيم والشيخ، وهو ما تمّ بالنسبة للسنوات الماضية، حيث كان النقاش والحوار والرأي، والرأي المخالف والتناصح، والحجة هو ما يحكم لقاءات الجمعية في مختلف المجالات سواء في اللقاءات التنظيمية (اجتماعات المكتب الوطني)، أو في غيرها من اللقاءات الأخرى.
وأما الأمر الثاني فيتم عبر تعظيم الجانب الأخروي في كل أعمال الجمعية وتنمية ثقافة الآخرة في نفوس وقلوب المنتسبين والمنتسبات بقدر أكبر وأعلى مما يعظم شعائر الله تعالى، ويدفع إلى ركوب سفينة التقوى والفرار إلى الله تعالى، والزهد في مطامح ومطامع الدنيا الزائلة.
وأما الأمر الثالث فيتم عبر تحسين طرائق الاتصال والتواصل وتفعيلها إلى أبعد حد ممكن، بالإدارة الفعالة، والتنظيم المحكم، والمتابعة الإيجابية واليقظة والحرص والحماسة في خدمة الدين والوطن.
ولا ريب أن هناك مسائل وقضايا أخرى في حاجة إلى المناقشة والمدارسة، كما نأمل أن نجد جميعا الطريق إلى بحثها في مناسبات قادمة.