مقاربات

الـمثل العــربي دراســـــــة في نشأتــــه وتطــــوره المثل العربي في الجاهلية وفي صدر الإسلام

(الحلقة الثالثة)

أ. د. محمد عيلان */

 

 

أ ـ في الجاهلية:
العرب في الجاهلية كغيرهم من الأمم تداولوا الأمثال وعنوا بها، ورأوا أنها أجل مرتبة في كلامهم كالشعر تماما. ففاخروا بها، وعدوها من معارفهم التي تسجل حياتهم وعاداتهم وتقاليدهم، وإن بدا أثرها واضحا بكثرة في تنظيم شؤونهم الاجتماعية والقبلية والقومية. ولا أدل على تلك العناية من مفاخرة النعمان بها في حضرة كسرى أنو شروان، كما جاء في المناظرة التي جرت بينهما في شأن العرب: (.. قال النعمان: وأما الأمم التي ذكرت فأية أمة تَقْرنها بالعرب إلا فضـلتها، قال كسرى: بماذا؟ قال النعمان: بعزها ومنعتها، وحسن وجوهها وبأسها وسخائها وحكمة ألسنتها.. وأما حكمة ألسنتهم فإن الله أعطاهم في أشعارهم، ورونق كلامهم، وحسنه ووزنه ليس لشيء من ألسنة الأجناس) 25.
ولما كانت الأمثال والحكم من معارف العرب بما لها من صلة بمعتقداتهم وأحكامهم وحياتهم، فإننا نجد العناية بها من جانب الدارسين قد نالت حظوة هامة، واعتنى بها اللغويون والمؤرخون والمفكرون، وكل من تناول العرب وتاريخهم وحياتهم بالدراسة؛ جمعوها ودرسوها دراسة مستفيضة، ظهر ذلك فيما توفر لدينا من إشارات إلى مؤلفات فقدت أو مؤلفات هي بين أيدينا ندرسها ونتذوق أدبها. وسنذكر بعض المؤلفين القدامى الذين اهتموا بجمع الأمثال.
غير أن عملية الجمع التي قام بها الجامعون الأوائل من الرواة أو غيرهم، قد شابها التحريف والتبديل كما شاب غيرها من موضوعات الأدب والتاريخ. ذلك أنها جمعت ممن يتداولونها مشافهة. وكان الهدف من هذا الجمع حل معضلة التقعيد، وإيجاد المخارج لأوجه الكلام العربي ومعانيه من خلال شيوعه وتداوله في أحاديث الأعراب. وقد كان لذلك أثره فيما نلمسه أحيانا عند قراءة الأمثال العربية وما فيها من تجاوز السليقة أحيانا، إذ يبدو في بعضها التصنع الجلي. وقد عرف مثل هذا التغيير والتبديل في كتب التاريخ والأدب أيام ازدهار مدرستي (البصرة) و(الكوفة) وتنافسهما في البحث والتفوق، وهو ما كان مدعاة لأن يتهم بعضهم بالانتحال، وإضافة ما لم يكن من الأدب القديم.
ولعل ما يبرر هذا الرأي هو أننا نجد في بدايات تدوين الأمثال أنها قليلة من حيث الكم، بالرغم من قرب العهد بالمجتمع البدوي الذي لم تداهمه الحضارة. إذ وجدنا أنه كلما بعد العهد، ازدادت كمية المصنفات وعدد الأمثال لدرجة أن أُدرج الكثير من الأقوال في باب الأمثال، وفي أحيان أخرى اختلطت بالحكمة 26. كل ذلك كان ضمن الأمثال العربية. وهذا التوسع في الجمع من حيث الكم أو من حيث ما أضيف إلى الأمثال العربية وعُدَّ منها، لم يدرس كما درس كشاهد يفك معضلة لغوية، أو يفتح بابا لقاعدة لغوية جديدة، أو يكون درة تزين جبـين قصـيدة من قصائد شاعر وهكذا.
ولو حاولنا تتبع تاريخ تدوين الأمثال العربية رأينا أنه كلما تقدم الزمن بالأمة العربية بعْد القرن الأول للهجرة، أزداد عدد ما يجمع من البوادي وأفواه الناس. كما أن هؤلاء الجامعين قد حذفوا ما يخالف التعاليم والأخلاق الإسلامية. لأننا عندما نقرأ هذه الأمثال التي أوردها الميداني أو غيره ممن سبقه، نجدها لا تخرج عن المنطق العام الذي هو منطق الإسلام، ولا أثر للأخلاق الجاهلية المنحرفة، أو علاقة المجتمع مع معتقده، مما كان سببا في مواجهة الإسلام ورفضه. ومثل هذا يدعم ما ذهبنا إليه من أن الأمثال كغيرها، تعرضت لعملية تغيير من حذف وزيادة من قبل الرواة.
ولو نظرنا إلى الأمثال الجاهلية التي وصلتنا، في ضوء ما ذكرنا، وجدناها على قسمين:
1 ـ قسم منها صقلته الصنعة، فأحكمت بنيانه وهو مما ورد على لسان الشعراء والحكماء والكهان.
2 ـ وقسم ورد على لسان العوام، فهو عفوي يرتبط بأبسط ما يعتور الإنسان في يومه وليله من مشاق الحياة.
وموضوعات الأمثال في الجاهلية لا تعدو حياة العرب العادية، لأنها مستقاة منها معبرة عنها. فحضور البيداء ورمالها وأرضها وحـيواناتها وحشـراتها، وعادات العــرب وتقاليدهم وأخلاقهم، وغزواتهم وحروبهم، كل ذلك يكون موضوعا أساسا في الأمثال. وهذا اللون من الحياة ـــكما تصوره الأمثال ـــ نجده قد صاحب العرب الفاتحين إلى أصقاع الدنيا، فصادف الروح البدوية التي كانت صفة مميزة لهم فامتـزج الجميع وكونوا أمة قوامها الأخلاق والقيم الحياتية المشتركة، وعمادها الدين الإسلامي.
وقد كونت هذه الأمثال مع غيرها من الشعر والأخبار مرجعا مهما، أتاح لنا التعرف على جوانب مهمة من التاريخ الاجتماعي والثقافي للمجتمع العربي. فهي تطلعنا على طبيعته وتطوره. وعندما جاءت الفترة الإسلامية، ظلت الأخلاق العربية لبوسا للعربي، كما أن الإسلام لم ينبذ منها إلا ما كان مخالفا مضرا بالمجتمع. وهو ما بدا واضحا فيما نقله إلينا الرواة.
ب ـ في صدر الإسلام.
أشرق الإسلام بنوره على شبه الجزيرة العربية، فأضاء الحياة العربية، وأعاد النظر في كثير من القيم السائدة، فألغى الإله القبلي، ودفع الناس إلى عبادة إله واحد للعالمين غير مادي (لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ) الأنعام 103. (وهو الذي يعلم سرهم ونجواهم) التوبة 78. و(هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ) الحشر 22.
وتوحد المسلمون تحت راية التوحيد، وسوى الإسلام بينهم أمام الله، وجعل الأخوة لا تقوم على العرق بقدر ما تقوم على التلاقي في دين الله، وأن المؤمنين إخوة في ذلك. ونتيجة لهذه التوجيهات، نشأت علاقات جديدة بين العرب، وغيرت من البناء الاجتماعي القديم؛ الذي كان يقوم على الفوارق الطبقية، المتمثلة في السادة والأشراف والأغنياء، والفقراء والعبيد. وكل ذلك يحكمه النسب والانتماء العرقي، وما يُحاط به من تقديس وتفاخر.
كما أن صلة الإنسان بأسرته وأبنائه وزوجته وكل أقاربه في ظل الإسلام قد أخذت معان جديد، غيرت مما كان سائدا، وتبعا لذلك أمور الحرب وعمليات السطو كالنهب والإغارة والثأر والانتقام، ولذا فإن أغــلب الـمُثُل التي كانت عليها الجاهـلية قد أعطى الإسلام فيها وجهة نظر، فمنها ما ألغاه ومنها ما عدله ومنها ما تركه. وعوَّض القرآن وحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم كثيرا من ذلك المـوروث الثقافي الجاهـلي بموروث إسلامي؛ فكانت الآيات القرآنية موعظة ومنهجا يذكر الناس بالحياة الجديدة. وكان حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو أفصح العرب. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أنا أفصح من نطق بالضاد، غير أني من قريش) رواه البخاري. قد أضاف رصيدا إلى ما كان للعرب من معلومات عن البيئة وعن الحياة وعن القرآن والمورث الثقافي.
وهكذا نجد الإسلام بتعاليمه وروحه السمحة، قد بعث في الناس روحا جديدة، وكون شخصية أخرى تقوم على مبادئ غير مبادئ وسلوك الشخصية الجاهلية، وفي الوقت نفسه أبقى على بعض ممارساتها وخصائصها، كحب الحرية والشجاعة والكرم، والدفاع عن الشرف، وغير ذلك من الأخلاق العربية الفاضلة. وخلال قرن واحد كانت الثقافة الجاهلية الوثنية قد أخذت في الزوال، ورأينا الرواد من جامعي التراث يصادفون ثقافة عربية، تلاحمت مع الثقافة الإسلامية الجديدة وكونت الرصيد الذي كان للأمة العربية منهلا ثَرًّا، ترجع إليه و تمتح منه. ولذلك لا نكاد نعثر لدى الدارسين للأمثال العربية على محاولة التمييز بين الأمثال الجاهلية والإسلامية سواء من القدماء أم من المحدثين، الأمر الذي يدفع إلى التساؤل عن هذا التطابق في الحياة رغم اختلاف توجهات الفترتين.
ولم يقتصر الأمر في ذلك على تأثير الإسلام في الأخلاق والإبداع الأدبي العربيين على منطقة شبه الجزيرة العربية، بل تجاوزها إلى حيث كان للإسلام والعربية وجود، فتغيرت معالم الحياة وتغيرت معها القيم، وبالتالي كان ذلك مؤثرا في الإبداع والموروث الثقافي لتلك الشعوب التي مزجت بين تراثها والتراث الإسلامي ونبذت ما خالف ذلك، كما هو الحال في منطقة المغرب العربي وغيرها من المناطق الأخرى.
وما تجدر الإشارة إليه، أن الماضي الثقافي للمجتمعات العربية وغير العربية، ظل مترسبا حاضرا في أشكال وألوان مختلفة، ولبوس غير لبوسه، وهو ما يبدو في بعض الممارسات أو بعض الأقوال التي يعتقد بعض الناس أنها من الأخلاق والتعاليم السماوية، وهي في ملامحها ترجع إلى الوثنية التي علقت بالأذهان؛ فترسبت وبرزت عادات وأنواع من السلوك. وهذا أمر طبيعي في الشعوب المتحولة من ثقافة إلى ثقافة، لأنها لا تنسلخ مباشرة من قيمها وثقافتها المتوارثة. وكلما زادت حدة التغيير زاد التعلق بما علق منها، وبدت في ممارسات ومظاهر أخرى.
وفي ظل هذه الحياة الجديدة وهذه الدعوة إلى ثقافة تحكمها مبادئ غير مبادئ البشر، نمت أمثال وأقوال مصدرها القرآن الكريم والحديث النبوي الشريف، وأقوال وممارسات الصحابة والتابعين، إلى جانب ما كان ينشأ من ممارسة الإنسان في تفاعله مع البيئة مما يستدعي رصده أو الاستفادة من التراكم الثقافي المتوفر لفهمه. لذلك نجد أمثالا وأقوالا هي أساسا آيات وأحاديث شاعت وعبرت عن مقتضيات الإنسان الجـديد مثل: (إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ) الحجرات.13. (وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ) العنكبوت. 18. (وَلَا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتَى) طه . 69 .
(وَأَنْ لَيْسَ لِلإِنسَانِ إِلَّا مَا سَعَى) النجم.39 . (إِنَّ ٱللَّهَ مَعَ ٱلصَّٰبِرِينَ)البقرة 153. (إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ) يوسف 35 . (إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ) الحجرات . 12. (إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا) الشرح .6. (وَقُل رَّبِّ زِدْنِي عِلْمًا) طه. 114. (لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ) البقرة. 256 . (كُلُّ نَفْسٍ ذَآئِقَةُ ٱلْمَوْتِ) آل عمران. 185. (لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا) البقرة ـ 286 .
ومن أقواله صلى الله عليه وسلم: (المؤمن للمؤمن كالبنيان المرصوص يشد بعضه بعضا) 27. وقال: (المؤمنون تَكَافَأُ دماؤهم، وهم يد على من سِوَاهم). وخطب الرسول الكريم في حجة الوداع: (أيها الناس إن الله أذهب (عنكم) نخوة الجاهلية وفخرها بالآباء، كلكم لآدم وآدم من تراب، ليس لعربي على عجمي إلا بالتقوى)28.
وهذه الآيات والأحاديث كلها دعوات في جانب منها ألغت العصبية وعوضتها بقيم أخرى. ولذلك فإن الأمثال التي تدعو إلى العصبية قد خف تداولها. وهو ما بدا ظاهرا في ثقافات الأمم والشعوب التي اعتنقت الإسلام واهتدت بهديه.
وإلى جانب ذلك نجد الصحابة والتابعين قد أثروا الرصيد العربي من الأمثال والأقوال بما كانوا يعظون الناس به.. أو قد يشيرون عليهم به، مما يرد على ألسنتهم من أقوال وحكم. وقد عرف علي بن أبي طالب رضي الله عنه بأقواله وحكمه التي سرت في الناس مواعظ ومنافع دينية ودنيوية.
وباتساع رقعة الإسلام وانتشار العرب عبر الآفاق، ودخول عناصر جديدة تتكلم العربية وتدين بالإسلام، وتتفاعل مع المجتمع العربي، ظهرت ثقافة أخرى تجاوزت ثقافة البادية، فأثرتها بتجاربها عن البيئة وعن المحيط، مما أعطى رصيدا فارسيا وروميا ويونانيا وهنديا وأمازيغيا إلى ما كان للعرب، وهو ما يعرف بأمثال المولدين. فجمعوها ودونوها إلى جانب الأمثال العربية، بلغة العرب، ولأنها رصيد من التجارب الإنسانية التي يمكن أن تفيد البشرية منها. ثم تباعد الزمن بين أبناء الأقطار العربية، فنشأت لهجات ترتكز في ثقافتها على مبادئ الثقافة العربية والقيم الإسلامية، فتبدع وتتمثل ما يلائم تلك البيئة إلى يومنا هذا.

الحلقة القادمة: المثل العربي من الشفوية إلى التدوين والتصنيف والدراسة.

أ . د . محمد عيلان
كلية الآداب والعلوم الإنسانية والاجتماعية
جامعة باجي مختار ــ عنابة
ailafolk@hotmail.com

اظهر المزيد
زر الذهاب إلى الأعلى

مرحبا بكم في الموقع الرسمي لجريدة البصائر

 

تفتح جريدة “البصائر” صفحاتها للأساتذة الجامعيين والمؤرخين والمثقفين، لنشر إسهاماتهم في شتى روافد الثقافة والفكر والتاريخ والعلوم والأبحاث، للمساهمة في نشر الوعي والمبادرات القيّمة وسط القراء ومن خلالهم النخبة وروافد المجتمع الجزائري.

على الراغبين والمهتمين إرسال مساهماتهم، وصورة شخصية، وبطاقة فنية عن سيرهم الذاتية، وذلك على البريد الالكتروني التالي:

info.bassair@gmail.com