من أبعــــــاد أسمــــاء الســـور القــرآنيـــة
عبد العزيز كحيل/
عندما نقول عن القرآن لا تنقضي عجائبه فإننا لا نردد كلاما جميلا توارثناه وتقبلناه عاطفيا وسرى في لا شعورنا بل ندرك جيدا أنها حقيقة يستطيع أن يتأكد منها من يتابع ما يُكتب من البحوث الموضوعية حول كتاب الله، بل خاصة من انهمك في تدبر القرآن بنفسه وتعامل معه تعاملا حيا وتفاعل معه من جميع الجوانب، أي تجاوز التلاوة التعبدية والتجربة الوجدانية إلى التأمل الفكري والنظر المقصدي، انتبه الشهيد سيد قطب إلى وحدة السور القرآنية وأبان في جملة من الأمثلة عن تناسق آخر السورة بأولها وتتابع آياتها تتابعا موضوعيا منطقيا (بينما يرى أركون – بسبب منطلقه الاستشراقي – أن آيات القرآن «ذرات متناثرة لا رابط بينها»، وقد لفت انتباهي وأنا أحاول قراءة الكتاب الكريم قراءة متأنية واعية ما عليه أسماء السور من دلالات باهرة ولطائف بديعة، أظن أن البحث لم يتناولها إلى الآن بما تستحق من اهتمام، وبما أنه كتاب من لدن عليم خبير فلا شك أن لأسماء السور دلالات فيها دروس وعبر وبدائع الحِكم…أدركت من ولوجي للموضوع أن لجميع أسماء السور فقها عميقا، أدركه من أدركه ولم يدركه من لم يدركه، وفيها لمسات إيمانية، وإشارات علمية تجعلنا نفقه جانبا من قول الله تعالى {وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللّهِ لَوَجَدُواْ فِيهِ اخْتِلاَفاً كَثِيراً}…أو قل هي معالم الفهم الصحيح لهذا الدين العظيم الذي قزمته بعض القراءات البليدة وحصرته في الجانب التعبدي وحده وجعلت منه شأنا «دينيا» بحتا أي أقرب إلى المفهوم الطقوسي الكنسي.
نتناول في البحث القصير وعلى سبيل المثال هذه السور الأربع التي تشير أسماؤها إلى مقومات حضارية كبرى:
1 – سورة القلم: في التسمية إشارة واضحة إلى العلم والمعرفة، وهما أساس صلاح الدنيا والآخرة، والسورة من أوّل ما نزل في مكة بعد الكلمة الأولى «اقرأ»، ولعل نزول مطلع سورة القلم مباشرة بعد نزول مطلع سورة العلق تنبيه على أن القراءة مرتبطة بالكتابة، والكتابة وظيفة القلم، فجاء القسم به مشيرا إلى أهميته كأداة لتوثيق الأفكار، وقد أثر عن الإمام الشافعي قوله «لولا المحابر لخطبت الزنادقة على المنابر»، هكذا كانت بداية الوحي قراءة وقلما، وهي دعوة سماوية واضحة لصناعة خلافة حضارية رفيعة تجمع بين الربانية والإنسانية… ولابد من الإشارة هنا إلى أن أول ما خوطب في الرسول صلى الله عليه وسلم عقله قبل قلبه، لم يكن أمرا بالعبادة بل بالقراءة، كما أن الله تعالى أقسم بالقلم وليس بالسيف أو البندقية أو ريشة الفنان، وعندما غابت هذه المعاني أصبح بعض المسلمين يقدسون السيف ويزعمون أنه وسيلة انتشار الإسلام وأنه أصدق إنباء من الكتب، ويحتقرون القلم أو على الأقل يحطون من قيمته ويؤخرون مرتبته، وقد كان المسلمون في الزمن الأول على وعي بهذا الأمر فأقاموا تلك الحضارة التي أسعدت الإنسان ومهدت له طريق الجنة.
2- سورة الحديد: تسمية هذه السورة تكفي وحدها لدحض مزاعم من يحصر القرآن والإسلام في دائرة التعبد وحدها، ماذا يفعل الحديد في كتاب «ديني» بحت وفي دين لا يتجاوز همه شؤون الآخرة؟ التسمية فيها إشارة إلى القوة التي لا تستقيم حياة اجتماعية ولا تقام حضارة إلا بها، وآيات السورة الكريمة تشير إلى الصناعة الحربية {وَأَنزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ}، والصناعة المدنية {وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ}…ولئن كان الجيل الأول قد انهمك في أولوية نشر الإسلام والتعريف به وإخراج الناس من الجاهلية فقد كان ينبغي للأجيال التالية أن تستثمر في هذا المعنى القرآني لتسخر موارد الكون في إرساء قواعد الحياة في سبيل الله من خلال الصناعات الخفيفة والثقيلة والتحويلية وغيرها لتنشيط الحياة الاقتصادية مستحضرة أن من أول ما فعله النبي صلى الله عليه وسلم بعد وصوله المدينة المنورة إنشاء سوق للمسلمين، أي البدء في الاستقلال الاقتصادي للدولة الناشئة…وهل سادت الدول الكبرى إلا بالصناعة التي تقوم أساسا على مادة الحديد؟
3 – سورة الشورى: أقام الإسلام نظامه السياسيي والاجتماعي على أنقاض فوضى الجاهلية وتفلتها من النظام حيث كان يسود – في الغالب – الرأي الواحد، وتسمية السورة فيها إشارة إلى الحرية وتعدد الآراء وقدسية الإجماع أو – على الأقل – صوت الأغلبية وبالتالي نبذ الاستبداد والإرهاب الفكري، وقد جاءت آية الشورى على شكل جملة اسمية {وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ}، وقد صرح علماء البلاغة أن الجملة الاسمية تفيد الثبات والاستقرار، وتفيد ثبوت الوصف لموصوفه، فالشورى بهذا التعبير ثابت من ثوابت المجتمع المسلم وليست مجرد أمر ظرفي أو استشارة مُعْلمة كما هو الشأن في الأنظمة الاستبدادية التي تسبح بحمد الحاكم مهما انحرف وظلم، وقد كان الرسول صلى الله عليه وسلم يتنازل عن رأيه – فيما لا وحي فيه – لرأي الأغلبية كما حدث قبيل الخروج لغزوة أحد، وقال لأبي بكر وعمر «لو اتفقتما ما خالفتكما» (رواه الإمام احمد)، وأبلغ من ذلك سياق نزول قوله تعالى {وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ}، فقد جاء بعد هزيمة أحد التي تنازل فيها القائد عن رأيه لرأي الأغلبية، وكأنه يقول امضوا في العمل بالشورى رغم ما أصابكم في هذه المعركة، فالنصر والهزيمة دول أما الشورى فمبدأ ثابت وعمل مستمر لا يأتي إلا بخير.
4 – سورة الجمعة: كم من مصلح أو خطيب مفوه أو داعية لنحلة معية يريد نشر آرائه وأفكاره بين الناس لكن يتعذر عليه جمعهم وفرض الاستماع إليه من بداية كلامه إلى نهايته، لكن هذا متاح لخطيب الجمعة، وتسمية السورة فيها إشارة إلى حسن استغلال تجمهر المؤمنين للتوجيه والتوعية والإرشاد، والجمعة مشتقة من الاجتماع، وذلك اليوم المبارك يجمع المؤمنين عن بكرة أبيهم في مساجد تضيق بروادها ليس فيها سوى الذكر والفكر، فالتجمهر متاح والإصغاء كذلك…هذا ما يحلم به أصحاب الدعوات على اختلاف مشاربهم، ولنا أن نتصور كيف يكون حال الأمة لو استثمر الخطباء صلاة الجمعة لتحقيق مقاصد التوعية والتعليم والتوجيه، فأمامهم ألوف المؤمنين في حال من السكوت والإصغاء، لا يتكلمون، لا يعترضون، لا يغادرون المسجد… هو مؤتمر أسبوعي من شأنه تجديد الإيمان وتقوية الروابط الاجتماعية وتغذية القلوب والعقول وتنشيط الناس لخدمة دينهم ومجتمعهم، وهذا شيء غير التجمهر الرتيب والمواعظ الباردة والأداء الطقوسي، مع أن حضور الجمعة في حد ذاته عبادة واجبة.
هل فهمنا هذه المعاني ونحن نتلو القرآن؟ وكيف يكون حالنا لو عملنا بها؟ لكن غلبتنا العلمنة حيث أحالت الكتاب الكريم إلى مجرد «مرجع روحي» لا علاقة له بالحضارة والقوة والرقي وقوة المسلمين…نعم، هزمتنا العلمانية، انظروا إلى أصحاب «القلم»(الادارة) كيف زادوا في سعر الحديد كي لا يكون متداولا بين الناس، واستبدوا بالشورى بل ألغوها وعملوا بالمبدأ الفرعوني {مَا أُرِيكُمْ إِلَّا مَا أَرَى}، وجعلوا من يوم الجمعة يوما للكسل مع أنه اليوم الوحيد المذكور في القرآن، فيه عمل صباحا وبعد الصلاة: {وَذَرُوا الْبَيْعَ} قبل الصلاة… {وَابْتَغُوا مِن فَضْلِ اللَّهِ} بعدها…وكثير من المسلمين يقرؤون القرآن كما لو أنهم يقرؤون الجريدة… فما أحوجنا إلى قراءة سوسيوتربوية للقرآن نتطرق من خلالها إلى تسمية باقي السور القرآنية.