ترمب… رصاصة الرحمة على النفوذ الأمريكي/ محمد الحسن أكيلال
لا شك أن الله عز وجل قد استجاب لأدعية ملايين المؤمنين في العالم في كل صلاة وفي كل وقت لوضع حد لجبروت الولايات المتحدة الأمريكية التي فاقت جرائمها الحربية وجرائمها ضد الإنسانية كل عد أو حصر إلى درجة أنها أصبحت مألوفة لدى كل البشر وقضت فيهم على مجرد رفع الصوت في وجهها للاستنكار والتنديد عوض المحاكمة للإدانة والقصاص العادل المطلوب.
فمن الهنود الحمر التي تأسست دولتها على ركام جثتهم و جماجمهم إلى تدخلها في الحرب العالمية الثانية في آسيا بافتتاح وتدشين عهد جديد ونمط جديد للحروب بقصف مدينتي “هيروشيما” و”ناكازاكي” بالقنابل الذرية التي قضت بها على البشر والشجر والحجر، وانتزعت من قلوب جنودها وعقولهم كل أخلاق الفرسان وقيمهم وكل ذرة من ذرات الشفقة والرحمة والتفريق بين المسلح والأعزل والمرأة والرجل والشيخ والعجوز والطفل، والانتقال إلى العراق وأفغانستان لاستكمال حلقات استراتيجيتها للهيمنة على العالم من خلال عملية تدمير الدول العربية التي ترى فيها خطرًا على دولة الكيان الصهيوني التي استلمتها من بريطانيا وفرنسا رضيعة بعد الحرب العالمية الثانية لتقوم برعايتها وتربيتها وتكوينها وفق تنشئتها هي وتكوينها الأخلاقي والقيمي المتمحور حول مبدأ “القوة فوق الحق” وسلوكات أسلافها القتلة المجرمين المتمرسين في عمليات الإبادة الجماعية للشعوب.
لقد ربت دولة الكيان الصهيوني في فلسطين بنفس القواعد الأخلاقية الإجرامية التي استمدتها من أسلافها البيض العنصريين الأوروبيين الصليبيين، ووفرت لها كل وسائل وأسباب القهر العسكري للقضاء على معنويات الخصم في كل المعارك التي خاضها هذا الكيان ضد الدول العربية المجاورة لفلسطين المحتلة، وفي كثير من الحالات لا يقتصر دعمها لهذا الكيان على مده بـأخطر الأسلحة الفتاكة، بل يتعداه إلى التدخل المباشر بطيرانها، مثلما حدث في حرب جوان 1967حين قامت الطائرات الأمريكية بطياريها بالهجوم على كل مطارات مصر، وكان الهجوم من الغرب، من القواعد العسكرية البريطانية والأمريكية في ليبيا في حين كانت القوات المصرية توجه أسلحتها نحو الشرق حيث العدو الصهيوني فقضت بذلك على كل سلاح الجو المصري لتسهل بعد ذلك عملية القضاء النهائي على كل الجيش المصري وتحدث النكسة التي قضت على معنويات الشعوب العربية وجيوشها.
لقد استعملت القوة الغاشمة لإرهاب الشعوب والدول بيد والقوة الناعمة بمنح الصدقات والهبات والتبرعات بيد أخرى لتضمن بذلك خضوع الجميع، العصا والجزرة، والتسميم الدعائي لإثارة الفتن والقلاقل والثورات المضادة وكل أشكال التفسخ الأخلاقي والإجرام المنظم في المجتمعات الفقيرة والطامحة للتطور والنمو واكتساب المعرفة والتكنولوجيا لحماية نفسها وثرواتها وسياداتها واستقلالها.
لقد كانت منهجية ناجحة إلى حد بعيد وخاصة في العالمين العربي والإسلامي حيث توفرت لها عوامل الاختراق المختلفة من التخلف الفكري والعلمي والاقتصادي والتزايد الديمغرافي والفوارق الاجتماعية والمذهبية والطائفية التي كان الدين الإسلامي هرمون تجميعها وتوحيدها وتآلفها وقوتها لأكثر من عشرة قرون من الزمن، فاقتنصت الثغرة التي نفذت منها إلى هذه الشعوب وزرعت فيها فيروساتها وجراثيمها الكثيرة لتجعل من ذلك الجسم القوي هزيلا كسيحا يتسول الغذاء والدواء رغم ما تكتنز أرضه من خيرات وثروات وما في ذاكرته ودماغه من أفكار وقيم وسلوكات كانت تعفيه من ذلك التسول وتكفيه شر العوز والعيولة.
ولما كان آخر الحصون المنيعة والمستعصية عليهم هو حصن القدس وأكنافها فكان لزاما عليهم التخلص منه ومن رباطه، ما لا يتأتى لهم دون الاستعانة بالإخوة المجاورين لفلسطين الذين ساعدوا أمريكا على غزو العراق وتدميره وأشعلوا فتنة طائفية في سوريا وجندوا لها من كل أقاصي الأرض مرتزقة ليدمروها أيضا ليخلو الجو للكيان الصهيوني ويبايع قوة في الإقليم تحميهم من شرور مسلمين آخرين لا ذنب لهم إلاّ كونهم يختلفون معهم مذهبيا ويمتلكون إرادة وعزما على تنفيذ أمر الله عز وجل القائل: “وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة و من رباط الخيل”.
القدس التي أرادها “ترمب” أن تكون آخر أوراق اللعبة القذرة ضد الشعب الفلسطيني والتي أرادها عنوانا لصفقة القرن يعلن بها انتصاره وانتصار بلاده على العالم ويؤكد استمرار انفرادها في التحكم على العالم وقرار السلم والحرب فيه، هذه المدينة التي اختارها الله عز وجل لتكون أولى القبلتين وثالث الحرمين الشريفين ومسرى النبي محمد صلى الله عليه وسلم انبرت لوحدها في شموخ وكبرياء وشجاعة أذهلت العالم لتقول لــ”ترمب” وأمريكا: لا. ولا. ولن تنفرد بحكم العالم ولن أكون عاصمة لليهود ولا عنوانا لصفقتك ولا رداء تخفي به وجوه حلفاءك من العرب المتخاذلين الخونة.
لقد جعلت القدس من قرار “ترمب” رصاصة الرحمة التي يطلقها على جبروت بلاده ونفوذها لتبدأ منذ هذه السنة سنة 2018 العد التنازلي لهذا النفوذ ويبدأ انحسارها مثلما حدث لكل الإمبراطوريات التي سبقتها وآخرها البريطانية والفرنسية.
القدس أعادت المياه إلى مجاريها، وأحيت محور الممانعة وحضن المقاومة للاحتلال والتطبيع، وما على الأعراب والعرب المتصهينين خلال العقود الثلاثة الماضية إلاّ البحث عن وسائل أخرى لستر عوراتهم أمام شعوبهم التي لم تكن يوما ولن تكون حليفة للإمبريالية الغربية والصهيونية طالما بقي فيها من يخشع للآذان والأجراس ويحب محمد صلى الله عليه وسلم و عيسى بن مريم عليه السلام، واليهود غير الصهاينة في العالم.
لقد أثبتت المدينة المقدسة أنها ما زالت مثابة القلوب المؤمنة تهفو إليها من كل بقاع الأرض قانتة خاشعة متضرعة إلى مولاها ليحميها وأهلها من أعداء الله والأنبياء الذين يريدون ضمها وتدمير مسجدها ومحو آثارها و هويتها الحقيقية لتعويضها بالهوية المسخ التي لا أصل لها ولا فصل.
لقد آلت مدينة القدس على نفسها على أن تكون السبب والوسيلة لهزيمة منكرة للحق تلحق بأعتى قوة عسكرية في العالم وربيبتها لتصبح رغم أنفها مهزلة تتنذر بها الشعوب لمرتين متتاليتين في أعلى منابر المحافل الدولية –في مجلس الأمن والأمم المتحدة– حيث أثبت لها أغلبية الحضور أن الابتزاز بالإعانات المالية والاقتصادية لا يفيدها لأن للشعوب كرامة وعزة نفوس غير قابلة للمساومة والتصرف، والتاريخ لا تحل محله الخرافات والأكاذيب وتاريخ فلسطين خاصة باعتباره التاريخ الوحيد الذي سجل ميلاد ومرور كل الأنبياء والرسل عليهم السلام لا يمكن تحريفه ولا تزويره، فما على الجاهل “ترمب” إلاّ أن يتقرب من المؤرخين النزهاء من أبناء ملته من المسيح غير الإنجليكانيين ليتعلم منهم الحقائق التاريخية.