ذكرى

الذكرى الثامنة والعشرون لوفاة: الشيخ الإمام العلَّامة الحبيب فارس التبسي (1)

أ: البدر فارس/

إنَّ رواد النهضة في الجزائر وعلى رأسهم جمعية العلماء المسلمين الجزائريين أدركوا أنَّ الأُمَّة الإسلامية لا يمكن أن تعود إلى ماضيها التليد، الذي طمرته الليالي بِغبار الجهل، إلَّا بالعودة إلى النبع الصافي من كتاب الله عزَّ وجلَّ وسُنَّة رسوله (صلى الله عليه وسلم)… وأنَّه لا يمكن للأُمَّة أن تُجابه التحديات الثقال التي تُواجهها بها الحضارة المادية المُعاصرة إلَّا إن وعت كتاب ربها وسُنَّة نبيّها… ومن ثم فقد أصبح لزامًا على أئمة العلم وقادة التنوير أن يجدوا لهم سبيلًا للوصولِ إلى الأُمَّة حتى ينهضوا بها من وهدتها التي طالت، وغفلتها التي أعمت عيونها عن رؤيةِ ما يكيدهُ أعداؤها لدينها ودُنياها… فعمل رواد العلم والفكر لجمعية العلماء المسلمين الجزائريين على إنشاءِ منصة ثقافية شاملة، دينية علمية فكرية أدبية اجتماعية، أسموها “البصائر”… التي أضحت المَنبر الإسلامي الأبرز لِأشهر عُلماء الإسلام ودعاته في الجزائر وحتى في خارج الجزائر على مدى قُرابة تسعين سنة.
والشيخ الإمام العلَّامة “الحبيب فارس التبسي” (1994-1919م) هو أحد رواد النهضة العلمية والفكرية في بلاده، ويعتبر بحق من رواد الحركة الإصلاحية في العصر الحديث، ومُجدد الدين في مدينته تبسة ونورها في الليلة الظلماء؛ فبالرغم من انتسابه إلى المعهد الزيتوني فقط، فإنَّه كان عظيمًا، استطاعَ استوعاب بذكائه الوقَّاد، وجهده الدؤوب ذلك التراث الثقافي الضخم من علم وفقه وتفسير وأدب وتاريخ وفلسفة، حتى إنَّ كِبار عُلماء عصره، أمثال الشيخ العلَّامة “محمد الغزالي” -رحمه الله- والشيخ الدكتور “يوسف القرضاوي” -أطال اللهُ في عمره- وغيرهما قد شهدوا بأنَّ الشيخ الإمام “الحبيب فارس” هو وِعاءٌ من علمٍ ومعرفة قد أحاط بثقافة الإسلام في عصوره الزاهرة إحاطة يندر أن تتمثل في غيره من علماء وطنه الجزائر.
وبمناسبة الذكرى الثامنة والعشرون لِوفاة هذا الإمام العلَّامة الفذ؛ ولهذا ارتأينا تذكير القارئ الكريم بِخِصال وأخلاق ومواقف هذا الشيخ الجليل، فهي صفات وشمائل اجتمعت في شخصيته تستحق التنويه والتقدير والتسجيل؛ فهو شخصية مُتواضعة مُتسامحة، يحب الخير وإصلاح ذات البر بين الناس، وجمع الشمل والتوحيد والتقريب بين المواقف بما تخدم مصلحة الدين والوطن والأُمَّة. شُجاع لا يتردد في اقتحامِ الصعاب، قليل الكلام إلَّا بقدرِ ما يُفيد وينفع، صبور مُنضبط إلى أقصى حُدود، وانضباط مُتسامح لا يحمل حقدًا ولا غلًا لِأحد. وكان ذا علمٍ غزير، المُربي الحصيف، والمُوجه الحكيم لأهالي المدينة، فكان لهم بِمثابةِ الداعية الصادق الأمين، حيث كان يلتقي بهم في كثير من الأوقات في جلساتٍ مُفعمة بالنفحات الإيمانية في رِحابِ العلم والدين، فيستفيدون من علمه خير استفادة… آملين، وعسى أن تكون هذه الصفات والشمائل التي اتصفَ بها الشيخ قُدوة حسنة للأجيال الحاضرة واللاحقة، ولعلَّها تشفي صُدورَ قومٍ مؤمنين… فهيَّا بنا أيها القارئ الكريم نتصفح معًا صفحات العزَّة والكرامة والسماحة في تاريخ أجدادنا الأماجد، في هذه الومضات الإيمانية الصادقة:
مُنذ نُعومةِ أظافري، وبُزوغِ فجر طفولتي كنتُ أُلاحظ على ملامح والدي الشيخ الحبيب فارس، ملامح الحزن، حيثُ يكاد لا يبتسم إلَّا نادرًا، بالرغم أنَّ في وجهه مع ذلك البشاشة وعلى قسماته الرضى، لا يتكلم إلَّا إذا سُئِلَ فلا يبتدر أحدًا بحديثٍ إلَّا نادرًا… حتى إذا جلسَ على المنبر لإلقاء درسه كل جمعة في مسجد العتيق بمدينة تبسة، وبدأ في تحليلاته وتعليقاته القيّمة في أمور الدين والدنيا انفجر منه علم غزير نافع، وتحليلات مُبهرة مُقنعة تنفع وتبهر السامعين والمُتتبعين…!!.
إنَّهُ واحدٌ من أولئك العلماء العِظام الذين أُوتوا ذوقًا خاصًا ومُتميّزًا في فهم وعرض الإسلام، فاتخذوا له منهج إيقاظ العقول وإعمالها في التوجيه والبناء؛ أي أنَّهم كانوا يبنون شخصيات الشباب الفكرية، ويستثيرون كوامن قدراتهم العقلية، حتى تصلب أعوادهم وتتميز شخصياتهم الفكرية، وينبعثوا عن إيمانٍ عميق راسخ في تغيير واقعهم.
والشيخ الحبيب فارس هو شخصية ضخمة محبوبة، جمع اللهُ لها الخصائص والميزات وحلَّاها بالتقوى، وجمَّلها بالتواضع، وزيَّنها بالصبر والتحمل، وقوَّاها بالشجاعة والإخلاص والتفاني الذي لا حدَّ له في سبيل الواجب. فهو ينكر عمله ونفسه دائمًا، ولا يرى لنفسه فضلًا في أي شيء؛ وإذا حاول أحدٌ أن يذكر أعماله وجهاده في سبيل إعلاء كلمة الله والأُمَّة الإسلامية، انتفض كالمصعوق حياءً وخجلًا وتواضعًا لله تبارك وتعالى، الذي يعلم خافية الأنفس وما تُخفي الصدور.
ولعلَّ أبرز ما في الشيخ الحبيب فارس تلك الروح الصافية المُشرقة المُلهمة التي تشعرك بحبها، وإكبارها، وإجلالها في بساطة العظماء الخالدين من هؤلاء الذين تبدو عليهم البساطة، ثم هُم في الوقت نفسه من كبار العظماء الذين غيَّروا معالم التاريخ في بلادهم، وأناروا الطريق للأجيال على صفحات التاريخ الإسلامي التي تزدحم بآيات المجد، أيام أجدادنا الأماجد الذين ضربوا أروع الأمثال في الثبات على الحق، والتمسك بالعقيدة، والدفاع عن الدين والوطن، والمُقاومة للبغي الآثم، والعُدوان الغاشم؛ ولم يضرهم أنْ قلَّ عددهم، أو خفَّت عُدتهم، فقد كانت قلوبهم موصولة الأسباب بواهب القوى والقدر، وكانوا يطلبون النصر ممن يهب النصر وحده وهو الله القادر على كل شيء. فقد كان الشيخ النبراس المُنير الذي أضاء درب شباب مدينة تبسة الذي استجاب لداعي الدعوة والإصلاح والتغيير؛ فكان لعلمه وتوجيهاته ومواقفه الأثر المكين في نفوس وعقول وسلوك ذاك الجيل الفتي الذي لا زال إلى حد الآن يتبوءُ الشيخ في وجدانه المنزلة التي يستحق.
فحين تجلس إليه أو تستمع إلى حديثه فإنَّك تشعر أنَّكَ أمام شخصية من تلك الشخصيات التي مضت في الزمان البعيد حين كانت الأخلاق، والقيِّم العُليا الإنسانية تحتل مكان الطليعة في نفوس الناس ولها مكان القداسة فيها.
ولعلَّ هذه النفسية الحسَّاسة المُرهفة، والقلب الكبير والإيمان الصادق قد تفاعلا في نفسه فخلعا عليها رِداء من الصمت والوقار والهيبة.
فهو لا يتكلم إلَّا بقدر، ويعزف عن الصخب والضجيج، وينأى بنفسه عن المُجتمعات العامة والحفلات التي يزدحم بها مجتمعنا اليوم بسبب أو بغير سبب، وما أكثرها في بلادنا…!!.
ولقد عاش الشيخ حياته ولا همَّ له ولا شغل لديه إلَّا قضية الإسلام والمسلمين، وكيف يُمكن للشعوب الإسلامية أنْ تأخذ طريقها إلى حياةٍ أفضل؛ أما اهتمامه بقضية الجزائر عامةً، وبقضية مدينته تبسة خاصةً فهو يفوق حد الوصف. فالجزائر الأم التي جاهدَ من أجل حريتها واستقلالها، وسُجن من أجلها سبع سنواتٍ كاملة مُتتالية، مُؤلمة قاسية كانت تحتل في نفسه مكان الصدارة، فهو دائمًا مشغولٌ بها وبقضيتها وبشعبها، ولا يترك فُرصة إلَّا ويُساهم في كل ما يعود عليها بموفور من الخير وجزيل من النفع. حتى أنَّ في أيامه الأخيرة قبل وفاته، وهو في سكرات الموت قبل دخوله الغيبوبة، كان الشيخ يسأل ويتفقد أحوال ومصير وطنه العزيز، الذي ضحَّى بكل ما يملك من أجل عزّته وكرامته… حتى أنَّ هذه السكرات القاتلة لم تمنعه من التفكير والاطمئنان على وطنه العزيز الجزائر…!!( )
لقد كان بحق شخصية فارعة مُتكاملة الصفات، قوية العزمات، صادقة الهمة، بعيدة الغور، مؤمنة مُلهمة، عليها هيبة تحفها بالجلال والوقار، طابعها العام إنكار الذات دائمًا، وهي بالصبر والصمت تعمل عمل الجبابرة في سكون ووقار.
هذه الشخصية التي نتحدث عنها هذا الحديث المُقتضب، الذي لا يكشف على التحقيق شيئًا من عظمة أعمالها سرًّا وعلانية، ولكنه على كُل يُعطينا صورة خاطفة لرجلٍ عاش ومات لله ولرسوله وللمؤمنين ولوطنه الذي ضحَّى بالغالي والنفيس من أجل عزّته وكرامته، ثم لوطنه الإسلامي الأكبر.
لقد عاش عصريْن مُتناقضيْن، عصر الاستعمار والعبودية، وعصر الاستقلال والحرية، فتعرَّضَ في كلاهما للبلاء وللمحنة فما وَهنَ، وما استكانَ، وما نزل عن رأي، وما أحنى رأسًا، بل كان كمعدن الحديد تزيده النار صلابة، وكالذهب يكسبه اللهيب نقاءه… حتى إنَّه عندما أصبح رئيسًا لقسمة حزب جبهة التحرير الوطني بمنطقة تبسة في بداية الاستقلال، واقفًا على رؤوس الناس، الذي لا يتم عمل صَغُرَ أو كبُرَ بدون أخذ رأيه الحكيم الذي يفصح عن العمق والدراسة والتمعن لم يتغير صفاء معدنه، بل زاده الاحتكاك بالأزمات والمتاعب إلَّا لمعانًا وصقلًا، وهو يعلو من أوج إلى أوج، ومن درجة إلى درجة، حتى أخذ بفضله المُخالف والمُوافق؛ ولقد كان كل الذين ناوءوه وحاربوه كالفقاقيع تظهر ثم تبتلعها الأمواج، أما هو فكان معدنًا خالصًا، لا زال اسمه يرن، ويستمر بين الخالدين إلى يوم الدين.
إنَّ العالم الشيخ الحبيب فارس يرى المال وسيلة لا غاية، تلك فلسفته التي أخذ نفسه بها طيلة حياته… فهو لذلك لا يحفل بالمال قل أو كثر، ويبتعد عنه ما أمكن. كانت تحت تصرفه -الملايين- فما أمسكها ولا أحبَّ حتى أنْ يراها…!!، واعتبر المال الذي كان بعُهدتِه أثناء توليه رئاسة قسمة حزب جبهة التحرير الوطني بتبسة في بداية الاستقلال هو حق المواطنين التبسيين المُناضلين الطبيعي، وهو إنما جاء بفضل صدق جهادهم، وهم اختاروا أنْ يتركوا لشيخهم الأمين الذي نتحدث عنه في هذه الكلمات العابرة أن يتولى أمر المال لِما يتمتع به من ثقة مُطلقة لا حدَّ لها بين هؤلاء المواطنين التبسيين. فالشيخ كان من بين القلة القليلة من المجاهدين الأبطال في بلاده التي جاهدت أثناء الاحتلال الفرنسي للجزائر، وجاهدت بعد الاستقلال حتى إلى آخر رمق من حياتها، التي زهدت أفرادًا وجماعات في الدنيا وزخرفها وراحت تطلب الجنة ونعيمها راضية مرضية.
وقد لا يكون الإمام الحبيب فارس من أولئك الأئمة الذين يغرقونك في بحرٍ من الأحكام والمعلومات الفقهية وغيرها من علوم الشريعة، إلَّا أنَّه كان ثاقب البصيرة، بعيد الرؤية، يستنبط ويستنتج الأحكام الشرعية النبيلة والغير الظاهرة والبيِّنة والراسخة في عقول الكثير من علماء الدين، والتي يصعب استنباطها واستنتاجها إلَّا من طرف العلماء الأفذاذ الذين يحملون من الأفكار المُتميّزة، ما يجعلها من عمل من العقول الفذة التي تملك من البداهة والاستقلال ما يجعلها نادرة الظهور خلال ألوف السنين.
كان الرجل من كبار العارفين العُبَّاد، والعلماء الزُّهاد، فارسًا في النهار، عابدًا في الليل… فأحسَّ المواطنون التبسِّيُّون بأنَّ شيخهم وإمامهم وعالمهم وزعيمهم الشيخ الإمام الحبيب فارس هو نِعمة من نِعم السماء، وهِبة من هِبات الله، فكانوا لا يقضون أمرًا دون مُشاورته والرجوع إليه، ولقد كان ذلك كُله من أسرار العيشة البسيطة السعيدة، والتوفيق للعيشة الكريمة الطيبة في ذلك الوقت، ليس عيشة اليوم التي لا نحس فيها بأي نوع من العزّة والكرامة والسعادة…!!
يتبع
البريد الإلكتروني:
elbadrefares@gmail.com

اظهر المزيد
زر الذهاب إلى الأعلى

مرحبا بكم في الموقع الرسمي لجريدة البصائر

 

تفتح جريدة “البصائر” صفحاتها للأساتذة الجامعيين والمؤرخين والمثقفين، لنشر إسهاماتهم في شتى روافد الثقافة والفكر والتاريخ والعلوم والأبحاث، للمساهمة في نشر الوعي والمبادرات القيّمة وسط القراء ومن خلالهم النخبة وروافد المجتمع الجزائري.

على الراغبين والمهتمين إرسال مساهماتهم، وصورة شخصية، وبطاقة فنية عن سيرهم الذاتية، وذلك على البريد الالكتروني التالي:

info.bassair@gmail.com