مقاربات

الـمثل العــربي دراســـــــة في نشأتــــه وتطــــوره الـمصطلح في الـمعاجم العربية القديمة (الحلقة الثالثة)

أ. د. محمد عيلان */

 

(بعد أن تناولنا في الحلقة السابقة دلالة المثل في التراث السامي عبر تقارب لغات متداوليه، ننتقل ابتداء من هذه الحلقة إلى الحديث عن حضور هذا الجنس الأدبي في القرآن الكريم وفي التراث العربي واستمرار تداوله في الأوساط اللغوية والأدبية والثقافية جمعا ودراسة ومجالا للتقعيد النحوي والصرفي والبلاغي).
وإذا كانت كلمة مثل في اللغات السامية قد وردت بدلالات متقاربة لا تخلو من مما تدل عليه كلمة (مثل) العربية وهي: القول السائر، أو الحكمة السائرة، كما ذكرنا؛ فإنها في العربية حملت دلالات عديدة، أسهب اللغويون في شرحها وأفاضوا، ولم يتركوا لها وجها من وجوه دلالتها إلا كان لهم معه رأي وتوجيه.
والذي يرجع إلى المعاجم العربية وبخاصة ـ لسان العرب ـ الذي تداول هذه الكلمة بالشرح والتفسير اللغوي يجد فيضا من أوجه الاستعمال للكلمة. ومن جاء بعده يعد ناقلا عنه في هذا الموضوع، كالحسن اليوسي. ولعل الدافع إلى هذا هو أن كلمة (مثل) وردت في القرآن الكريم تحمل معاني ودلالات عديدة، ولم تستقر على معنى أو معنيين كما سنبين. وسنعتمد في دلالة كلمة (مثل) لغويا على: معجم «مقاييس اللغة» لابن فارس، و«لسان العرب» لابن منظور. و«القاموس المحيط» للفيروزبادي.
فقد أورد ابن فارس (19) ثلاث دلالات اصطلاحية للمثل يجمعها في اللغة أصل واحد وهي:
أ ـ (مناظرة الشيء للشيء، وهذا مثل هذا، أي نظيره، والمثال والمثل في معنى واحد).
ب ـ (والمثل، المثل أيضا كشِبْه وشَبَه، والمثل المضروب مأخوذ من هذا؛ لأنه يُذْكَر مُورَّى به عن مثله في المعنى. وقولهم: مثَّل به، إذا نكَّل، هو من هذا أيضا، لأن المعنى فيه أنه نكل به، جُعل ذلك مثالا لكل من صنع ذلك الصنيع أو أراد صنعه).
ج ـ ومَثُلَ الرجل انتصب قائما والمعنى ذاك، لأنه؛ كأنه مثال نصب. والمثال الفراش والجمع مثل، وهو شيء يماثل ما تحته أي فوقه.) 20.
فابن فارس يجعل المادة أصلا واحدا في اللغة فيحصر دلالاتها في الشبه والشبيه بمعنى النظير، سواء ما كان منها دالا على (المثل) الذي يضرب وله مورد، أو كان دالا على معان أخرى ولكنها متضمنة معنى التشبيه.
أما عند ابن منظور في معجمه ـ لسان العرب ـ فإن كلمة (مثل) وردت بدلالات مختلفة ومتقاربة، لها ما يربطها ـ بعد تأملها ـ بما بعدها في نسق دلالي واحد ــ منها:
التسوية: فتقول: هذا مثله، كما يقال: شبهه وشبهه، ثم يورد قول (ابن بري) في الفرق بين المماثلة والمساواة وهو أن المساواة تكون في المختلفين في الجنس والمتفقين في المعنى، لأن التساوي هو التكافؤ في المقدار، لا يزيد ولا ينقص، وأما المماثلة فلا تكون إلا في المتفقين: نحـوه كنحوه، وفقهه كفـقهه21. والمراد هنا أن الأشياء المحسوسة هي التي تختص بكلمة التساوي. أما المعنوية فهي التي تختص بالمماثلة، ومن ذلك مثّل الشيء: سواه به.
ومن معاني (مثل) أيضا الشبه، يقال: هذا مَثَلُ ذلك بفتح أوله وثانيه. وقد يقال بكسر أوله وسكون ثانيه، أو هو مثيله على غرار شبه وشبيه، وإن صُغِّر دل على التقليل من الشيء وتحقيره، وقد ورد ما ذكر في كلام العرب.
ومن المعاني أيضا: الْمَثَل بمعنى الحديث، وقريب منه قولهم: تمثل ببيت شعر، أي استشهد بحديث من الشعر.
ومنه دلالة الأمثال على الصفة، أخذا من قوله تعالى: (مَّثَلُ ٱلْجَنَّةِ ٱلَّتِى وُعِدَ ٱلْمُتَّقُونَ) سورة محمد صلى الله عليه وسلم 15.أي صفة الجنة.
وقوله تعالى: (مَثَلُهُمْ فِى ٱلتَّوْرَىٰةِ وَمَثَلُهُمْ فِى ٱلْإِنجِيلِ) الفتح 29. أي صفتهم. ويرى الميداني: (أنها ألصق بالصفة منها بغيرها في هذا الباب) 22.
وترد كلمة مثل إما بمعنى العبرة أخذا من قوله تعالى: (فَجَعَلْنَٰهُمْ سَلَفًا وَمَثَلًا لِّلْءَاخِرِينَ) الزخرف 59، أي عبرة يعتبر بها المتأخرون. أو بمعنى الآية كما في قوله تعالى في صفة عيسى عليه السلام: (وَجَعَلْنَٰهُ مَثَلًا لِّبَنِىٓ إِسْرَٰٓءِيلَ) الزخرف 59.
ومن مشتقاته (المثال) بمعنى المقدار، أي جعل الشيء مقدارا لغيره يحتذى عليه. وقد يطلق على القالب الذي يقدَّر على مثله.
ومن معانيه الميل إلى التحسن في قولهم: تماثل إلى الشفاء، أي قاربه وتحسنت حالته. وقريب من هذا المعنى دلالاته على التفرد عن طريق التفاضل كقولهم: هو أمثل قومه، بمعنى أفضل قومه، وفلان أمثل من فلان أي أفضل منه، ومنه قوله تعالى: (ذْ يَقُولُ أَمْثَلُهُمْ طَرِيقَةً) طه 104.
وورد المثل بمعنى الفاضل أو الأشرف. أورد ابن منظور في ذلك حديثا للرسول صلى الله عليه وسلم قوله: (أشد الناس بلاء الأنبياء، ثم الأمثل فالأمثل) أي الأشرف فالأشرف، والأعلى فالأعلى في الرتبة والمنزلة .23
ومن معاني المثل الاشتقاق الدال على التجسيد والصورة، كالتمثال تبدو ملامحه جلية وصورته كاملة، ومنه مثَّل له الشيء صوره له بالكتابة أو غيرها حتى كأنه ينظر إليه. ومنه الحديث النبوي الشريف: (رأيت الجنة والنار ممثلتين في قبلة الجدار) 24 أي مصورتين.
ومن معاني كلمة (مثل) أيضا: الاقتداء، امتثلت مثال فلان: اقتديت به وحذوت حذوه.
ومنه دلالته على الحضور والانتصاب، كقولهم: مثل بين يديه أي انتصب حاضرا قائما.
ومنه دلالته على التعذيب والتنكيل والقصاص. وفي الحديث النـبوي: (نهى رسول الله صلى الله عله وسلم أن يمثل بالدواب، وأن تؤكل الممثول بها.) أي ينكل بها، كقطع أطرافها وبعض أعضاء جسمـها. ومنه قولهم: امتثلت من فلان أقتصصت منه.
ومنه دلالة الكلمة على ضرب الأمثال وهو من قولهم: تمثل فلان ضرب مثلا، وتمثل بالشيء ضربه مثلا. وقوله تعالى: (وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ) إبراهيم 25. ويقول الزمخشري في كتابه (المستقصي): (التمثل تطلب المماثلة، كالتعهد والتوقع والضرب والبيان).
وإذا ما عدنا إلى (الدارسين القدماء) فإننا نجد مصطلح (مثل) استقر لديهم في دلالته على الأقوال الشائعة والسائرة التي تتناول مختلف شؤون الحياة، بشيء من الإيجاز والتركيز والتنغيم. ومن ثم نظرو إليه على أنه شكل أدبي له خصائصه، وحاولوا توضيح هذه الخصائص في سياق وضع تعريف له متضمنا قيما لغوية وبلاغية. وهو الذي ظل زمنا طويلا يدرس من هذه الوجهة غبر تاريخ المثل حتى العصر الحديث.

كلية الآداب والعلوم الإنسانية والاجتماعية
جامعة باجي مختار ــ عنابة
ailafolk@hotmail.com

اظهر المزيد
زر الذهاب إلى الأعلى

مرحبا بكم في الموقع الرسمي لجريدة البصائر

 

تفتح جريدة “البصائر” صفحاتها للأساتذة الجامعيين والمؤرخين والمثقفين، لنشر إسهاماتهم في شتى روافد الثقافة والفكر والتاريخ والعلوم والأبحاث، للمساهمة في نشر الوعي والمبادرات القيّمة وسط القراء ومن خلالهم النخبة وروافد المجتمع الجزائري.

على الراغبين والمهتمين إرسال مساهماتهم، وصورة شخصية، وبطاقة فنية عن سيرهم الذاتية، وذلك على البريد الالكتروني التالي:

info.bassair@gmail.com