القــيــــام بـالــواجـــب
أد. مولود عويمر/
يجد القارئ في هذه السلسلة نصوصا قديمة متجددة حررها العلماء والأدباء الجزائريون حول قضايا عصرهم واهتماماتهم العلمية والأدبية والفكرية والسياسية الوطنية والعالمية. وحوت هذه النصوص المرجعية للفكر الجزائري المعاصر معينا غزيرا يغرف منه الباحثون المشتغلون على تاريخ الجزائر في القرن العشرين والدارسون لذخائر تراثنا. وألتزم هنا قدر الامكان بنشر الآثار المغمورة أو المتداولة بشكل محدود لننفض الغبار عنها ونحيي جهود أصحابها الذين لم ينصفهم دائما الباحثون لأسباب مختلفة. وأمهد في كل مرة بترجمة موجزة لصاحب النص، وبيان سياقه العام وعرض مختصر لمضمونه، وتعريف مقتضب للمصدر الذي اقتبست منه، وهي في غالب الأحيان عبارة عن جرائد ومجلات قديمة تعتبر في حد ذاتها وثائق مغمورة أو نادرة.
الـمدخــل إلى النــــص
صاحب هذا المقال هو الشيخ علي مرحوم المولود في قرية بني مسلم بالميلية يوم 14 مارس 1913. تلقى تعليمه الأول في ميلة. وعندما بلغ العشرين عاما انتقل إلى قسنطينة لينضم إلى الجامع الأخضر ويدرس على الشيخ عبد الحميد بن باديس.
وكان علي مرحوم طالبا نجيبا، فهذا زميله في الدراسة أحمد حماني يصفه بالتميز والتفوق على كثير من أقرانه، فكانت نصوصه لا تصحح من طرف الشيخ ابن باديس نظرا لقوة أسلوبه ووضوح طرحه، بينما كان ابن باديس يصحح نصوص طلبته الآخرين، ويحذف ما يراه خاطئا أو غير مناسب.
وبعد انتهائه من الدراسة، لم يلتحق بجامع الزيتونة كما فعل كثير من زملائه، ففضل أن يمكث مساعدا لشيخه حتى وفاته في عام 1940. ثم كلف بالتدريس في مدرسة التربية والتعليم بقسنطينة في عام 1937. ثم عيّن مديرا لمدرسة التربية والتعليم ببسكرة. وشغل بعد ذلك نفس المنصب في مدرسة التهذيب ببرج بوعريرج ثم مدرسة الفتح بسطيف. وعيّن عضوا في لجنة التعليم العليا في سنة 1947. وعمل مفتشا جهويا لمدارس جمعية العلماء بسطيف وبسكرة وبرج بوعريرج، وبقي في هذا المنصب إلى غاية سنة 1956.
كتب في جريدة البصائر لسان حال جمعية العلماء المسلمين الجزائريين، والشهاب لصاحبها الشيخ ابن باديس، وجريدة «الفرقان» لصاحبها الشيخ أبي اليقظان وجريدة «المغرب العربي» للشيخ حمزة بوكوشة. وساهم أيضا في الصحافة التونسية كجريدة «الأسبوع»، والصحافة المغربية كمجلة «دعوة الحق».
بادر الشيخ علي مرحوم إلى الالتحاق بالثورة التحريرية لأنه اعتبرها تتويجا للجهود التي بذلتها الحركة الوطنية يشقيها السياسي والثقافي. وكلفته قيادة جبهة التحرير الوطني في عام 1956 بالانتقال إلى المغرب ليشرف على الدعاية لصالح الثورة، فعمل مسؤولا على الإذاعة السرية الجزائرية في تطوان.
كما كتب في الصحافة المغربية للتعريف بالقضية الجزائرية، وناضل من أجل حشد مساندة الطبقة السياسية والثقافية المغربية للثورة التحريرية. وقد كتب الشيخ مرحوم عن بعض هذه الذكريات فيما بعد في مجلة أول نوفمبر.
عمل الشيخ علي مرحوم مفتشا للتعليم الابتدائي والمتوسطي في دائرة القبة إلى أن تقاعد في عام 1974. وتعاون مع وزارة الشؤون الدينية في مجال التوجيه الديني بالقاء الدروس في المساجد والإذاعة. كما عيّن عضوا في المجلس الإسلامي الأعلى.
وواصل كتاباته الصحفية، فنشر مقالات تاريخية واجتماعية وأدبية في عدة جرائد ومجلات الجزائرية، كالأصالة، الثقافة، أول نوفمبر، الشعب، النصر، العصر…الخ.
ألف الشيخ مرحوم رواية عنوانها: «الصراع بين الحق والباطل»، وقد مثلت كمسرحية في مدارس جمعية العلماء. كما أصدر كتابا عنوانه: «من مدرسة النبوة» عن دار البعث بقسنطينة عام 1984. توفي الشيخ علي مرحوم في يوم 9 جويلية 1984 بالمستشفى العسكري بالجزائر العاصمة فانضم بذلك إلى سجل الخالدين في تاريخ الجزائر المعاصر.
نشر المقال في جريدة البصائر، العدد 97، الصادر في 15 صفر 1369 هـ / الموافق لـ 5 ديسمبر 1949. والبصائر هي الجريدة الرابعة التي أصدرتها جمعية العلماء المسلمين الجزائريين بعد تعطيل إدارة الاحتلال الفرنسي لصحفها الثلاث الأولى (السُّنة، الشريعة، الصراط). وقد صدر العدد الأول في 27 ديسمبر 1935، وتوقفت عدة مرات حتى بلغت سلسلتها الرابعة التي بدأت في عام 2000 وما زالت تصدر إلى غاية اليوم.
وتطرق الشيخ علي مرحوم إلى موضوع في غاية الأهمية ويتمثل في شرح معنى الواجب وتحديد مسؤولية الفرد، وأهمية هذه القيمة في الحفاظ على المجتمع وترقيته وتنميته. إن الواجب يسبق الحق، فالثمرة تجنى بعد الحصاد، والأجر يعطى بعد العمل، غير أن العكس هو الذي يسود أكثر في المجتمعات العربية والإسلامية حيث ضعف الضمير والوازع الأخلاقي وقل العمل والعطاء، وقد أدى هذا الخلل إلى تخلف في كل المجالات أثر سلبا في واقع الناس.
الـــواجـــــــب أولا
من الكلمات الخالدة التي كان يتوّج بها كل عدد من مجلة «الشهاب» هي قول الأستاذ المرحوم صاحب المجلة (الشيخ ابن بادس) رضي الله عنه: «الحق والعدل والمؤاخاة في إعطاء جميع الحقوق للذين قاموا بجميع الواجبات». ومعنى هذا أن نيْل الحقوق والتحصيل عليها والتمتع بها، لا يستحقه ولا يجوز إعطاؤه إلا للذين قاموا بجميع واجباتهم في هذه الحياة، التي تقوم في جملتها وتفصيلها على هذه العبارة: «قم بواجباتك تنل حقك».
وكما أن الحقوق منها ما هو حق فردي، ومنها ما هو حق عام فكذلك الواجبات، فمنها ما هو واجب شخصي، ومنها ما هو واجب مشترك بين الجماعة أو الأمة.
وإذا أنعمنا التفكير وتعمقنا في النظر والاستنتاج، رأينا أن حياة المجتمع والأمة صورة مصغرة من حياة الأسرة الواحدة، فإذا كانت هذه لا يستقيم أمرها، ولا تطيب لها الحياة إلا إذا قام كل فرد من أفرادها بواجبه المناط بعهدته، فإن أهمل أحد أعضائها واجبه، أو أقعده الكسل والتهاون عن إنجازه في وقته، ضاع حق الأسرة بتمامها، واختل نظام حياتها، وساءت أحوالها فكذلك الأمة ورأس مال الأفراد والجماعات والأمم في الحياة يزيد وينقص أو يقوى ويضعف على مقدار حظها من القيام بالواجبات على اختلاف أنواعها.
وما اختل نظام الحياة الاجتماعية في أمتنا الجزائرية، وضاعت حقوقها السياسية، وذهبت عزتها القومية وسيادتها الوطنية، وساءت أحوالها في كثير من النواحي الهامة، التي ترتكز عليها حياة الأمم والشعوب والمجتمعات، وتعتمدها لنهضتها وتطوّرها، كالتربية والتعليم والصناعة والاقتصاد، ما كان كل ذلك، وما وصلت الأمة إليه، إلا لسيطرة الأنانية الفردية على النفوس، وفقدان الشعور بضرورة القيام بالواجبات العامة المشتركة، وانعدام الدوافع النفسية التي تدفع المرء للقيام بها بوحي من ضميره، وباعث من مروءته، أو بحافز من دينه وغيرته على وطنه وإهمال القيام بالواجبات العامة سبب مباشر من أسباب ضياع حقوق الأفراد والجماعات والأمم معا، سواء أشعر الكل بهذا أم لم يشعروا فهي حقيقة واقعية، ونتيجة منطقية، لإهمال الواجبات والتقاعس عن أدائها، لا مفر منها، ولا مهرب من سوء عواقبها.
وقد أدرك هذه الحقيقة غيرنا من الأمم والشعوب، فسعى الفرد، ونهضت الجماعة، وجدت كل أمة في القيام بواجباتها، والمحافظة على أدائها في أوقاتها المعينة لها، فنجحت تلك الأمم جمعاء في حياتها، وسعدت وسادت غيرها من الأمم الضعيفة المتواكلة والشعوب المفرطة !… فهل لنا بعد هذا أن نجتمع على خير أمتنا ووطننا، ونتحد ونتعاون على ما يرفع شأنهما، ويعلي ذكرهما بين الأمم والأوطان الأخرى؟
ولا يتم لنا هذا الاتحاد والتعاون، ويتحقق ما نتمناه ونرغب فيه إلا إذا قام كل منا بواجبه في دائرة اختصاصه فالأب والأم يرعيان حقوق أبنائهما في المنزل، فيقومان بواجبهما نحوهم كاملا في حدود استطاعتهما، فيعملان على تغذية أرواحهم، وتنوير عقولهم بالتربية الكاملة، والتوجيه الصالح.
كما يجدان في تحصيل غذائهم وكسائهم البدني ولم يقم الآباء بواجباتهم لأبنائهم قط، إذا اعتنوا بإطعامهم واكسائهم وأهملوا تعليمهم وتربيتهم، ولن يتم واجبهم بمجرد إدخالهم للمدرسة إذا لم يتعاونوا معها على أداء الواجبات المشتركة بينهم وبينها، فيعتنون بنظافة أبنائهم في أبدانهم وثيابهم، ويتولون مراقبتهم في ذهابهم للمدرسة وإيابهم منها، ويحاسبونهم على أوقاتهم وانجاز واجباتهم المدرسية الخاصة بالمنزل، ولا يهملون إرشادات المدرسة وملاحظاتها التي تقدمها لهم مصلحة أبنائهم.
والمعلم في المدرسة يرعى حق الله والأمة في أبنائها وفلذات أكبادها، فيقوم بواجبه في السهر على تثقيفهم وتهذيب أخلاقهم، وتقويم معوجهم وإصلاح فاسدهم، كما يحافظ على سلامة أبدانهم وصحة أجسامهم، ويحصر اهتمامه الكلي في الانقطاع لعمله والإخلاص لواجبه.
ولقيام المنزل والمدرسة بواجباتهما أثر بعيد في صلاح المجتمع ورقيه ولذلك تعنى الحكومات الرشيدة التي تريد خيرا بشعوبها، بتحسين الحياة المنزلية، ورفع مستواها الأدبي والمادي، وتنفق المقدار الكبير من ميزانيتها العامة في سبيل نشر التعليم، وتسهيل أسبابه، وجعله في متناول جميع الطبقات.
ولم يشذ عن هذه القاعدة غير بعض الحكومات الاستعمارية! التي تحارب التعليم، وتضع في طريقه العراقيل، حرصا منها على بقاء الشعب في الجهل والفقر، حتى يتسنى لها أن تسيطر عليه وتستغله بسهولة!
ولن يفسد هذه الخطة، خطة التجهيل والتفقير التي سار عليها أقطاب الاستعمار في كل زمان ومكان، إلا قيام الفرد والجماعة والأمة بأداء الواجبات المطلوبة، وتقدير الخدمات المرغوبة لفائدة المجتمع وحياة الوطن، كما يقوم كل واحد بمفرده بواجبه نحو شخصه، ويعمل لصالح نفسه، وإلا يكون الشعور بالمسؤولية عاما شاملا للأفراد والجماعات والهيآت، من رجل العلم إلى زعيم السياسة، ومن رجل الاقتصاد إلى معلم الصناعة والمشتغل بالفلاحة وغير هؤلاء، كل فيما يباشر من عمل أدبي أو مادي، جليلا كان ذلك العمل أم حقيرا، كبيرا أم صغيرا.
وعلى أساس هذا الشعور المشترك، والتعاون المزدوج، في ميادين الأعمال المختلفة، تنهض الأمم، وتحيا الشعوب، وتصلح المجتمعات، وتتحقق معاني الديمقراطية في أسمى صورها، وأصدق مظاهرها، وذلك –في نظري- هو القيام بالواجب الذي يتطلبه منا الإسلام ويدعونا إليه.