التوحيد .. جوهر العقيدة و منهج الفلاح/ د. إبراهيم نويري
المتأمل في نصوص الإسلام القطعية يدرك يقيناً بأن التوحيد هو جوهر الدين الحق، ومقصد المقاصد في نظامه ومنظومته العقدية، بل إن الوحدة نفسها مشتقة ومنبثقة في الآن نفسه عن عقيدة التوحيد الخالص لله تعالى، التي قوامها: عبادة الله وعدم الشرك به، وهو الحق الأول لله سبحانه وتعالى على العباد.
قال الله تعالى: {وَاعْبُدُواْ اللّهَ وَلاَ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئًا..} (النساء 36) .. يقول الإمام ابن كثير في تفسيره لهذه الآية الكريمة من كتاب الله : ” في هذه الآية يأمر الله تبارك وتعالى بعبادته وحده لا شريك له، فإنه الخالق الرازق المنعم، المتفضّل على خلقه في جميع الأنّات والأحوال، فهو المستحق منهم أن يوحّدوه ولا يشركوا به شيئاً”.
ويقول الله تعالى أيضاً: { َمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} (الذاريات 56).. يقول الشيخ محمد علي الصابوني في تفسير هذه الآية الكريمة: “أي وما خلقتُ الثقلين الإنس والجن إلاّ لعبادتي وتوحيدي، لا لطلب الدنيا والانهماك بها؛ قال ابن عباس: إلاّ ليعبدون: إلاّ ليقروا لي بالعبادة طوعاً أو كرهاً..”.
كما ورد في الصحيحين: عن معاذ بن جبل ــ رضي الله عنه ــ قال: كنتُ رديف النبي ــ صلى الله عليه وسلم ــ على حمار، فقال لي: ” يا معاذ أتدري ما حقّ الله على العباد؟ “فقلت: الله ورسوله أعلم. قال: “حقّ الله على العباد أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئاً”.[رواه البخاري ومسلم]. لذلك كان بدهياً أنّ عقيدة التوحيد هي العقيدة التي تصدّق بها العقول وتنسجم مع مقرراتها النفوس وتطمئن لها القلوب والضمائر، فهي عقيدة تزكي الروح والجسد وتعمر الدنيا والآخرة، وهذه العقيدة هي ما كان عليه سلف هذه الأمة المباركة؛ كما قال الله تعالى على لسان رسوله الكريم محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ : {قُلْ إِنَّنِي هَدَانِي رَبِّي إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ دِيناً قِيَماً مِّلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِين} (الأنعام 161).
فالصراط المستقيم ــ وفق هذه النصوص ــ يقتضي نقض الشرك من جذوره وأسسه والتشبّث بروح الدين القيم، الذي هو التوحيد الخالص من الشوائب؛ فليس من المصادفة ورود الربط بين العقيدة الصحيحة، وواجب الاعتصام بحبل الله، أي دينه وكتابه ومنهجه، في الكثير من النصوص والآثار والشواهد، لأن هذه القاعدة إنما تمثل ضماناً حقيقياً لبقاء الجماعة المسلمة وضمان منعتها وتماسك بنيانها، كما في الحديث الذي أخرجه الإمام مالك والإمام أحمد من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال: “إن الله يرضى لكم ثلاثاً، ويسخط لكم ثلاثاً، يرضى لكم أن تعبدوه ولا تشركوا به شيئاً، وأن تعتصموا بحبل الله جميعاً ولا تفرقوا، وأن تناصحوا مَنْ ولاّه الله أمركم؛ ويسخط لكم: قيل وقال، وإضاعة المال، وكثرة السؤال”[موطأ الامام مالك، كتاب الكلام رقم 990].
لقد شاء الله إبان مطلع الرسالة الخاتمة أن يقوم مبدأ التوحيد بتصحيح الوضع الإعتقادي والفكري والديني والاجتماعي، بتقريره أن العبادة لا تكون إلاّ لله الخالق وحده دون سواه، فالله خالق الجميع، ونسبة الجميع إليه واحدة، تأبى التجزئة، فمن حقه أن يُعبد وحده، ومن حقه أن يكون السيد المطلق لجميع عبيده الذين خلقهم وكرّمهم ورزقهم.
وعند التأمل نجد أن جعـْل التوحيد الخالص أساساً لتجمّع الجماعة المؤمنة في ظل منظومة الإسلام الحنيف. إنما هو تكريمٌ بعيدُ الأثر في نفسية الأمة المسلمة، وتماسك كيانها وقوّة بنائها، فالتوحيد هو الفطرة الصحيحة التي ذرأ الله الناس عليها؛ لذلك نلاحظ أننا عندما نروم استقراء التاريخ وأحداثه، لا نجد دعوى يُؤبهُ لها من أحد يزعم أنه إله مع الله. والذين فُهم ذلك عنهم، إما مُتّهمون أبرياء كبعض الرسل والملائكة، وإما مخلوقات لا تحس ولا تعقل، كالأحجار والأبقار ونحوها، وإما حكام سفلة كفراعنة مصر وأشباههم.
وهل يُعقل أن يكون الشرك ــــ الذي هو نقيض التوحيد ـــــ أساساً لتجمّع أو تضامن أو مناصرة أو أُخوة؟.. إن العقول تدرك هذه الحقيقة وتسلّم بها دون جدال، ولعلّ أوضح دليل على ذلك، الاحتيال والإفتيات الذي مارسته غالبية مشركي العرب في العصر الجاهلي الأول، عندما توهموا بأن الأصنام التي عبدوها وقدّموا لها القرابين تصلح واسطة بينهم وبين الله الخالق المدبر العزيز الحكيم. وقد نقل القرآن الكريم ذلك عنهم إخباراً لا إقراراً في قوله سبحانه وتعالى: {.. مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى..} (الزمر 3).
لقد كانت تداعيات التوحيد وآثاره بركة وسلاما وخيرا ونورا على جميع الأصعدة والمستويات، فعلى صعيد المعتقد زَكَتْ النفوس والأرواح من الشرك فتحرّرت من أغلال وآصار الوثنية، وعلى صعيد العقل والنظر تطورت أساليب وطرائق التفكير وانعتقت من أوهام الخرافة وعقابيل الجهل، وعلى مستوى السلوك حدث تغيّر هائل أدخل المجتمع العربي إلى طور من التحضّر، لا قِبل له به قبل مجيء الإسلام، فالأعراب الذين طالما وأدوا بناتهم بغير حق، وافتخروا بسفك الدماء والنهب والغارة على أملاك الآخرين، صاروا من عِباد الله الخاشعين الراكعين الصالحين، لا رجاء لهم إلا ابتغاء فضل الله ورضوانه. والأسرة التي كان يرث فيها الرجل زوجات أبيه دون حرج، صارت الأسرة المطهّرة القائمة على الاحترام والتقدير والتعاون. والقبيلة التي كانت لا تعرف حقا إلا لعصبيتها ولا ترعى ذمة إلا لمن هو منها، صار فيها من يردُّ إلى نصارى حمص أموالهم لأنه عجز عن رعاية ذمتهم. والسادة الذين طالما استعبدوا الناس، صاروا يخشون الله وحده ولا يخشون في الحق لومة لائم؛ إنه تحوّل جذري أو نقلة بعيدة المدى، ألا ما أعظم ثمار التوحيد في الدنيا والآخرة. والحمد لله أولا وآخراً .
وصلى الله و سلم على المبعوث رحمة للعالمين.