أقلام القراء

المسلمون بُناة حضارة/ د.إبراهيم نويري

قد يغيب عن بعض أجيالنا الناشئة ــــــ خاصة من لا يرتبط منهم بالكتاب والمطالعة والتنقيب المستمر عن المعلومات والأفكار المنصفة للحقيقة ــــــ أنّ أمتنا ظلت تتزّعم قافلةَ العلم والفكر والحضارة والمجد لدورة زمنية ليست بالقصيرة، امتدّت لما يقرب من ألف عام (عشرة قرون)، أسهمتْ فيها هذه الأمة بجليل الأعمال، وأضافت إضافات ملموسة، لتراكم الخبرة العلمية، في الرياضيات والطب والفلك والكيمياء والهيئة والفيزياء والحِيَل ( التكنولوجيا ) والعمارة  والهندسة والعلوم الاجتماعية والفنون والآداب .. وغيرها من مجالات العلم والمعرفة والإبداع، وهي مسألة تُعتبر موضع إجماع الدارسين والمؤرخين وخبراء الحضارات الإنسانية من شتى المشارب   والمنازع  والتوجّهات.

ولقد أثارت هذه الإضافات المعتبرة، ومدى علاقتها بطبيعة رسالة العرب والمسلمين ومسالكهم في المعاملة مع الغير، دارسين وباحثين كثيرين من ذوي الضمائر العلمية الصافية، حتى قالت المؤرخة والمستشرقة الألمانية المشهورة ” زيغريد هونكة ” ـــ والتي أسلمتْ قبل رحيلها عن الدنيا شهر نوفمبر من سنة 1999م : ” لقد حوّل العرب الأندلس خلال المدة التي حكموها من بلد جدب فقير مستعبَد، إلى بلد عظيم مثقف مهذّب، يقدّس العلم والفن والأدب، قدّم لأوروبا سبل الحضارة وقادها في طريق النور .. فكلّ موجة علم أو معرفة قدمت لأوروبا في ذلك العصر كان مصدرها البلدان الإسلامية”( شمس العرب تسطع على الغرب، بيروت، دار الآفاق الجديدة ، ط7 ، 1982 م، ص 541).

لذلك أرى أن طلاب العلم والمعرفة من العرب والمسلمين في ديار الغرب ومعاهده وجامعاته ـــــ خلال هذه الانعطافة التاريخية ـــ عليهم أن يتذكّروا دائماً هذا العامل التاريخي/ الحضاري، لأنه محفّز قوي فعّال على الجدّ والعطاء وبذل الوسع، وعلى الثّقة في النفس أيضا، والنهل من معين العلوم والمعارف كافة، ورصد التجارب العلمية الناجحة وتمثّلها، حتى يعودوا إلى أوطانهم بعد تخرّجهم، وكلّهم حماس وإقبال على العمل والإضافة والإبداع، كي تزدهر هذه الأمة مرّة أخرى، فتكون لها بصمتُها الخاصة في مسار التراكم العلمي والمعرفي والحضاري المعاصر كما كان لها ذلك في الأزمان الغابرة .

إذْ ينبغي أن يتفاعلوا مع الآخر الحضاري وأن لا يكونوا مسكونين بهاجس ازدراء الذات أو الشعور بالهشاشة الداخلية..بل على العكس من ذلك ينبغي أن يُخضعوا العلم الذي يتعاطونه، إلى الفحص والتأمل الدقيق، من باب التفاعل المنطقي مع العلم، وهذه مسألة منهجية محضة .. وأيضا لكونهم ينتمون إلى أمة كبيرة أسهمتْ إسهاماً جليلاً ومقدوراً في مسار منجزات العلوم والإضافة لمعمار الحضارة الإنسانية اللاّحب الممتد.

يقول الدكتور أحمد سيف الدين التركستاني ” نحن اليوم في عالم ابتعاث طلابنا وطالباتنا إلى البلاد الغربية وغيرها نشقّ طريقاً طويلاً ننهل فيه من المعرفة ونتشرّب من العطاء الحضاري للبلاد التي نذهب إليها، ولكننا نحتاج أن نأخذ ما يزيد حضارتنا الأخلاقية قوةً ومتانةً، ويدفع بمسيرتنا التطوّرية قُدُماً دونما خوفٍ من المستقبل أو سبق الآخرين لنا، لأننا وإياهم شركاء في الحضارة الإنسانية المعاصرة “( المجلة الثقافية العدد75).

وهذه مسألة يقرّها كلُّ المنصفين من الباحثين والدارسين، ولا بأس في هذا المقام أن أثبت هذه الحادثة المؤثّرة، لصلتها الوطيدة بسياق حديثنا، وأيضا لأهميّتها في شحذ همّة المبتعثين وطلبة العلم العرب والمسلمين، ودفعهم للتزوّد من العلوم المختلفة، وهم يقفون على أرض صلبة من الانتماء الصحيح للأمة والثقة الكاملة بالنفس، دون أيّ مُسكةٍ من غرور أو استنكاف ( تكبّر ) على حقيقة جهود الآخرين وإضافاتهم وإبداعاتهم.

فقد حدث ذات يوم من الأيام أنْ وقف الدكتور ” كريسيب ” مدير جامعة برلين ورئيس قسم الطب فيها، مخاطباً الطلبة والمبتعثين العرب والمسلمين، بمناسبة حفل أقامه هؤلاء الطلبة، قائلاً لهم:” أيها الطلبة المسلمون: إننا نحن الأوروبيون مَدينون لكم ولتلك القافلة العظيمة التي كانت عندكم من العلماء. بل ولا يزال العجب يأخذ منا كلّ مأخذ، عندما نتذكّر الرازي وابن الهيثم وابن النفيس والخوارزمي..وغيرهم من أعلام الحضارة الإسلامية..أيها الطلبة المسلمون: أما الآن وقد انعكس الأمر، فنحن الأوروبيون يجب أن نؤدي ما علينا تجاهكم، فما العلوم التي بين أيدينا إلا امتداداً لعلوم آبائكم وشرحاً لمعارفهم ونظرياتهم. فلا تنسوا أيها الطلبة تاريخَكم المشرق، وعليكم بالعمل المتواصل كي تعيدوا مَجدَكم التليد، طالما أن كتابكم المقدّس “القرآن الكريم” ـ عنوان نهضتكم وحضارتكم ـ ما يزال بين أيديكم .. فارجعوا للماضي لتؤسسوا المستقبل.. ففي إسلامكم علم وثقافة ونور ومعرفة..وسلامٌ عليكم يا طلابَنا، الذين كُنّا في الماضي طلاّبَكم .. ” !!

إنها كلمات ترجّ المشاعرَ رجّاً، وتستدعي حضور تلك الصفحات الناصعة من بين تلافيف شريط الذاكرة..وكم يشعر كلّ واحدٍ منا بالعزّة والفخر يملآن عليه جوانحه، وهو يقرأ شهادة المنصفين واعترافاتهم بجهود هؤلاء الأسلاف العظام، وما قدّموه للإنسانية من أعمال ومنجزات، مهّدت الطريق أمام الشأو العجيب، الذي بلغته الحضارة في هذه الحقبة من التاريخ.

إن الأمم تحتاج في مرحلة نهوضها من جديد، أو خلال انعطافة عودتها إلى ميدان الإضافة والمنافسة والتدافع والسباق، إلى النظر الحصيف في ماضيها والإفادة منه وإحياء عناصر وعوامل القوة فيه، ثمّ العمل على توظيفها بلباقة وحكمة ومنهجية في بناء الحاضر وتعزيز المستقبل. ولنا في سائق السيارة خير مثال . فإن سائق السيارة ـــــــ وهو يعيش لحظته ( الحاضر أو الراهن ) ـــــــ يندفع بسرعة باتجاه الوصول إلى نقطة معيّنة ـــــ فهي تمثّل بالنسبة له المستقبل ــــــ لكنه لكي يضمن وصولاً آمناً، لا يستغني أبداً عن النظر في المرآة العاكسة للخلف ــــــ  وذلك يمثّل الماضي ــــــ وهو لو غفل عن هذه المرآة أو أهملها عمداً لما ضمن وصوله إلى هدفه .

فالله تعالى نسأل أن يُعين كلَّ طلاب وناشدي العلم وأن يوفّقهم في أعمالهم ودراساتهم وأبحاثهم، وأن يجعلهم عناصرَ بناء وقوة لوطنهم وأمتهم، فإن قوة الأوطان واستعصاء الأمة على الاختراق ومحاولات الإلحاق والإضعاف، مرهون بسلامة عناصر البناء، وهذه السلامة إنما تتحقق بالتمكّن من العلوم المختلفة، والإخلاص لله والدين والوطن، والإصرار على ضرورة أن تتخطّى الأمة العقابيل والحواجز والأوهاق والأغلال والآصار التي تحول دون إقلاعها الحضاري وعودتها إلى حلبة السباق العلمي والحضاري من جديد .

والله تعالى وليّ كلّ توفيق .

 

اظهر المزيد
زر الذهاب إلى الأعلى

مرحبا بكم في الموقع الرسمي لجريدة البصائر

 

تفتح جريدة “البصائر” صفحاتها للأساتذة الجامعيين والمؤرخين والمثقفين، لنشر إسهاماتهم في شتى روافد الثقافة والفكر والتاريخ والعلوم والأبحاث، للمساهمة في نشر الوعي والمبادرات القيّمة وسط القراء ومن خلالهم النخبة وروافد المجتمع الجزائري.

على الراغبين والمهتمين إرسال مساهماتهم، وصورة شخصية، وبطاقة فنية عن سيرهم الذاتية، وذلك على البريد الالكتروني التالي:

info.bassair@gmail.com