ذكرى

في الذكرى السادسة والعشرين لوفاة الشيخ محمد الغزالي 2

د.. نجيب بن خيرة/

 

 

بين يدي الشيخ الغزالي
وبعد: فإن جمع روائع الشيخ الغزالي رغبة قديمة يوم أن كنت طالبا أجلس إليه في الصف، وأدمن قراءة كل ما يكتب، وأسمع كل ما يلقي من محاضرات داخل الجامعة أو خارجها… وأعيد سماع المحاضرة بعد تسجيلها في جهاز خاص أضعه بين يديه، وأستمتع وأنا أنظر إلى الشيخ وهو يداعبه أحيانا بيديه وهو يتكلم..!، كما أجمع الروائع في كُراس، وأستظهر بعضها عن ظهر قلب… ولما أحزنني أن بعضها لا يتماسك في ذاكرتي، دخلت عليه يوما في مكتبه، وكانت المرة الأولى التي أجلس فيها إليه على انفراد، .. وقلت له: «إنني أريد أن أحفظ كل ما تقول وما تكتب… ولكن النسيان أعياني عن بلوغ المراد…!، فقال لي بلسان الأب الحاني، والشيخ العارف، والمربي المشفق.. «يا بني إن ما أكتبه ليس قرآنا، بل هو كلام فيه من التوجيه ما يمكن أن يفهم بالمعنى لا باللفظ…»، ثم خضت معه في حديث غيره…
وتأكدت لي الرغبة في جمع الروائع حين زرت -للمرة الثانية- بيت الشيخ الغزالي رفقة زوجتي في حي الدقي بالقاهرة عام 2005م، وقد كانت المرة الأولى عام 1997م رفقة زميلي الفاضل الدكتور (عبد القادر جدي)، أما هذه المرة فقد تعرفت على عائلته، واستضافني في البيت نجله الأكبر المهندس ضياء الدين مع أخته هدى وزوجها، ومع أن مجلس الضيوف في الطابق الأرضي من الفيلا الأنيقة، إلا أنهم أكرموني بالجلوس في الطابق الأول حيث كان يقيم الشيخ… ولقيت منهم الترحيب وحسن الاستقبال، ومن وفائهم أدخلوني إلى غرفة نومه حيث لا يزال فيها سريره ومذياعه، وبعض أغراضه.. كما دخلت إلى غرفة مكتبته، وهي تحوي رفوفا من الكتب وسريرا صغيرا يستريح فيه الشيخ بين فترات القراءة والكتابة… فأخذت مع زوجتي صورا في المكتبة، وجلسنا بعدها في ردهة البيت الجميل، نسترجع مع العائلة ذكريات الشيخ الجليل في الجزائر وفي مصر ومع أهله وأولاده وأحفاده…، ولما أهديت لهم بعضا من (تمر الجزائر) قال لي المهندس ضياء: «إن هذا التمر كان يعشقه الشيخ، ولا يصبر عنه حين يبعث به إليه بعض أحبابه ومحبيه… وكم تسلل في هدأة الليل إلى تلك الخزانة التي تراها ليأكل منه بالرغم من تحذير الطبيب له من أكل السكريات بكميات تزيد عن الحد المطلوب…!».
كما أهديت للمهندس ضياء كتابي الصغير الذي عنوانه (نظرات في التاريخ الإسلامي للشيخ محمد الغزالي) فشكرني على الوفاء، وقابلني بوفاء خير منه، حيث اتصل بدار (نهضة مصر للطباعة والنشر والتوزيع) التي طبعت جل أعمال الشيخ، ولم تكن قد خرجت إلى الأسواق بعد… وطلب منه أن يهديني المجموعة الكاملة، ومن الغد قصدت الدار في حي الفجالة بالقاهرة، وأخذت منهم المجموعة التي تحوي أربعة وأربعين عنوانا، كانت هي أفضل ما حملته من قاهرة المعز، وخير هدية من أرض الكنانة…!
لقد استغرق جمع هذه الروائع سنوات مديدة… لكثرة الشواغل والصَوارف والكُلَف… فأرْخت عزيمتي، وأبطأتني عن إتمام العمل… حتى خجلت من شيخي وأنا أنظر إلى كتبه وعلى غلافها صورته الوضيئة، وصارت تراودني رؤيته في المنام في أوقات غير متباعدة، … كما حثني بعض الصحاب على إخراج الكتاب الذي أعلنت عنه منذ زمن ليس بالقصير…
والحق أن كل كتابات الشيخ الغزالي روائع، وكان يمكن أن يكون حجمها أضعاف ما هي عليه، ولكن تكاليف الطبع، وطبع القارئ المعاصر العجول، جعلني أختصر ما اخترت إلى النصف أو يزيد…
ولو انبرى غيري لاختيار روائع من تراث الشيخ لاختار غير ما اخترت…فتراث الرجل منجمٌ ثَرٌّ، ومعينٌ مِدرار يسِحُّ عليك وارده فيروي العطاش… غَرْفاً من البحر أو رشفًا من الديمِ… !
وكم كنتُ أطرب وأنا أقرأ ما كتب، وفي أذني نغمة صوته، وموسيقى حروفه، وهي تنساب من بين شفتيه، مُحبَّبة مُعجِبة، تأتي بالعجائب وتصُوغَ الروائع…كأنها تنزيل من وحي التنزيل… !
وقد اجتهدت أن أضع لكل رائعة عنوانا يناسب موضوعها، أو أركن أحيانا إلى عنوان استوحيه من كلام الشيخ… وقد أكون وُفقت أو أخفقت… وإنما حسبي أنه اجتهاد من يخطئ ويصيب…
وأيا ما كان الأمر فهو جهد المقل.. مع رغبة صادقة في تقريب فكر الغزالي من أجيال ضامئة إلى الفكر المعتدل، والنهج القويم، والصراط المستقيم… ووضعها بين أيديهم سهلة ميسرة في طبق واحد فيه من الألوان والطعوم والثمار ما تلذ به أعين القارئين…
وقد أوردت بعض الروائع مختصرة من نص طويل.. ووضعت خلال النص المقتبس نقاطا، ليدرك القارئ أن هناك نصا محذوفا… فحسبي من القلادة ما أحاط بالجيد، ومن السوار ما أحاط بالمعصم..، فروائع الشيخ نفائس لا تستطيع أن تُقرر ماذا تأخذ منها وماذا تذرُ…!، أحاول اختصار العبارة أحيانا فلا أقدر، وأغالب قلمي لاقتضابها فلا أستطيع..!
إن الفكرة تتكرر عند الغزالي في أكثر من موضع، ولكن الصياغة البديعة تجعل منها خلقا جديدا، يهز القلب، ويُطرب السمع، ويعلَق بالفؤاد… ولا أنكر أني أشربتُ روحَه، وارتويت من حياض بلاغته…، ولعلّ عبق ذلك كلِه يضوعُ من بين سطور كاتب هذه السطور…!
ومن يتتبع هذه الروائع يجد أن الشيخ الجليل تناول شتى القضايا الفكرية والسياسية والاجتماعية والتاريخية، ولمسها لمس الطبيب المداوي، الذي يرجو البُرء، وينشر العافية…
ولا شك أن الرجل قرأ الكثير حول كل موضوع، وإلا كيف يعالج كل هذه القضايا بهذا العمق والتناول والمناقشة والنقد، والمحاججة والرد… وعرضها بأسلوب فيه من سحر البيان، وألق العبارة، وروعة الفكر، وجمال الأدب… ما يخطف الأبصار ويأخذ بالألباب…!
وقد قلت يوما لبعض خلصائي ممن يعرفون حبي للشيخ وولعي بفكره: إن الشيخ الغزالي هو أفضل من فهم حقيقة الإسلام وروحه ومقاصده وغاياته وأبعاده بعد سلف هذه الأمة من الصحابة والتابعين… «، وقد عدَّ البعض ذلك غلوا من محب… ولكنها القناعة التي لا تزال راسخة، ولم أجد لتغييرها من سبيل…!
إن الشيخ الغزالي لم يُحلق في مشروعه الفكري بعيدا عن واقع التجريب، ومضى غارقا في متاهات التجريد، بل عالج قضايا الأمة براهنية دقيقة، وتتبع تام، ومنهج يتسامى فوق كل جماعة أو حزب أو تنظيم…
إنه فكرٌ يجمع ولا يفرق، يهدي ولا يُضل، يُنير ولا يُعمي… . يشعرك بالأبوة الروحية على الأمة قاطبة، يحدب عليها، ويشخص عللها وأدواءها، ويقدم لها العلاج الذي لا يقبل التأجيل…!
وقد جاء على إثره ناسٌ حاولوا أن يكونوا هُوَ… فلم يستطيعوا… وأن يصلوا إليه فلم يلحقوا… فكانوا دليلا آخر على أن الشيخ شيء آخر!…
وهاهم تلاميذه ممن أحاطهم بالفكر النيِّر، والعلم الوسيع، يملؤون الجزائر طولا وعرضا، وبعضهم خرج من الجزائر إلى أرض الله وفكرُ الشيخ بين جنبيه ينشره في الناس بالفهم العميق، والفكر المعتدل، والبلاغ المبين…
أما خصومه الذين أغروا به السفهاء والأغرار فلمزوه وغمزوه وطعنوا في علمه وولائه لدينه، فقد ركلتهم الأيام، وصفعتهم الليالي، وتخطتهم الأحداث، ونبذتهم النفوس… وانتهوا جميعا… وبقي الغزالي..!
ومن عجائب الدهر أنه لما ألف كتابه «السنة النبوية بين أهل الفقه وأهل الحديث» كتب خصومه أربعة عشر كتابا في الرد عليه، حتى قال أحد الغلاة الحاقدين: «إن الشيخ الغزالي أشد على الإسلام من اليهود والنصارى…»!
وقرأ الشيخ الردود، وقال: «ليست بكلام طائل…!»، وقال: «لم أجد فيها شيئا يستحق النظر..!».
ووقف كالطود الشامخ يغالب الموج العاتي… وقال: «لقد شتمني بعض الناس، فوجدت الإعراض عنهم أولى، ومَنْ من الأنبياء لم يُشتم؟!، فليتأس أتباعهم بهم في الصبر والتجاوز…!
قالــــــوا الإلــــــه ذو ولــــــد  قالوا للرسول قد كهنا
ما نجا الله والرسول معا  من لسان الورى، فكيف أنا؟!
وأنا أعلن أن الله ورسوله أحبّ إليّ مما سواهما، وأن إخلاصي للإسلام يتجدد ولا يتبدّد… وأنه أولى بأولئك المتحدثين أن يلزموا الفقه والأدب، فغايتي تنقية السنة مما قد يشوبها، وغايتي كذلك حماية الثقافة الإسلامية من أناس قيل فيهم: إنهم يطلبون العلم يوم السبت، ويدرسونه يوم الأحد، ويعملون أساتذة له يوم الإثنين، أما يوم الثلاثاء فيطاولون الأئمة الكبار ويقولون: نحن رجال وهم رجال..!
وإذا كان هؤلاء لم يرزقوا شيوخا يربونهم، أو أساتذة يثقفونهم، فسوف تربيهم الأيام والليالي، وما أحفلها بالعجائب…!».
والغريب أن الزمن دار دورته، ورجع كثير من خصوم الشيخ عن عداوته، وأخذوا يخطبون ودّ أفكاره، ويعتبرون مشروعه الفكري طوق نجاتهم، بعدما أخذ يعربد في ديار المسلمين فكرُ التكفير والتفجير… واختفت كل تلك الكتب التي كانت تحمل الردود الحانقة، ولم يبق بين أيدي المسلمين إلا كتاب الغزالي..! يتداوله الناس، وتحمّله مئات المواقع مجانا ليقرأه من لم يقرأه…
وقُبضت روح الغزالي وهو ينافح عن الإسلام في مؤتمر (الجنادرية)… ويُسجّى جثمانه الطاهر في مقابر البقيع بالمدينة المنورة (دار السنة) بين قبر الإمام مالك وقبر الإمام نافع مولى ابن عمر (أهل الفقه وأهل الحديث)، وعلى بعد خطوات من صاحب الغرفة الشريفة عليه أفضل الصلاة وأزكى التسليم..!
«رحم الله الشيخ الغزالي فقد عاش مشعلا من مشاعل الهداية، ونجما من نجوم التنوير، ولسانا من ألسنة الصدق، وداعية من دعاة الحق والخير والجمال».
• جامعة الشارقة.
الامارات العربية المتحدة

اظهر المزيد
زر الذهاب إلى الأعلى

مرحبا بكم في الموقع الرسمي لجريدة البصائر

 

تفتح جريدة “البصائر” صفحاتها للأساتذة الجامعيين والمؤرخين والمثقفين، لنشر إسهاماتهم في شتى روافد الثقافة والفكر والتاريخ والعلوم والأبحاث، للمساهمة في نشر الوعي والمبادرات القيّمة وسط القراء ومن خلالهم النخبة وروافد المجتمع الجزائري.

على الراغبين والمهتمين إرسال مساهماتهم، وصورة شخصية، وبطاقة فنية عن سيرهم الذاتية، وذلك على البريد الالكتروني التالي:

info.bassair@gmail.com