قراءة في كتاب الحب في التربية النبوية للأستاذة عائشة النجار
أمال السائحي/
الحبُّ كلمةٌ صغيرةٌ في مبناها، كبيرةٌ في معناها، فهو تحلِّق بالمسمَّيات، من مدلولاتها المادية إلى أفقها المعنوي الواسع، وتنقل الإنسان من الضيق إلى السَّعة، ومن الألم إلى الأمل، وتصنع من المحنة منحة، ومن السجن روضة، وتجعل الصبر متعة، وتكون محفِّزًا للإنسان ليخترق الصعاب، ويتجاوز المستحيل، ليُري محبوبه الإخلاص، والوفاء، والتضحية، والعطاء.
والإسلام ليس دين أفكار ونظريات، بل دين واقع، ينبض بالحب، والحياة، ويسمو بالأخلاق، دين يرتقي بمشاعرك نحو الرفعة والسمو، لتشعر بكل ما حولك:
لقد كان الزوج المحب الوفي الحنون، والوالد الشفيق كالأم الرؤوم، والصاحب المخلص الوفي الودود، والقائد الرؤوف الرحيم لأمته إلى يوم الدين، فكانت مدرسة الحب المحمدية الرائدة، التي باتت مشعل هداية، أضاء الكون للعالمين، ولها يعود الفضل في إعداد الإنسان المسلم منذ نشأته الأولى، وإصلاحه باللطف والقدوة الحسنة، لتصوغه بشكل سليم وتشعره بمسؤولية الأمانة، والقيام بأعباء الاستخلاف وعمران الأرض وفق منهج الله… والذي نراه اليوم في أوجه كثيرة، فقد افتقدنا الحب الصحيح مع أهلنا وأصدقائنا ومجتمعنا، وجعل بعضهم الحب رمزًا للميوعة والاستخفاف، ومفهومًا للأنانية والاستمتاع بالملذات العابرة، وتحول من الفطرة الطاهرة إلى المادية وحسب. ولا سبيل لاسترجاع تلك الشخصية المسلمة التي بناها عليه الصلاة والسلام إلا باتباع نهجه في إصلاحه وتربيته للرعيل الأول، الذين نهلوا من المنبع الصافي للأخلاق المحمدية ومن سيرته الزكيَّة، وإعادة تجسيد هذه الصورة مجددًا في واقعنا المعاصر، وإنزالها على واقع الناس على ضوء هديه صلى الله عليه وسلم، فالسيرة العطرة في رعاية المسلم وتزكيته هي السبيل إلى بناء الإنسان النموذج.
الحب عاطفة فيَّاضة، أودعها الله في النفس البشرية، وهو ليس عبارات، جميلة ومنمّقة فحسب، يسكبها المحبّ في أذن من يحبه ليعبّر له عن شعوره، نحوه، بل لا بدَّ من تحويل هذا الشعور إلى سلوك وعمل يؤدى يدل عليه؛ لأن هذه العواطف والمشاعر لا يمكن رصدها بالعين المجرَّدة، وإنما يمكن رؤية أثرها من خلال انعكاس هذه المشاعر على السلوك الظاهر. والسلوك الظاهر هو الأساس في العلاقات الإنسانيَّة، وهذا معنى الحب السلوكي، [أي تحويل الحب والودّ من شعور إلى سلوك وفعل].
فصدق محبة العبد لربه لا تكون بدعوى القلب واللسان فقط، فكم من مدَّعٍ للحب وسلوكه يكذب دعواه، فعلامة صدق المحبة سلوك يقدمه العبد، ألا وهو طاعة الله ورسوله.
ومن هدي السيرة النبويَّة يعلِّمنا صلى الله عليه وسلم مفهوم الحب السلوكي العملي في «لا تَدخُلُونَ الجنَّة»: وحديث «تَهادُوا تحابُّوا» أحاديث كثيرة، منها حتى تؤمنوا، ولا تؤمنوا حتَّى تحابُّوا، أوَلا أدلُّكم على شيءٍ إذا فعلتموه.. فالهدية والسلام سلوكان عمليان من “تحاببتم؟ أفشوا السَّلام بينكم أسباب المحبة.
كان الحب في حياة الرسول صلى الله عليه وسلم قاعدة راسخة وسلوكًا ثابتًا أصيلًا ممزوجًا بطبيعته، متأصلًا في فطرته، ملازمًا له في عبادته وخُلقه وسلوكه، وأدبه وشمائله، فهو سمة بارزة في حياته الخاصة والعامة وفي السلم والحرب.
فكان صلى الله عليه وسلم واحةً وارفةً تتفجر عطفًا وحنانًا، ورحمةً وودًا ورقة تسري روحه في كل شيء حوله، فأحال صحارى القلوب إلى جنان تفيض بالحب والحنان.
ومن الحب الكبير والحنان والعطف الذي ملأ قلبه، أنه اشتاق إلى إخوانه، الذين يأتون آخر الزمان، الذين آمنوا به ولم يروه. ومن حبه أيضًا لأمته..[جمعاء وشفقته عليها أنه ما خُير بين أمرين إلا أخذ أيسرهما ما لم يكن إثمًا]، هذا هو القلب الكبير الذي مُلئِ حبا وبشاشةً وعطفًا، شمل كل من أَحاطَه وأَحَاطَ به عليه الصلاة والسلام.
ولقد تجاوز حبه صلى الله عليه وسلم البشر ليصل إلى الحيوانات والجمادات، فكان يقرب الإناء للقطة لتشرب، ويوصي بالإحسان لتلك المخلوقات الضعيفة، ويواسي في موت طائر كان يلهو به أخو خادمه.
هكذا كان يحيا الحب في كيان سيد البشرية بأصدق معانيه، وتسكن الرحمة في فؤاده بأبهى حللها. والحب والرحمة هما لب التربية والأخلاق والإحسان.
فالحب -في طاعة الله- رأسمال الحياة الزوجيَّة، وفي ظله تتلاشى كثير من المشكلات، ولا يُستثقل عمل وعبء ومسؤوليات الحياة لكلا الزوجين. ويسرّي عنهما بأن كلا منهما يعتني بصاحبه ويراعي مشاعره، ليغرفا من الحب ويسعدا به.
فالنفوس مجبولة على حب من يحسن إليها، ويتلقاها باللين، ويسعى لها في المحيا. وصاحب الترويض الناجح هو الذي يبصر تلك النفوس ما ينفعها سواء بالقول أو بالتعامل، بترفّق ولطف وسعة صدر مع مراعاة المدخل الحسن والمناسب لنفوسهم، لأنَّ الناس متباينون في طبائعهم، مختلفون في مدركاتهم، وفي علمهم وجهلهم وذكائهم، وأعمارهم وأمزجتهم ومشاعرهم، أو في ميولهم واتجاهاتهم، وفي هدوئهم وفي غضبهم…فكيف نقابل جهل الناس ومنكراتهم؟ هل نعالجها بالحب والحكمة، واللين والتقبل وسعة الصدر لنخرجهم من الظلمات إلى النور، ومن الجهل إلى العلم، أم نجهل فوق جهل الجاهلين؟!
فخير وسيلة للتعليم بأن تكون النصيحة مغلفة بغلاف العطف والحب والحنان؛ لأن المحبة تغذي الأرواح والقلوب، فيكون قبولها أسرع وأرسخ. ويتقبلها المنصوح بقبول حسن، ويعلم مدى حرص الناصح على مصلحته. وتنتشر المحبة والمودة وحب الخير بين الناس، وبذلك يتحقق الكمال الإنساني على عكس الفظاظة والغلظة في النصح والتعليم والتي تؤدي إلى فساد أكبر، وإلى جفاء القلوب، وانهيار العلاقات الاجتماعية.