
أ. د. محمد عيلان *
أما زلهايم فإنه يقول: (سمى قدماء الساميين (المثل) باسمه تبعا لسماته الجوهرية أصلا، وهي سمات المقارنة التصويرية).6.
وبالرجوع إلى اللغة العربية وكشف العلاقة بين الاستعمالات المختلفة لكلمة (مثل) من خلال المقارنة، نتمكن من إدراك ما خفي من معان كانت شائعة في أخواتها السامية حفظتها اللغة العربية، بدليل بقاء كلمة (مثل) في اللغة العربية بأصواتها ودلالاتها إلى يومنا هذا، كما ظلت تعني في شتى الاستعمالات: المشابهة والمشاكلة.
فقد جاء: المثل (masala ، mesl ، metal ) بمعنى : الشبه أو النظير . واشتقوا الفعل (mashal ) في العبرية، (masalu ) في الآشورية (masala ) في الحبشية القديمة والأمهرية (metel ) في الآرامية ) في السريانية (metal. وكلها أفعال تدل على المشابهة والمشاكلة) 7. ويختلف عنه (رودولف زلهايم) في كتابته كلمة (مثل) في اللغات السامية بالأحرف اللاتينية ضمن النص الآتي: (الأصل السامي لهذه الكلمة في العربية (مثل) وفي العبرية (masal) وفي الآرامية (matla) وفي الحبشية (mesel) وفي الأكادية (meslum)، ولكنه لا يختلف في مدلولها الذي يعني: المماثلة والمشابهة.
وجاء في القرآن الكريم عـديد الأمثال لحوادث مختلفة، تعني في دلالاتها على ما تعنيه: المشابهة أو النظير أو المِثْل ــــــ بكسر الميم ـــــ ثم ما يراد منها بعد ذلك وفقا للسياق، وكذلك جاءت الأحاديث النبوية.
ويبدو أن دلالة المشابهة قد استقرت في اللغات السامية، وبخاصة اللغة العربية التي حافظت على هذه الصفة للمثل، وعلى هذا يُفَسَّرُ قول الزمخشري في مقدمة كتابه «المستقصي في أمثال العرب» الجزء الأول بأن: (المثل في لغة العرب بمعنى المِثْل كالشَّبَه والشِّبْه، ثم سميت هذه الجملة من القول المقتضبة من وَسْلِها، أو الموسلة بذاتها المتسمة بالقول، المشتهرة بالتداول: مثلا ونظيرا لمضربها) 8. والمراد أنها في أصل الكلام العربي بمعنى المثل والنظير. ونقلت من المشابهة في الصورة المادية إلى المشابهة في أمور أخرى غير حسية، كإحضار صورة الشخص على مستوى الذهن وإيذائه بالكلام الذي لا يليق به أو لا يرضى به لو كان موجودا ـ والهجاء العربي مبني على هذا أيضا ـ وهو ما يمكن أن نطلق عليه المجاز الذي يقوم على إدراك الصورة ومقابلتها والتعبير عنها بما لا يكون مباشرا مما يكون عماده التشبيه.
واللغة العربية ـ وهي أرقى اللغات السامية ـ قد وسَّعت من مدلول لفظ (مثل) وضمنته معاني كثيرة كما سنذكر.
المعنى الاصطلاحي في اللغات السامية:
تتضارب الآراء وتتباين المعلومات عن الأمثال في موروث الشعوب السامية، ونظرا لقلة المادة وعدم توفر النصوص، فقد كانت نصوص التوراة وشروحها وتفسيراتها أكبر مرجع للباحثين المحدثين في الآداب السامية، كما ذكرت.
ورغم اتفاق الباحثين على أن كلمة (مثل) ـ بمحتواها ـ وردت في آداب الشعوب السامية، إلا أنهم يختلفون في مجالات استعمالها والمواضيع التي تكون عنوانا لها. وإذا رجعنا إلى أقوال هؤلاء الباحثين وجدنا أن (المثل القولي) في الاصطلاح السامي يحمل مدلولا واسعا، فقد أطلق الساميون لفظ (مثل) على فنون من التعبير بعضها موجز وبعضها مطول، أطلقوه على الكلمة الموجزة التي اكتسبت الشيوع والشهرة في الناس، والكلمة الجامعة المركزة الدالة على مهارة الصنعة والقدرة على الإلغاز والتعمية، وأطلقوه على القطعة الأدبية التي قد تبلغ الفقرة والفقرتين من الكلام التي تقص نبوءة من النبوءات، أو تنزع منزع الأنشودة الشعرية، أو ترد قياسا ومقارنة لتفسير فكرة، أو توضيح عبارة أو تحكي قصة خرافية ذات مغزى 9.
(والملاحظ هنا أن الكتب العربية لم تتناول نشوء المفردة في اللغة العربية، بل اكتفت بشرحها وتحليل ما تدل عليه، وكأنها بذلك كلمة عربية شائعة معروفة لا تحتاج إلى معرفة أصولها).
وأمام هذا الإطلاق صعب على الدارسين تحديد أشكال الأمثال وصيغها ومجالاتها، وهل المثل الحكمة؟.
والحقيقة أن ما توفر لدينا من معلومات في التراث السامي عن (المثل) وإطلاقه يكاد يكون: (الحكمة). فما عبرت عنه النصوص التي بين أيدينا، تتجاوز حدود (المثل) إلى (الحكمة) التي تصدر عمن وصفوا بالعقل الراجح، والرأي السديد، ممن يُلَقِّنون الناس تجاربهم ومعارفهم عن الحياة ليس إلا.
وما نلاحظه لدى الدارسين عن المدلول الذي اكتساه لفظ (مثل) اتسام آرائهم بالعموم، لقلة المادة، وفي الوقت نفسه كان البعض منهم متأثرا بما شاع في عصور متأخرة، من استقلال كلمة (مثل) بمدلول معين عرف لدى الشعوب.
وبرغم ذلك فإننا نجد إشارة الباحثين إلى خصائص هذه التعابير المثلية، تلتقي في أن من أهمها استغلال (المجاز) في التعبير عن الحقائق الشاهدة، وكانت هذه الخاصية مجالا خصبا لحشد كثير من المواقف والممارسات في كلمة (مثل).
من ذلك مواقف الكهان وتصرفاتهم (وكان الكاهن والعراف في أشد الحاجة إلى ا لصورة المجازية، يجد فيها مجالا للمواربة والإيماء والرمز والإلغاز)10.
وقد يستدلون على وجود المثل وشيوعه في التراث السامي بما كان يرد على لسان حكماء بابل، ووصايا (أحيقار الحكيم) أو (لقمان الحكيم) 11، و(أسفار العهد القديم) 12. وخير صورة لهذه الأمثال والألغاز ما يرد على لسان الكهنة العرب في العصر الجاهلي. راجع: الجاحظ ـ البيان والتبيين. الجزء الأول.
وورد المثل مقترنا باللغز في سفر (حزقيال) الإصحاح السابع عشر 1ـ 10، انظر الكتاب المقدس. وفي المرجع نفسه أيضا إن (المثل واللغز أقوال الحكماء وغوامضهم).1 ـ 6. وفي مو ضع آخر بالكتاب المقدس إشارة إلى أن المثل: (أدب يدركه الحكماء ولا يعيه الجاهلون). وفي مجال آخر نجد الباحثين يوردون إطلاق لفظ (مثل) على حكايات قصد منها توضيح بعض الأفكار والبرهنة عليها، كتلك القصص التي يلقيها الحكماء للعظة والاعتبار.
وفي موسوعة الأديان: إن المثل اختلط باللغز 13 لأن؛ (الشعوب في أولى مراحل ثقافتها كانت مولعة بالإِلْغاز. و (الأمثال الملغزة منتشرة في الشعوب السامية) 14. واستدلوا على ذلك بما ورد في الآثار السومرية، والآثار البابلية، خاصة ما ورد في نقوشها اللغز القائل: ما الشيء يصير حاملا من غير حبل، ويصير سمينا من غير أكل؟ والجواب هو: السحاب 15.
ويرى الدكتور عبد المجيد عابدين أن (المثل واللغز وثيقا الصلة بالخرافة من حيث أن كلا منهما يستغل المجاز للتعبير عن صورة بعيدة عن الواقع، يلجأ إليها الناس للتعبير عن أفكارهم في صور محسوسة) 16.
ولا نبعد عن هذه الآراء كثيرا حتى نجد في النصوص العبرية بأن المثل أطلق على الأناشيد التي كان ينشدها سليمان، وفي الكتاب المقدس سفر الملوك الأول الإصحاح الرابع: (وتكلم ــــ أي سليمان ـــ بثلاثة آلاف مثل)17. وأما أمثال سليمان فنجدها في سفر الأمثال بعد الإصحاح التاسع. وأطلق المثل أيضا على بعض المزامير التي تتغنى بالتعاليم الدينية 18.
وفي خضم هذه الآراء التي ترى بأن المثل أطلق على أقوال الكهان والعرافين، أو على ما أُثِر من نقوش في آثار البابليين والسومريين، أو على القصص الخرافي، أو على الأفكار التعليمية المدعمة بالبراهين، أو العبارات الأدبية المنمقة، أو على ما ورد في الأدب العبري من أقوال حكمية في أساسها تدعو إلى التأمل وإعمال النظر في الكون، فإنه لا يسعنا إلا القول بأن ذلك مرده انعدام النصوص الكافية.
والأقرب إلينا هو أن (المثل) له أصل في الكلام السامي وأنه كان مستقلا في كلامهم، ويعبر عن تجارب عاشتها المجتمعات، ولكن عناية الساميين على ما يبدو كانت موجهة إلى من بيدهم السلطة الدينية والزمنية، فحفظت أقوالهم وسجلتها باعتبارها نصوصا مقدسة. إذ أنها من جانب تتصل بشعائر دينية تقتضي الحفظ والتقديس، ومن جانب آخر فهي تعاليم توجه الإنسان في حياته اليومية، وفق ما ترسمه العقيدة التي وضعتها الآلهة وأوحت بها لتصدر على لسان رجال الدين من الكهان أو (الرِّبــيِّين). وما عدا ذلك ضاع واندثر باندثار أصحابه، مما له صلة بالفن القولي، الذي يتضمن تجارب مستقاة من واقع حياة الناس وممارساتهم اليومية. والمثل في كل ذلك يتفاوت في مدلوله وأنواعه، ومكانته من أشكال لغة التعبير.
أما ما ورد في أسفار العهد القديم خاصة (سفر الأمثال) فإنه مما يمكن اعتباره استقلالا ووضوحا لمعالم المثل، وبداية لمساره بشكله المتعارف عليه لدى كثير من الشعوب السامية الأخرى غير العبرية، كالعربية والأمهرية وغيرهما. ففي العربية لا نعثر له على أشكال صوره وتطورها، بل نتلقى المثل في التراث العربي عن طريق المؤرخين وجامعي اللغة بصورته المعروفة لدينا، وبأشكاله اللغوية المتمثلة في الجملة أو الجمل القصيرة التي تعبر عن تجربة معينة ومحددة، مع المحافظة على صياغته الأولى، ليعبر عما يجدُّ من تجارب مشابهة في أي زمان وأي مكان دون تغيير أو تبديل.
بيد أننا بعد هذا كله نجد الباحثين في الأمثال في الآداب السامية، يتفقون على أهم خاصية فيه وهي: خاصية المجاز، وإحكام العبارة، وصياغتها على نحو لغوي يضمن جمالها فنيا ليتجاوز بها حدود الابتذال، مما يسهل لها الشيوع والذيوع والبقاء لفترة زمنية ليست بالقصيرة. وهي الخاصية التي ظلت الأساس في بناء المثل وفي تداوله، كما أننا على ضوء هذه الخاصية يمكن فهم تواصل المثل وإنتاجه في اللغات السامية إلى يومنا هذا، مما يسهل تتبعه في العربية عبر تاريخها.
أ . د . محمد عيلان
كلية الآداب والعلوم الإنسانية والاجتماعي
جامعة باجي مختار ــ عنابة
ailafolk@hotmail.com