حوار

البصائر في حوار مع عالم الاجتماع التونسي منير السعيداني

حصيلة ما شاهدته في جامعتي وفي العديد من الجامعات العربية الأخرى أن مختلف الفاعلين التربويين والبحثيين فيها أضاعوا فرصة ثمينة لإحراز تقدم مهمّ في هذا التعليم الافتراضي.

أجرى الحوار: عبد القادر قلاتي/

 

ما زال الدرس السوسيولوجي يملك الكثير من أدوات التحليل والفهم، كما يملك القدرة على المحاججة المعرفية في سياق الحفاظ على المنجزات التي حققتها وتحققها دائما التحولات الحضارية، التي يعرفها العالم، وخصوصاً المجالات ما قبل حداثية (الدولة الحديثة) مثل العالم العربي والإسلامي، الذي عرف نموذج الدولة الحديثة لكن في إطارها المشوه، وهو ما يحتاج دائماً إلى تكثيف المطالبة بالتصحيح في مسار الدولة والمجتمع على حد سواء.. في هذا الحوار ننقل لقراء البصائر جملة من الاجابات التي قدمها أحد علماء الاجتماع، وهو التونسي الدكتور منير السعيداني الذي تفضل مشكوراً بالإجابة على أسئلة البصائر، فله جزيل الشكر والامتنان على التعاون والمشاركة….

نبدأ الحوار بمعرفة السيرة الذاتية للدكتور السعيداني؟
– مولود سنة 1958. متحصل على شهادة التأهيل الجامعي (2010) وعلى شهادة الدكتورا (2001) في علم الاجتماع. أستاذ تعليم عال (2015) بجامعة تونس المنار (المعهد العالي للعلوم الإنسانية بتونس) وباحث. يُسدي، منذ سنة 2000، دروس الأنتروبولوجيا الثقافية وعلم اجتماع الثقافة وأنتروبولوجيا الممارسات الثقافية وعلم اجتماع الاتصال ما بين الثقافي في الجامعات التونسية. عضو لجان وطنية ضمن مؤسسات التعليم العالي بتونس في اختصاص علم الاجتماع، وعضو لجان دكتورا وتأهيل في الاختصاص وفي الاختصاصات المجاورة. عضو لجان علمية مشرفة على ندوات علمية وطنية ودولية في علم الاجتماع منذ 2004، وعضو فرق بحث تونسية وعربية ودولية في اختصاصه. عضو هيئة تحرير نشرية الجمعية الدولية لعلم الاجتماع Global Dialogue، ومحكّم للمقالات في مجلات علمية آكاديمية تونسية وعربية ودولية، ومحكم للبحوث والكتب لدى هيئات تدريس وبحث عربية ودولية مختلفة. صدرت لي كتب شخصية وجماعية (12)، وعشرات المقالات في اختصاصي بالعربية والفرنسية والإنكليزية. أصدرت ترجمات في اختصاصي، عن الفرنسية وعن الإنكليزية كتُبا ومقالات. مشرفٌ عام ورئيس تحرير ‘تقرير الحالة الدينية بتونس 2011-2015’ (4 مجلدات، 1408 صفحة). رئيس تحرير المجلة التونسية للعلوم الاجتماعية (1964) الصادرة عن مركز الدراسات والبحوث الاقتصادية والاجتماعية (أنشئ 1962). حاضرت بالعربية والفرنسية والإنكليزية في أكثر من 15 عاصمة ومدينة كبرى على امتداد العالم، وعلى منابر جمعيات علوم اجتماع تونسية وعربية، ودولية، ومؤسسات ومراكز بحوث منها مؤمنون بلا حدود للدراسات والأبحاث، والمركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، ومركز البحوث حول المغرب المعاصر (فرنسي مقره تونس)، ومركز الدراسات والبحوث الاقتصادية والاجتماعية (تونس)، ومركز الأبحاث في الأنتروبولوجيا الاجتماعية والثقافية (الجزائر)، والمجلس العربي للعلوم الاجتماعية، ومركز دراسات الوحدة العربية، وMaison des Sciences de l’Homme بباريس، ومعهد عصام فارس للسياسات العامة (لبنان).
من موقعك كمفكر وعالم إجتماع.. ما الذي بقي من تأثير للثورات العربية، في بنية الحياة السياسية والاجتماعية، وخصوصا ونحن نعيش ردّة واضحة عن المفهوم الأصيل للثورة؟
– من أكبر الدروس التي وقفت عليها أنا شخصيا من الثورات العربية هو أن “التعريف” الذي كان يقدم للثورة في علوم الاجتماع، وبالاستناد إلى “نماذج” الثورات في فرنسا وروسيا والصين وحتى إيران، ليس صالحا لقراءة هذه الثورات العربية المعاصرة. الجديد، هو أن هذه الحركات الاجتماعية التي استحال البعض منها انتفاضات فثورات، وبقدر استهدافها أنظمة سياسية مستبدة ومفرّطة في استقلالها السياسي وعاجزة عن إنجاز ما ترفعه من شعارات، استهدفت نظام القيم الذي كان يشرّع للتفريط في كرامة الإنسان وحرّيته. باعتماد هذين السّمتين، يمكنني القول إن الثورات العربية المعاصرة افتتحت عهدا إنْسِيًّا جديدا يقوم على شرعية إدانة هدر الكرامة الإنسانية والاحتجاج عليها.
ما بقي من هذه الثورات أن ممارسة هذه الشرعية توزّع في شعاب إعادة تأسيس الفعل السياسي، واختلاق الذائقة الفنية، وصنع المعيش، وابتداع الثقافة، والجرأة على أخذ الكلمة وإيقاظ الذاكرات الخصوصية ووضع استراتيجيات اختراع الحياة اليومية. وبذلك تكون هذه الثورات قد عبرت بنا، ونهائيا، إلى خارج الصلوحية التاريخية للدولة العربية ما بعد الاستعمارية المستبدّة وأخرجتنا، مِثْلًا بمثلٍ من استبداد المسألة السّياسية السّلطوية الحصريّ بالمعنى التاريخيّ الاجتماعي للفعل الثّوريِّ.
– كلّ ما تحقق من تحولات في مفهوم السلطة والحياة السياسية والاجتماعية في البلاد التي عرفت ثورات مثل تونس ومصر، أصبح محلّ تأويل وقراءة.. حيث يرى البعض أن المدخل الحقيقي لتحقيق مفهوم الدولة الحديثة ليس الثورات الشعبية. كيف ترى مستقبل الدول العربية بعدما فشلت الثورات في تحقيق مفهوم الدولة الحديثة؟
– تضارب التأويلات في المجتمع وتقارعها أمر عادي، وهو من صميم ما أسمّيه ‘المفاوضة التاريخية الاجتماعية حول مآلات التغيير الاجتماعي’. لا يكون التغيير الاجتماعي، مهما كان مداه، محلّ ترحاب من جميع أفراد المجتمع وفئاته وطبقاته ومراكز القوة فيه، لا في توقيت حدوثه ذاته ولا في مجريات كيفياته ولا في محصول نتائجه.
على امتداد عشريات الدولة ما بعد الاستعمارية كانت هذه الدولة ذاتها في قلب المناقشات الأكاديمية، في انسجام تام مع تصوّرٍ مُحدَّدٍ للتحديث ولعلاقة الدولة بالمجتمع ولأولوية الوحدة الوطنية حول شعاراتها وسياساتها وترتيباتها للعلاقات الاجتماعية. وفي تقديري أن من بين الأفهام الرئيسة للثورات العربية المعاصرة أنها أكّدت بوضوح لا مركزية الدولة الحديثة في معناها السابق عرضه في المطلب الاجتماعي العمومي، وهو ما فتح أفق النظر إلى التغيير الاجتماعي من زوايا غير دَوْلَوِيّة.
وضمن هذا الجدل أرى موقعا مركزيا لمعنى الدولة الحديثة بما هي دولة رعاية اجتماعية، مستقلة سياديا وديمقراطية سياسيا ومُنصفة اجتماعية وتعددية ثقافيا.


أوضح قراءة لماذا حدث في تونس، هو الانتكاسة في مسار السلطة، فالسلطة التي جاءت عن طريقة الديمقراطية، انقلبت على المسار الديمقراطي بحجة التصحيح، وهو سلوك مناف تماما لأبجديات الحياة السياسية الديمقراطية، كيف تقرأ أنت هذا الحدث الذي مازال لم يسفر عن أي حل منذ 25/07/2021؟
– قد لا نتفق على أن ما تفضلت به هو أوضح قراءة لما حدث. من منظور علم اجتماع ممكن لمسار التغير الاجتماعي في تونس، وفي مباشرة هذا الذي حدث فيها بتاريخ 25-07-2021، انطلقتُ في مقابلة على صحيفة إلكترونية فلسطينية نشرت غداة ذلك اليوم، من أن تلك الحركة الانقلابية كانت تهدف إلى كسر مراوحة مسدودة الأفق. استمرت تلك المراوحة عقدا كاملا، متأرجحة بين مجريات انتقال ديمقراطي أكثر فأكثر غرقا في شكليات ديمقراطية تمثيلية ملغومة بالفساد ومفخخة بالزبونية وعاجزة عن تجسيد شعارات الثورة، وبين اندفاعات ثورية آتية من خارج المشهد الحزبي التمثيلي ودائرة توزيع عوائد الحكم المادية والرّمزية، ولكنها غير فاعلة في دفع التغيير. كما قدّرتُ إنّ ما حدث انفتح على خطرين: خطر العودة إلى ما قبل 25-07-2021 من جهة وخطر الاستبداد الأوتوقراطي.
لاحقا، تأكّد خطر الاستبداد الأوتوقراطي على وقع جمع رئيس الدولة المتزايد لمقدّرات الحكم بين يديه هو بالذات وحده، لا شريك له تقريبا. كما اتّخذ خطر العودة إلى ما قبل 25-07-2021 شكل حركة احتجاجية ضد الانقلاب، مزدوجة السمة. سمتها الأولى تركيز على خرق الرئيس للدستور وتوسّع اعتباطية ممارسته الحُكم واستحواذه على صلوحيات سلطتي التشريع والقضاء. وسمتها الثانية الصمت على ما كان قبل 25-07-2021 من خروق للدّستور واعتباطية ممارسة الحكم وفساده والتلاعب بسلطتي القضاء والتشريع.
أسوأ ما حفّ بتجسّد الخطرين، هو أن بدائلهما المُعلنة لا تدور حول ثلاث قضايا مركزية في مسار الثورة التونسية: تحقيق الاستقلال الفعلي للقرار السيادي أوّلا، والترفيع في مؤشرات العدالة الاجتماعية ثانيا، وتوسيع مجالات ممارسة أشكال متنوعة من الديمقراطية غير التمثيلية ثالثا.
من هذه الوجهة لا تزال معالجة هذه القضايا قيد الإنجاز.


منذ دخلت العلوم الاجتماعية عامة وعلم الاجتماع خاصة في المجال الأكاديمي العربي، لم يعرف أي إضافات عربية لهذا الحقل، وظلّ هذا الحقل يتحرك بين الترجمة والتأصيل ثم الأسلمة والتقريب، وربما ينتهي إلى الهجران والعزوف… كيف ترى مستقبل هذا الحقل المعرفي الهام في العالم العربي والإسلامي؟
– يمكن بشيء من التعميم الحديث عن مائة سنة أو تزيد قليلا من ممارسة العلوم الاجتماعية وعلم الاجتماع خاصة في المجال الأكاديمي العربي. وقد شملت تلك الممارسة التدريس والبحث والإسهام في الجدل العمومي. وقد كانت تلك الممارسة، منذ بداياتها، متفاعلة متجادلة مع موروثين هما العلوم الاجتماعية العربية الإسلامية الكلاسيكية والعلوم الاجتماعية الاستعمارية (أو الكولونيالية). وكان هذا التفاعل المتجادل من ضمن ما أسميتُه منذ حين ‘مفاوضة مآلات التغيير الاجتماعي’ من خلال تكوين أجيال المشتغلين بهذه العلوم، وإنجاز البحوث، والتعريف بنتائجها مرفوقا بنشر الأفكار، والآراء، والتقديرات، والتقييمات.
ومع استتباب الدولة ما بعد الاستعمارية العربية وما رافقه من إرسائها للجامعات العمومية متزايدة الجماهيرية، تمكن الإشارة إلى إعادة تأسيس كيفيات تعاطي العلوم الاجتماعية مع قضايا المجتمع عبر تحويلها إلى قضايا بحثية من جهة وكيفيات تعاطي المجتمع مع هذه العلوم عبر (عدم) الاعتراف بها وبمخرجاتها تدريسا وبحثا وإسهاما في الجدل العمومي من جهة أخرى.
وفي تقديري أننا نشهد راهنا «تحولا سوسيولوجيا» متفاعلا مع التغير الاجتماعي، وأن أبرز ما في ذلك التحول أن الدولة كفّت عن أن تكُون الفاعل الوحيد في هندسة موقع العلوم الاجتماعية من الجدل العمومي. باستذكار مختلف هذه المراحل، وعلى الرغم من تفاوت الإنجاز بين التجارب العربية المختلفة، يمكنني التأكيد إن من الحيف قولك إنّ «هذا الحقل لم يعرف أية إضافات». من حيث الكم لنا عشرات المراكز الجادّة في عملها على تطوير هذه العلوم، وقد انطلقت في مرحلة جديدة من تكثيف التشبيك بين جهودها، ومواردها، وكوادرها البحثية، والإدارية. من حيث النوع، لا بد من الانتباه إلى حركات الجدل والنقد والمراجعة التي لا يمكن اختزالها في ما تفضلت به من القول حول «الترجمة والتأصيل والأسلمة والتقريب». ما يحدث أعمق بكثير من هذا إذ هو ذو مساس قريب جدا من جهود عالمية تسعى إلى مناقشة مبدئية لكيفيات تأسيس العلوم الاجتماعية الحديثة الأوروبية ومسارات نشرها وسيرورات عولمتها والقول بأنموذجيّتها. هذه مناقشة واسعة وفيها إسهامات من أمريكا الجنوبية (اللاتينية) ومن الهند وجنوب شرقي آسيا، ومن أفريقيا ومن نيوزيلاندا فضلا عن مؤسسات ومجلات علمية وسلاسل منشورات وباحثات وباحثين من مراكز الإنتاج التقليدية للعلوم الاجتماعية في أوروبا وأمريكا وباقي الشمال الكوني.
إذا ما أخذنا هذه الخلفية بنظر الاعتبار، صار لزاما ألا نحصر النقاش في العناوين التي تفضلت بذكرها، وهي في حد ذاتها عناوين قابلة للنقاش. خذ مثلا موضوعة أسلمة العلوم الاجتماعية. هي تنويع على موضوعة «أهلنة» العلوم الاجتماعية من حيث لغة الخطاب العلمي، وبناء المفاهيم وحتى اجتراح طرائق استقصاء ومنهجيات مخصوصة. وحين التدقيق في ما يمارس تحت هذه الموضوعة- المقولة-الشعار، نلاحظ أنه مختلف عليه ما بين منجز المعهد العالمي للفكر الإسلامي، ومنجز الباحثين الإيرانيين مثلا، ومنجز جامعات «إسلامية» في ماليزيا أو مصر أو المغرب. في كل هذه التجارب تتحاور إسلاميات المعرفة مع تراثات علمية اجتماعية مختلفة المكونات، متفاوتة العمق التاريخي، متباينة الألسن، كما تتفاعل مع بيئات معرفية واجتماعية متباينة فيها المَهْجَرِي المأهول بديسابورا المسلمين، والمسلمين غير العرب، والمسلمين بما هم أغلبية ضمن تعددية إثنية ودينية مختلفة العلاقات مع النظم القانونية والسلطوية القائمة، أو بما هم أقلية ضمن تعدديات أخرى…إلخ. واقعا، ليست مقولة «أسلمة المعرفة» واسعة الامتداد في الحقل العلمي العربي، وقد بقي أثرُها فيه منحصرا في هوامش الفعل البحثي في العلوم الاجتماعية.
خذ مثلا ثانيا موضوعة الترجمة. ثمّة الترجمة في معنى نقل المنتجات المعرفية من لسان إلى لسان، وثمة الترجمة في معنى الاقتباس النظري والمفهومي والذي يكون على الأغلب مصحوبا بجهد تبييئي وتخصيصي يقرب من الأصول المأخوذ عنها أو يبعد عنها. وهذه أصولٌ، وبالجمع تحديدا، لأنها هي أيضا سليلة بيئات معرفية واجتماعية متباينة مأهولة، ديَانَةً، بالمسيحيين بتنوعاتهم المذهبية والطائفية، واليهود، وقوميَّةً، بالفرنسيين والألمان والأنقليز والأمريكان…إلخ، ضمن تعدديات إثنية وقومية مختلفة العلاقات مع النظم القانونية والسلطوية القائمة في أوروبا وفي الولايات المتّحدة وفي المستعمرات القديمة والسابقة ومناطق النفوذ المعرفي الحالية…إلخ. وإذا ما أخذنا هذه التدقيقات بالاعتبار أمكننا التأكيد إن القول ليس في منجز العلوم الاجتماعية إلا أسلمة أو ترجمة قابل للمناقشة على أقل تقدير. وثمة في مختلف هذه الاعتبارات المنكرة للمنجز العلمي الاجتماعي اعتبار ضمنيّ بأن ثمة مصدرا أصليا وأن ما عداه هو نسخ مؤهلة إلى هذا الحدّ أو ذاك، لا تزيد في أفضل حالاتها عن التّموقع ضد الأصل المركزي.
في المناقشة العالمية حول أوضاع العلوم الاجتماعية التي يتزايد إنكار منجزها انتباهٌ على الأخص إلى أن ما تفضلت بتسميته «هجرانا للعلوم الاجتماعية وعزوفا عنها» لا يكونُ إلا بأثر استراتيجيات سياسية مبنية تتوافق إلى حدود كبيرة مع غايات السّلط الشعبوية متزايدة العدد والتأثيروالتبرم بالعلوم الناقدة، ومع مصالح القوى الاجتماعية الليبرالية غير المشتغلة إلا على «تطوير» علوم اقتصادية تدبيرية تتربّح من أزمات الرأسمالية وحيفها الاجتماعي…إلخ. من منظور الجدل العمومي حول مآلات التغيير الاجتماعي الذي ذكرتُه سابقا تبدو الحاجة إلى العلوم الاجتماعية ماسَّةً أكثر من أي وقت مضى، وهي ضرورية لبناء راسخ للديمقراطية الثقافية والتعددية الفكرية والمشاركة المجتمعية الواسعة والإسهام في الجدل الإنساني حول مصير البشرية تجاه مآسيها المتعددة المُتراكبة.
منذ ظهر وباء كورونا قرأنا آراء لمجموعة من السوسيولوجين الكبار أمثال: آلان تورين، هابرماس، إدغار موران، سلافوي جيجيك… وغيرهم. كيف قرأ الدكتور منير -المشتغل بنفس الحقل – تأثير هذا الوباء في العالم، وعلى الفرد العربي؟
– بعد اندلاع الجائحة، في بدايات شهر مارس 2020، كتبت نصا تحت عنوان: «فيروس كورونا في مختبر علم الاجتماع». بعد ذلك بأسابيع قليلة، نشرت نصا آخر اعتبرت فيه أننا، وبما كان يغطي بأثره أصقاعا مديدة من العالم، مررنا من ‘مجتمع المخاطر’ كما نظّر له عالم الاجتماع الألماني أولرايش بيك إلى ‘مجتمع الجائحة’، بما هو مجتمع تحقق المخاطر وتحولها يقينا ثابتا في تلافيف حياتنا اليومية. ثم وبعد ذلك بأسابيع أخرى نشرت نصا آخر بعنوان «ثالوث مستقبل التغيير: الجائحة والرعاية والعدالة». ثم ختمت سلسلة نصوصي حول الجائحة بنصّ رابع ظهر تحت عنوان «واحدٌ، عشرةٌ، خمسةٌ وستّون». وفضلا عن ذلك كانت لي مشاركات عديدة في حوارات حية مفتوحة ومخصصة للطلبة على منصات التواصل الاجتماعية المختلفة بلغ متابعو البعض منها الآلاف في ظروف ساعات.
في كل هذه النصوص والمشاركات حرصت على أن أبيّن أن لعلم الاجتماع قولا في ما يحدث. ولذلك كانت البداية بإدخال الفيروس إلى مختبر علم الاجتماع بحيث نتبين منظورا علميا اجتماعيا ممكنا لمعالجة ظاهرة اجتماعية كلية كما قال أستاذي عالم الاجتماع التونسي رضا بوكراع. وكان الاستماع إلى وجهة نظر علمية اجتماعية ضروريا لإخراجنا من الانحصار ما بين العلوم الجرثومية والسياسات العمومية التي تحتكر معالجة الجائحة، علميا-طبيا واجتماعيا وسياسيا. وقد اجتهدتُ في أن أبين أن الجائحة ظاهرة بنتها ممارسات اجتماعية مُحدّدة رَاجَعَت لغايات ربحية الترتيب الاجتماعي للعلاقات ما بين البشر وباقي مُكَوِّنات بيئاتهم الحَيَوِيَّة، من جَمَادٍ ونَبَاتٍ وحَيَوَانٍ وكَائِنَاتٍ مِجْهَرِيَّةٍ. وكان ذلك مسًّا بالتوازن الذي كان قائما. وكان الأهم هو أن الجائحة تتفارق بين مجموعة اجتماعية وأخرى وبين مجتمع وآخر في بنائها الاجتماعي وفي تلقّيها وفي تمثّلها وفي رسم كيفيّات التعامل معها. وعلى هذا حاولت أن أبني منوالا تحليليا يساعد على فهم مجتمع الجائحة على أنه مجتمع إجهاد للأجساد البشرية، وللأجسام المجتمعية بالتناقضات الاجتماعيّة ما بين الفقراء والأغنياء، وبين ذَوِي الموارد وفاقديها، وبين المعترَف بهم وغير المعترَف بهم، وبين الخائضين في الحياة الاجتماعية والمُبْعَدِين منها، وبين المُنْعَتِقِين والمُسْتَلْحَقِينَ. ولكنه ومن ناحية أخرى مجتمع الجائحة هو مجتمع تسَارُعِ انتشار الظواهر وانتهائها إلى ظواهر جديدة لا تكفّ هي ذاتها عن الانتهاء إلى ظواهر أكثر جدّة، وهو كذلك مجتمع إِتْلاَفِ كل مكتسبات البشرية، استهلاكيا وبيئيا، واستخراجيا لموارد الأرض، مانعا لاستدامة الحياة. وقد استخدمتُ مَقُولَتَيْ التَّمْكِينِ، تمكين المستفيدين من الإجهاد والتسارع والإتلاف، والتَّجْرِيدِ، تجريد الساعين إلى مقاومة ممارسات الأولين وسياساتهم، لأبين أن مجتمع الجائحة هو أيضا مجتمع الابتكار في معنى ابتداع تكتيكات الجَمْعِ التَّرْكِيبِيِّ بَيْنَ البقاء على قيد الحياة في معناه الطبيعي والبقاء على قيد الوُجود في معناه الاجتماعي. كما أن مجتمع الجائحة هو مجتمع مقاومة في معنى وضع استراتيجياتٍ ترفض التَّأَقْلُم الِمطْوَاع المتَعايش مَعَ لاَيَقِينِ مُجْتَمَع المخاطرة وبما يشمل تكتيكات المقاومة اليومية.
وعلى هذا اعتبرتُ أن ثالوث مستقبل التغيير هو الجائحة بما هي أزمة مجتمعية شاملة مُفضية بالضرورة إلى تغيير اجتماعي، والرعاية بما هي جوهر وجود دولة الرعاية الاجتماعية، والعدالة، قاصدًا العدالة الاجتماعية من مدخلها الأكثر إلحاحا وهو العدالة الصحية. وقد أمكنني بفعل هذا المنوال التحليلي أن أعقد رابطة واضحة بين اشتداد الأزمة الصحية، وأزمة التغيير المجتمعي وأزمة الدولة ما بعد الاستعمارية في تونس في نصّي «واحد، عشرة خمسة وستون».وكنت أشير بالرقم الأول إلى مرور سنة على اندلاع الجائحة، وبالرقم الثاني إلى مرور عقد على اندلاع الثورة التونسية وبالرقم الثالث إلى انقضاء خمسة وستين سنة على استتباب الدولة ما بعد الاستعمارية في تونس.
وقد حاولت أن أستخدم هذا المنوال التحليلي في معالجة أوضاع عربية خارج تونس فرأيت أنه ناجع في حالات غير قليلة.


في ظلّ هذا الوباء لم يعد التعليم يخضع لنفس العملية التعليمة التقليدية، بل لاحظنا كيف انخرط الجميع في لعبة تكنولوجيا الاتصال، وانسحبت الجغرافيا الطبيعية لصالح الجغرافيا الافتراضية، حيث أصبح تواجد الطالب والأستاذ -لتكتمل العملية التعليمية – يفرض صيغة أخرى بديلة، هل سنشهد تحولات جديدة إذا استمر الوباء لسنوات أخرى؟
– حصيلة ما شاهدته في جامعتي وفي العديد من الجامعات العربية الأخرى أن مختلف الفاعلين التربويين والبحثيين فيها أضاعوا فرصة ثمينة لإحراز تقدم مهمّ في هذا التعليم الافتراضي. كانت فترات الحجر مواتية، ولكنها لم تُستغلّ لأسباب كثيرة. شخصيا توسّعت علاقاتي بجامعات عربية كثيرة خلال الجائحة وقدمت محاضرات ومداخلات لفائدة الطلاب وضمن ندوات اشتركت فيها مع زملائي وزميلاتي من جامعات القادسية وطنطا وطرابلس الغرب وبنغازي وهران وباتنة وفاس وابن زهر، وتطوان وغيرها. كما لاحظت أن زملاء وزميلات وطلابا وطالبات تابعوا مشكورين ما أسهمت به على منصات إعلامية من قبيل فرانس 24، ومراكز بحثية من قبيل المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات-تونس والمجلس العربي للعلوم الاجتماعية، وجمعيات ثقافية عربية مختلفة، ثم تفضلوا بعدها بمناقشة ما قدّمتُ. وقد اكتشفت حينها أن فايسبوك، وزوم، وغوغل ميت، وغيرها من التطبيقات التي تقدمها شبكات التواصل الاجتماعي قادرة فعلا على إلغاء الكثير من المسافات المكانية والزمانية وتجاوز العديد من الحواجز التواصلية. كما لمستُ فعليا كم تنوعت علاقاتي بطلاّبي هنا في تونس، وكم تيسر تنويع المادة التعليمية التي أقدمها لهم وكم هو ممكن أن يتم تجاوز الدرس بمعناه التقليدي بما هو تعلمات محددة ومقررة ومندرجة في برامج رسمية منظمة إلى تفاعل خلاق بينه وبين التفكير الثقافي الحرّ، والتفاعل البحثي مع مجريات الحياة اليومية بمختلف تشعباتها. ولقد توفر كل ما سبق ذكره إلى جانب عمد الكثير من المكتبات والخزائن الجامعية العالمية إلى فتح النفاذ إلى أرصدتها في حركة أخرجتنا إلى حد قليل من هيمنة التدبير الرأسمالي الليبرالي المحتكر للمعرفة والضنين بها على الفقراء والمعوزين من الطلاب والجامعات والبلدان.
ومع ذلك، وبعد أن ظهرت بوادر إيجابية للغاية انتظمت فيها دروس افتراضية، وصارت بمناسبتها العملية التعليمية أكثر مرونة وثراء ومردودية، تعالت أصوات نقابية طلابية وأستاذية وكذا أصوات سياسية واجتماعية، وحاججت بأن العدل والإنصاف لا يتوفران في هذه العملية. كانت الحجة، وهي حقيقة واقعة، تفاوتَ إمكانيات الطلاب في الولوج إلى هذه التكنولوجيات وامتلاك ما تتطلبه من تجهيزات وقدرة على تحمل مصاريف الارتباط بالإنترنت، وكذلك النقص الفادح لدى المؤسسات الجامعية في القدرة على توفير التدفق المناسب للإنترنت والأفضية الجامعية في الكليات والمبيتات الجامعية القادرة على استيعاب أعداد غفيرة من الطلبة لمتابعة الدروس وإنجاز المراجعات وتسليم الفروض والدخول في مناقشات مع أساتذتهم… ما لاحظته في تونس أن ثمة تفاوتا في توفر هذه القدرات لدى الجامعات والمؤسسات الجامعية وحسب معاينتي اتضح أن هناك شرخا واضح التفاوت ما بين المؤسسات التي تؤمّن التكوين في العلوم الإنسانية والاجتماعية من جهة، وتلك التي تؤمن التكوين في العلوم الطبيعية والفيزيائية والطبية. على العموم كانت هذه الأخيرة أكثر قدرة على التأقلم مع وضع الجائحة وضرورات تأمين التعليم عن بعد، لسابق عهدها بمثل هذا التعليم، وخبرة كوادر التدريس والإدارة فيها، وتوفر التجهيزات والبنية التحتية.
وعلى مرّ تراكم ملاحظاتي في هذا الاتجاه كنت أحاول أن أحدّد السبب الذي جعل المؤسسات الجامعية في أغلبها لا تحقق النقلة النوعية التي توفرت فرصتها. الجواب المؤقت الذي توصلت إليه هو أن ما حدث يعود إلى غلبة نمط من التفكير خيّر التراجع إلى التقليد والمحافظة على الإقدام على خوض غمار تجربة قد لا تكون بداياتها مؤمنة بشكل كامل، ولكن تلافي نقائصها ومداواة آثارها الجانبية ممكن.
ليست السلطات العمومية معفية من ضرورة المساعدة على تجاوز هذا النمط من التفكير وما يتأسس عليه من ممارسات وما يحكم منطقه من استراتيجيات. مسؤوليتها واضحة في التخطيط للانتقال التكنولوجي من حيث البنية الأساسية وتوفير الأجهزة بأثمان في متناول الشرائح الاجتماعية الفقيرة قبل الوسطى وتطوير التدبير الإداري المناسب… إلخ. ولكن المسؤوليات المجتمعية لذوي القدرات المالية من الأفراد والشركات والمؤسسات وجمعيات المجتمع المدني واضحة هي أيضا في هذا المجال. بهذا وبغيره، قد نتمكن من بلوغ وضع ليس من الضروري أن تهدّدنا فيه حائجة أخرى حتى نفكّر في تحقيق فعلي للأسس الدنيا لديمقراطية المعرفة.
هناك حقول معرفية هامة نشأت غير بعيد من حقلي السوسيولوجيا والانثروبوبوجيا، وقدمت تفسيرات عميقة لجملة من المفاهيم والقضايا المرتبطة بالمجال التداولي العربي الإسلامي؛ مثل ما أصبح يعرف اليوم بانثروبولوجيا الإسلام، وسوسيولوجيا الإسلام لكنها حقول مجهولة أو غير منتبه لأهميتها في العالم العربي، كيف تقيّم أنت كتابات طلال أسد، وسامي زبيدة وقبلهم ارنست غيلنر، وتيرنر وأرماندو سلفاتور..وغيرهم…؟
– أنا أدرج هذه الكتابات ضمن النقاش العلمي ما بين أعضاء الجماعة العلمية المهتمّة بالمجتمعات التي تتيح إنتاج ما أسميته في سؤالك أنثروبولوجيا الإسلام وسوسيولوجياه على الرغم مما في التسميتين من تعميم مخلّ بتعدّد ما يندرج تحتهما. اعتمادا على أن الأسماء التي تفضلت بها تنتمي إلى أجيال مختلفة ومشارب نظرية وتجارب ميدانية-بحثية متباينة سأحاول إجمال إجابتي في خطّاطة عامة تستوعب كل الأمثلة أو أغلبها. من المهم أن ننظر إلى هذه الإنتاجات من منظور ثلاثي: مدى مُجَادلتها لتراث الاستشراق قديمه وجديده، مدى مجادلتها لمنجز علميْ الإناسة والاجتماع في المجال، ومدى مجادلتها لما تنتجه الجماعات العلمية في المجتمعات موضوع هذه الكتابات عينها. وبالنسبة إليّ، كلّما كانت التحاليل فيها أقرب إلى الموضوعية، وكانت أعلم بتواريخ هذه المجتمعات وخصوصياتها اللغوية والإثنية والقومية، وكلما كانت أقرب إلى التفاعل الخلاق مع ما تنتجها جماعاتها العلمية، كنتُ أكثر إيجابية في التعامل معها والاستفادة منها.


مؤخرا ظهر كتاب للمفكر الفلسطيني ساري حنفي بعنوان: «علوم الشرع والعلوم الاجتماعية: نحو تجاوز القطيعة» والكتاب في فكرته الرئيسية محاور لتقريب الحقل الديني من الحقل السوسيولوجي، في رأيك هل يمكن تجاوز القطيعة بينهما -أي الشرع والعلوم الاجتماعية – رغم اختلاف المنهج والأدوات؟
– سوف أجيبك بالاعتماد على حصيلة مناقشات كثيرة أجريتها مع ساري حنفي حول كتابه ومنها ما كان في ندوات مفتوحة. أنا رأيت أن ما أتاه هو نوع من الإجابة على متطلبات اجتماعية تتعلّق بالثورات العربية المعاصرة (2010 و2011) التي أفسحت المجال لتعددّية الفلسفات الاجتماعية، والمرجعيات القانونية، والتمثلات الدينية والتصوّرات العلمية أيضا. كما اعتبرتُ أن عمله يندرج ضمن تيّار عالمي يراجع بعض مسلّمات العلمانية والفصل ما بين الدين والتربية والسياسية والدولة ومجالات الحياة الاجتماعية.
لقد أبرز التغيّر الاجتماعي الذي نعاصره، لا العربي فحسب، بل العالمي أيضا، حاجة جديدة إلى العلوم الاجتماعية في حدّ ذاتها وعلى الأخص في تنظيراتها للعلاقة ما بينها وبين المجتمع وكيفيات تعبيرها عن حركيته. ورأيت أنه كان من الممكن لحنفي أن يتناول العلوم التي يسمّيها علوم شرع على أنها علوم إنسانية واجتماعية عربية إسلامية كلاسيكية تمييزا لها عمّا هو حديث ومعاصر. واقترحتُ أن يكون هذا ضمن إعادة قراءة شاملة لكلاسيكيات العلوم الإنسانية والاجتماعية العربية الإسلامية على أساس مقترحات جديدة. كما كان يمكن لحنفي أن يعتبر هذه الحالة العربية الإسلامية حالة من بين حالات العمل على الخروج عن التصوّر المركزي الأوروبي التقليدي في كيفيات صنع المعرفة. وبالفعل، يدفع بنا هذا التأطير الذي أقترحهُ، في تقديري، في قلب المناقشة العالمية التي توضع تحت عنوان الدفع بإبيستيمولوجيات الجنوب المُنتجة في سياق نقض استعمارية المعرفة، بحيث نكون في سياق التخلص من آثار الحيف الإبستيمي وتحيزات الكونية المُنكرة للتعددية باعتبارها وريثة لكولونيالية المعرفة الاستعمارية.
أساس هذه المقترحات هو الجدل القائم ما بين أعضاء الجماعات العلمية الإنسانية والاجتماعية العاملة في مختلف مراكز البحث والتفكير والكتابة في العلوم الانسانية والاجتماعية بمختلف تياراتها وتوجهاتها وإبستيمياتها. وعلى هذه القراءة الجديدة أن تعمل على تجاوز الحيف الإبستيمي الذي يُمارس بوعي ومن دون وعي ضد العلوم الإنسانية الاجتماعية الكلاسيكية، لا عند العرب فحسب، بل وكذلك عند غيرهم على اعتبار أنها من العالم ما قبل الحديث، أي من العالم غير الأوروبي وغير الأمريكي. ولكنني، وفضلا عن هذا الأساس، اقترحتُ أساسا داخليا لهذه المقترحات عماده، تخليص الجدل حول العلوم الإنسانية والاجتماعية من آثار التراثات العلمية الإنسانية والاجتماعية الكلاسيكية المثقلة بمفاعيل الاستبداد السياسي والديني والفكري، والقهر الاجتماعي، ودهل التقوقع على الذات والانكفاء عن الجدل الحضاري اعتقادًا في نقاء المنجز الذاتي وتمسكا بالجوهرانية الثقافية.
وفي تقديري ليس التصوّر ما بعد الكولونيالي ولا التصور الديكولونيالي للمعرفة كافيين هنا ما لم يضف إليهما التصوّر ما بعد الاستبدادي. لأن منطوق الثورات العربية المعاصرة هو مناهضة الاستبداد، وهو منظوق أفهم منه ضرورة وضع تصوّر جديد لموقع المعرفة من المجتمع ومن السلطات جميعها ومن بينها سلطة الموروث، ووظيفة المعرفة العلمية الاجتماعية في بناء أسس العيش المشترك. وفي تقديري أن هذا استئناف معاصر محدَّثٌ ونقديٌّ لأطاريح إعادة تأسيس العلوم الإنسانية والاجتماعية التي كانت إبان وضع أسس الجامعات العربية الحديثة والتي كانت تنطلق من ضرورة نقض كولونيالية المعرفة وتحريرها. أساس تعصير الأطروحة هو تعزيزها بضرورة نقض كولونيالية السلطة واستبداديتها ومجافاتها للعدالة الاجتماعية، في تصور ديكولونيالي شامل.
لك مشاركات في الترجمة من الفرنسية إلى العربية، “مفهوم الثقافة في العلوم الاجتماعية”، و”ممارسة علم الاجتماع”، ومن الإنقليزية أيضا، وخاصة في مجلة حوار كوني التي تصدر عن الجمعية الدولية لعلم الاجتماع وفي مجلة إضافات التي تصدر عن الجمعية العربية لعلم الاجتماع؟ كيف تقرأ موضوع الترجمة في سياق الاشتغال على العلوم الإنسانية والاجتماعية في بلداننا العربية وكذلك من منظور علاقته بالتعليم الجامعي في هذه الاختصاصات؟
– سوف أجيبك انطلاقا من تجربتي الخاصة لأن المجال لا يسمح بتوسع أكبر. اندرجت المقالات التي تفضلت وأشرت إليها ضمن سلسلة مقالات ترجمتها عن الفرنسية والإنقليزية ونُشرت على أعمدة إضافات (مجلة الجمعية العربية لعلم الاجتماع)، وعمران (التي تصدر عن المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات)، ومجلاّت أخرى، وكتب جماعية صدرت في المغرب وفي غيره. التجربة الترجمية التي أشرتَ إليها، امتدت عشر سنوات (2010-2020) وكانت بمعدل 4 إلى 3 أعداد في السنة، وبحساب 20 إلى 25 مقالا في كل عدد. مصادر المقالات الأصلية هي البلاد العربية، وجنوب أفريقيا والسينيغال، والهند، الصين، الفليبين، وأستراليا ونيوزيلاندا، فضلا عن بلدان أخرى من أمريكا اللاتينية، زيادة على كندا والولايات المتحدة الأمريكية وروسيا وشرق أوروبا عامة وفرنسا والبرتغال وإسبانيا وأنقلترا وباقي أوروبا الغربية.
هذه التجربة مهمة من حيث متابعة مستجدات الإنتاج في علم الاجتماع ومواكبة المناقشات فيه على المستويات النظرية، والمفهومية، والمنهجية، والتحليلية. جمعت الترجمات تيارات علوم الاجتماع في مناطق مختلفة من العالم، مبنية على تجارب وتقاليد بحثية متباينة. ولكن أهم ما في هذه التقاليد أنها مختلفة عن الأنموذج الأوروبي-الأمريكي الشمالي المهيمن، بحيث تندرج في صيغ متعددة من ديكولونيالية المعرفة تنسّب الآحادية وتعدل المركزية وتراجع كونية لا ترى إلا التيارات والمفاهيم والمناهج المُهيمنة. لقد كان لهذه الترجمات أثر رئيس في تبنّي منظور تحليلي ناقض للاستلحاق والاستبداد، وتقاطعي ديكولونيالي.
وقد حاولت أن أستفيد من هذه الترجمات لا في بحوثي فحسب، بل في بحوث من أشرفُ عليهم من الطلبة، وكذا في ما أقدّمه من دروس، وما أكتبه من تحاليل. وقد حرصت لدى صدور كل عدد من حوار كوني على أن أعلم به على فايسبوك وتويتر… وقد لاحظت أن العديد من الطلبة ومن الزّميلات والزملاء في العلوم الاجتماعية المنتجة في المجال المعرفي العربي تكاثر استخدامهم لمحتويات هذه المجلة وعودتهم إليها واستشهادهم بها. أنا أعتبر أن هذه النصوص وترجمتي لها نافذة على التنوّع المتعدد لعلوم الاجتماع في عالم متعدد الأكوان متنوع الإنسانيات والحداثات. إن أهم مكسب حصل لي من هذه الترجمات أنها ساعدتني على انعكاسي على ذاتي، وعلى التفكير العميق في علاقة المعرفة العلمية الاجتماعية بالسلطة وبالإيديولوجيا وبالتيارات الفكرية والثقافية، وفي مركزية الخطاب العلمي الاجتماعي في بنية مصالح القوى الاجتماعية وتاريخ الثقافات الإنسانية.
هناك مشكلة عندنا في الجزائر وربما توجد في تونس والمغرب، وهي مشكلة تعريب التعليم، والجدل القائم والمتواصل بين المعربين والمفرنسين، متى تحسم هذه المعركة؟
– لا أظن أنه يمكن أن نختزل أمر الجدل حول لسان التعليم في معركة. ثمة جانبٌ من المسألة قابلٌ للتسمية بهذه اللفظة، ولكن ثمة جوانب أخرى تحتاج تسميات أخرى. لنقل أولا أننا بسؤالك هذا نلامس قضية مخصوصة بمجتمعات عاشت تاريخا مديدا من التعدد اللساني بعضه موروث من حقب تاريخية داخلية سحيقة كما في مثال اللسان الأمازيغي في المنطقة المغاربية، وبعضه مستحدث، منذ الحقبة الاستعمارية على الأقل. يصير الواقع بهذا الاعتبار تعدديا، لا من منظور لساني بحت، بل من منظور يختلط فيه هذا المظهر اللساني مع مظاهر ثقافية أعم، إثنية وقومية… إلخ. وهذا يجعل المسألة، وفضلا عن الثقافي فيها، تاريخية واجتماعية وسياسية وحتى اقتصادية. لا تتوزع جغرافيات الألسن وموازينها في المجتمعات بمقتضى أثر ما ذكرنا فحسب، بل هي واقعة على الأخص تحت أثر مجريات الهيمنة والتهجين والاقتراض بين الألسن والسياسات اللّغوية في مجالات التعليم والإدارة والإعلام والحياة اليوميّة.
في مجال التعليم، من الضروري أن نضيف بعض التدقيق إلى ما تفضلت به. في الابتدائي، يحتاج كل نظام تعليمي إلى أن يوفر للمتعلّم(ة) ما تتمكن/يتمكن به من متابعة التعلمات في المواد الأخرى الطبيعية والاجتماعية والإنسانية وكذلك محاورة المحيط غير المدرسي. في المتوسط والثانوي ما قبل الجامعي يحتاج المتعلم والمتعلمة إلى أن يكونا على أفضل أُهبَةٍ للتعامل مع مكوّنات حياة اجتماعية أكثر فأكثر عولمة وانفتاحا وتجاوزا للحدود بحيث تزداد الحاجة إلى تجذير اللغة الوطنية في وجدانهما وفي استعمالهما من جهة وتيسير تعرفهما على عالمهما المعاصر من جهة ثانية. في التعليم الجامعي يكون كلا المتعلمة والمتعلم في أمس الحاجة إلى توسيع أفق اطلاعهما على أكثر ما أمكن الألسن لتيسير التزود بالمعارف الحديثة وإنجاز البحوث والإسهام في تناقل المعرفة وتطويرها.
المشهد اللغوي المعاصر الذي نعيش الآن إذًا أكثر تنوعا من مجرد الانحصار في الثنائية فرنسية/عربية، وأكثر غنى من أن يختزل العلاقة بينهما في معركة. في مجمل البلاد المغاربية، واضح أن حضور الأمازيغية مثلا أكثر فأكثر تأكدا، لا من خلال الدّسترة فحسب، بل ومن خلال التعليم والتدريب على الاستعمال اليومي متعدد المجالات والمستويات، ومن خلال ما يصاحب كل هذه المظاهر من اشتغال الجمعيات الثقافية المتخصصة على مكونات الثقافات الأمازيغية لباسا ومطبخا وتقاليد، لا ضمن استراتيجيات تراثية فحسب، بل وكذلك ضمن استراتيجيات سياحية واقتصادية محلية تجارية وتضامنية واجتماعية… إلخ. طبعا من الضروري أن نقر بأن هذه الاستراتيجيات ليست كلها توافقية، أو قابلة للاندراج في حوارات وطنية هادئة ورصينة وإن كانت تتأسس على الحيف الذي مورس تُجاه التعدد الثقافي المغاربي والمحلّي المزركش وهو، بالمناسبة، حيف بدأ يأخذ صبغته الاستراتيجية المسيسة الحديثة منذ إقراره سياسة عمومية استعمارية متكاملة أواخر القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين.
وواضح أيضا أن الإنكليزية، أكثر فأكثر حضورا في المجال الثقافي والفني وكذا في المجال البحثي والعلمي والتعليمي الجامعي، وبعض مظاهر الحياة المدينية في أفضية الترفيه والمحادثات اليومية، وفي مجال الاتصال، والعابر منه للحدود خاصة، والافتراضي منه على وجه أخص. ولا يعتمد حضور الإنكليزية المتزايد هذا على مجرد السياسات العمومية المتبعة في هذا المجال، وهي سياسات واقعة تحت ضغط العلاقات الدولية التقليدية مع مستعمر المغارب خلال تاريخها الحديث. هو حضور يستفيد من ميل يكاد يكون تلقائيا لدى الشباب خاصة نحو اعتماد ما يعتقدون على نطاق واسع أنه “لغة العالم اليوم”.
فإذا أضفنا إلى كل ألوان اللوحة هذه الوجود المتنوع للدّارجات المتعددة موزّعة حسب تخومِ الأقاليم والمناطق والجهات والمدن والأرياف، صار من الأكيد أن ندعو إلى فتح نقاش عمومي حول السياسات اللغوية الواجب اتّباعها. وعلى هذا النقاش أن يكون ديمقراطي التنظيم بحيث لا تحتكره السلط القائمة، واسع المشاركة، وغير متشنّج، وأن يتم وفق منظور استراتيجي يسبّق المصلحة الوطنية الثقافية والاقتصادية والسياسية ويُعلي من قيمة الانسجام الاجتماعي متبادل الاعتراف بين مكوّناته المتعدّدة.
كلمة أخيرة لقراء البصائر؟
– شكرا لتفضلك بالاتصال وبإجراء هذا الحوار، الذي سعدتُ بالإدلاء به إلى صحيفة ذات صيت عربي وإسلامي ودولي مرموق، متصلة بتراث غني ومتنوع من الأطاريح الفكرية والثقافية ذات الأهمية البالغة في حياتنا الثقافية والفكرية الحديثة والمعاصرة. أنا سعيد بأن أكون ضمن عقد متصل من الأسماء التي أسهمت بطريقة أو بأخرى في الجدل الذي تنظمه البصائر، منفتحةٍ على أصوات يهمّ الجزائريين أن يتعرفوا عليها بنفس القدر الذي يهمهم أن يتحاوروا مع للجزائريين بما يكون قادحا للفكر ومحفزا للبحث ومشجعا على ارتياد المعرفة.

اظهر المزيد
زر الذهاب إلى الأعلى

مرحبا بكم في الموقع الرسمي لجريدة البصائر

 

تفتح جريدة “البصائر” صفحاتها للأساتذة الجامعيين والمؤرخين والمثقفين، لنشر إسهاماتهم في شتى روافد الثقافة والفكر والتاريخ والعلوم والأبحاث، للمساهمة في نشر الوعي والمبادرات القيّمة وسط القراء ومن خلالهم النخبة وروافد المجتمع الجزائري.

على الراغبين والمهتمين إرسال مساهماتهم، وصورة شخصية، وبطاقة فنية عن سيرهم الذاتية، وذلك على البريد الالكتروني التالي:

info.bassair@gmail.com