شهر شعبان … والاستعداد لِشَهْرِ رمضان المبارك
د. يوسف جمعة سلامة* /
إننا نعيش في ظِلال أيام مباركة من شهر شعبان فأيّامه المُباركة تُقْبِلُ مُبَشِّرةً بقدوم شهر رمضان المُبارك، شهرٌ فيه ليلة خيرٌ من ألف شهر، شهرٌ يمحو الله فيه الذنوب، ويُكَفِّر فيه السّيئات، شهرٌ تُصَفَّدُ فيه الشّياطين، وتُغلق أبوابُ النار، وتكون النفوس مُهَيَّأةً لفعل الخيرات والطاعات.
ومن الأمور المُسْتَحَبَّة في شهر شعبان الاجتهاد في النّوافل والطّاعات مثل: الصيام وقراءة القرآن والصّدقة والذّكر والاستغفار، ليحصل التَّأَهُّب الروحيّ والبدنيّ لاستقبال شهر رمضان المبارك، فَتَتَرَوّض النفوس بذلك على طاعة الرحمن وفعل الطاعات والخيرات، ومنها:
التوبة … وهجْر المعاصي
إِنّ الواجب علينا ونحن نستعدّ لاستقبال شهر رمضان المبارك أن نغتنم الفرصة بِفَتْحِ صفحة جديدة وذلك بالتوبة إلى الله سبحانه وتعالى، فكلُّ ابن آدم خطّاء وخير الخطَّائين التوابون، كما جاء في قوله سبحانه وتعالى: {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ * وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِن قَبْلِ أَن يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ ثُمَّ لا تُنصَرُونَ}.
هذا نداءٌ كريم من الله الرحمن الرحيم إلى عباده الذين فرَّطوا في جنبه وأسرفوا على أنفسهم، أن يُنيبوا إليه وألاّ يقنطوا من رحمته، ولا ييأسوا من عفوه وَمِنَّتِهِ، فهو يغفر الذنوب جميعاً ويتجاوز عن السيئات ويقبل التوبة ويعفو عن عباده وهو الغفور الرحيم.
فالتوبة كَرَمٌ إلهي وَمِنْحَةٌ من الله لعباده، عرّفهم فيها كيفية الرجوع إليه إِنْ بعدوا عنه وكيفية التخلّص من تبعات الذنوب إذا عصوه، كي يفروا إليه تائبين مُنيبين مُتَطَهِّرين، كما جاء في قوله سبحانه وتعالى: {وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ}.
إنّ يدَ الله عزّ وجل مَبْسُوطة بالعفو والمغفرة لا تنقبض في ليل ولا نهار، تنشدُ مُذْنِباً أثقلته المعاصي يرجو الأَوْبَةَ بعد طول الغيبة، وَمُسِيئاً أسرف على نفسه يرجو رحمة ربه، وفاراً إلى مولاه يطلب حُسْن القبول، فما أكرمه من إله، وما أرحمه بخلقه وعباده، يُجَابِهُ الناس ربهم بالفسوق والعصيان، ويخالفون دينه، ويأتون ما نهى عنه، حتى إذا تابوا وأنابوا، قَبِلَ الله توبتهم وغفر سيئاتهم وأحبهم ورفع درجاتهم، كما جاء في قوله سبحانه وتعالى: {وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلا بِالْحَقِّ وَلا يَزْنُونَ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا* يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا*إِلا مَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلا صَالِحًا فَأُوْلَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَّحِيمًا}.
الإنفاق … وفعل الخيــرات
ونحن نستعدّ لاستقبال هذا الشهر المبارك يجب أن نعلم بأننا لن ننال رضوان الله سبحانه وتعالى إلا بمحبتنا للمُسلمين وَبِرِّهم ومساعدتهم وتقديم يدِ العون لهم، فالله في عون العبد ما دام العبد في عون أخيه، كما جاء في قوله سبحانه وتعالى: {وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ}، وجاء في تفسير الآية السابقة: [{وَافْعَلُوا الْخَيْرَ}أي افعلوا ما يُقَرّبكم من الله من أنواع الخيرات والمبرّات كصلة الأرحام، وَمُواساة الأيتام، والصلاة بالليل والناس نيام، {لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} أي لتفوزوا وتظفروا بنعيم الآخرة]، وكذلك قوله – صلّى الله عليه وسلّم -:(الْمُسْلِمُ أَخُو الْمُسْلِمِ، لا يَظْلِمُهُ وَلا يُسْلِمُهُ, وَمَنْ كَانَ فِي حَاجَةِ أَخِيهِ؛ كَانَ اللَّهُ فِي حَاجَتِهِ، وَمَنْ فَرَّجَ عَنْ مُسْلِمٍ كُرْبَةً؛ فَرَّجَ اللَّهُ عَنْهُ كُرْبَةً مِنْ كُرُبَاتِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَمَنْ سَتَرَ مُسْلِمًا؛ سَتَرَهُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ).
ومن المعلوم أنّ الإنفاق حين يكون في حالة اليُسْر أو في حالة السّراء يكون أمراً طبيعياً، لكن حين يكون في حالة العُسْر أو في حالة الضَّرّاء فإنه يحمل دلالة مثالية على مِصْداقية الإيمان والتكافل الاجتماعي بين أفراد المجتمع الإسلامي، كما في قوله تعالى: {الَّذِينَ يُنفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ}.
لذلك يجب علينا أن نغتنم هذا الشهر المبارك لنتعاون سوياً على رسم البسمة على الشّفاه المحرومة، وإدخال السّرور على القلوب الحزينة، ومسح الدمعة من عيون اليتامى والثّكالى، فالمؤمن للمؤمن كالبنيان يشدّ بعضه بعضا.
صــلة الأرحـــام
لقد أخبر رسولنا – صلّى الله عليه وسلّم – أنّ الله سبحانه وتعالى قد أرسله بِصِلَةِ الأرحام كما جاء في الحديث: (… أَرْسَلَنِي بِصِلَةِ الأَرْحَامِ)، وهذا يُبين أنّ الذي ذكره – صلّى الله عليه وسلّم– أمرٌ عظيم عند الله تبارك وتعالى، لذلك نبَّه الإسلام على فضلها لِمَا يترتب على ذلك من سِعَةٍ في الرزق وطول في العمر وسعادة في الدنيا ونعيم في الآخرة خصوصاً في هذا الشهر المبارك لقوله– صلّى الله عليه وسلّم -: (مَنْ أَحَبَّ أَنْ يُبْسَطَ لَهُ فِي رِزْقِهِ، وَ يُنْسَأَ لَهُ فِي أَثَرِهِ، فَلْيَصِلْ رَحِمَهُ)، كما أكد على أهمية صلتها وضرر قطعها، كما جاء في الحديث أنّ رسول الله -صلّى الله عليه وسلّم – قال: {الرَّحِمُ مُعَلَّقَةٌ بِالْعَرْشِ تَقُولُ: مَنْ وَصَلَنِي وَصَلَهُ اللَّهُ، وَمَنْ قَطَعَنِي قَطَعَهُ اللَّهُ}.
لقد بيّن رسولنا – صلّى الله عليه وسلّم – أنّ صِلَة الرَّحِم ليست قاصرة على الأقرباء الذين يصلونك ويزورونك، فهذه تُعَدُّ مُكافأةً لهم على زياراتهم، ولكنّ الصّلَة الحقيقية الكاملة ينبغي أن تشمل جميع الأقرباء حتى القاطع منهم، حيث يُؤكد – عليه الصلاة والسلام – أنّ صلة الرحم تعنى أنْ تصل الرَّحم التي قطعتك، وقصَّرت معك، وأساءت إليك، كما قال – صلّى الله عليه وسلّم – : (لَيْسَ الْوَاصِلُ بِالْمُكَافِئِ، وَلَكِنِ الْوَاصِلُ الَّذِي إِذَا قُطِعَتْ رَحِمُهُ وَصَلَهَا).
المواظبة على مجالس الذكر
نسوق هذا الحديث الشريف الذي يُبين فضل مجالس الذكر، فقد روى أبو هريرة – رضي الله عنه – أنّ رسول الله – صلّى الله عليه وسلّم – قال: (إِنَّ لِلَّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى مَلائِكَةً سَيَّارَةً ،فُضُلا يَتَتَبَّعُونَ مَجَالِسَ الذِّكْرِ، فَإِذَا وَجَدُوا مَجْلِسًا فِيهِ ذِكْرٌ قَعَدُوا مَعَهُمْ، وَحَفَّ بَعْضُهُمْ بَعْضًا بِأَجْنِحَتِهِمْ ،حَتَّى يَمْلَئُوا مَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ السَّمَاءِ الدُّنْيَا، فَإِذَا تَفَرَّقُوا عَرَجُوا وَصَعِدُوا إِلَى السَّمَاءِ، قَالَ: فَيَسْأَلُهُمُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ وَهُوَ أَعْلَمُ بِهِمْ : مِنْ أَيْنَ جِئْتُمْ؟ فَيَقُولُونَ: جِئْنَا مِنْ عِنْدِ عِبَادٍ لَكَ فِي الأَرْضِ، يُسَبِّحُونَكَ، وَيُكَبِّرُونَكَ، وَيُهَلِّلُونَكَ، وَيَحْمَدُونَكَ، وَيَسْأَلُونَكَ، قَالَ: وَمَاذَا يَسْأَلُونِي؟ قَالُوا: يَسْأَلُونَكَ جَنَّتَكَ، قَالَ: وَهَلْ رَأَوْا جَنَّتِي؟ قَالُوا: لا، أَيْ رَبِّ، قَالَ: فَكَيْفَ لَوْ رَأَوْا جَنَّتِي؟ قَالُوا: وَيَسْتَجِيرُونَكَ، قَالَ: وَمِمَّ يَسْتَجِيرُونَنِي؟ قَالُوا: مِنْ نَارِكَ ،يَا رَبِّ! قَالَ: وَهَلْ رَأَوْا نَارِي؟ قَالُوا: لا، قَالَ: فَكَيْفَ لَوْ رَأَوْا نَارِي؟ قَالُوا: وَيَسْتَغْفِرُونَكَ، قَالَ: فَيَقُولُ: قَدْ غَفَرْتُ لَهُمْ، فَأَعْطَيْتُهُمْ مَا سَأَلُوا، وَأَجَرْتُهُمْ مِمَّا اسْتَجَارُوا، قَالَ: فَيَقُولُونَ: رَبِّ! فِيهِمْ فُلانٌ، عَبْدٌ خَطَّاءٌ، إِنَّمَا مَرَّ فَجَلَسَ مَعَهُمْ، قَالَ: فَيَقُولُ: وَلَهُ غَفَرْتُ، هُمْ الْقَوْمُ لا يَشْقَى بِهِمْ جَلِيسُهُمْ).
في هذا الحديث الشريف يُبين الرسول- صلّى الله عليه وسلّم – أهمية مجالس الذكر وفضلها، وأنها خير المجالس لِمَا فيها من ذكرٍ لله سبحانه وتعالى وتسبيحه وتوبة صادقة إليه، فاحرصْ أخي المسلم على المُواظبة على مجالس الذكر والمُسَارعةِ إليها؛ لتكون من أهلها، وتنتسب إلى أصحابها لتنالَ من فضائلها وبركاتها.
الاستعداد لشهر رمضان المبارك
يتهيّأُ المسلمون لاستقبال شهر رمضان المبارك، ونحن نقول لإخوتنا وأحبائنا: استعدوا معشر المُوَحِّدين لاستقبال رمضان واستبشروا بِقُدُومه، وشَمِّروا عن ساعدِ الجِدّ واغتنموا الفرصة ولا تُضيعوها بين لهوٍ ولعب، وعبثٍ ومُجون، ووطِّدوا العزم منذ الآن على صيام أيامه وقيام لياليه، واحرصوا على أن تكونوا في رمضان من المغفور لهم، المُتَقَبَّل صيامهم، وعليكم بذكر الله سبحانه وتعالى وتلاوة القرآن في رمضان، وأكثروا من التوبة والدعاء، وابسطوا أيديكم بالخير، وأنفقوا مِمَّا رزقكم الله على الفقراء والمساكين.
إِنَّ شهر رمضان شهر طاعة وليس شهرَ أكلٍ وشُرب، فعلينا أن نسأل الله أن يُبَلّغنا رمضان، وأن يُوفقنا لصيامه وقيامه، وأن نكون من عُتقائه من النار.
وصلّى الله على سيّدنا محمد صلى الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين
* خطيب المسـجد الأقصى المبـارك
وزير الأوقاف والشئون الدينية السابق
www.yousefsalama.com