التنوير والعنصرية: هل يلتقيان؟
أ.د. عبد الملك بومنجل/
هل من حاجة إلى هذا السؤال؟ لعلكم تجيبون: لا حاجة؛ فالبديهيات لا يُتساءل بشأنها، وتعارض التنوير مع العنصرية بديهية، فالسؤال عنها ضربٌ من اللغو.
ولكن الواقع غيرُ المثال الذي يتوهمه الواهمون، أو يحلم به الحالمون، أو يتجاهل تهافته المتجاهلون؛ فالتنوير الغربي والمركزية الغربية صنوان، وهما لتناقض المدنية الغربية ونفاق مبادئها الفلسفية عنوان. والوقائع النظرية والعملية تشهد أن الأنوارَ التي آمن بها الغربيون وانتصروا لها وافتخروا بها وبنوا عليها وتفننوا في فلسفتها لم تتسرّب إلى أعماق أرواحهم، بل بقيت حبرا على أوراقهم وألواحهم؛ أو قل: لم يؤمنوا بها حقَّ الإيمان، بل دفعوا بها بعض غوائل الزمان؛ والزمان الذي يُحوِجُك إلى اتخاذ بعض القيم سبيلا إلى ما تتصوره مصلحتَك، قد يُحوِجُك إلى الدوس عليها كذلك، إذا أراكَ أن المصلحة هذه المرة هي في الدوس على تلك القيم.
أنتجَ عصرُ الأنوار في أوربا إنسانا معتدّا بنفسه، مغترّا بعقله، مزهوّا بقدرته على تحصيل العلم بأسرار الطبيعة وتطويعها لخدمته وصلاح أمره. وقد أنجز له العقل وثمرتُه العلم الدنيوي ألوانا من التطور والتفوق، ومن الهيمنة على البسيطة ومن على ظهر البسيطة. وهنا مكمن التناقض وموضع الداء؛ فاستعباد الإنسان للإنسان ليس من الإنسانية في شيء، وليس من العقلانية السوية في شيء، وليس من التنوير في شيء؛ وقد أقام الغربي حضارته وثروته وقوته على أنقاضِ ما هدمَ من حضارات، وما نهبَ من ثروات، وما أجرى من وديان دماء، وما سخّر من عبيد وقهرَ من ضعفاء!
خذ كتاب «حوار الحضارات» لأحد أبناء الحضارة الغربية جغرافيةً لا انتسابا (روجيه غارودي)، واقرأ صفحاتٍ حالكةَ الظلام بالغة الوحشية من تاريخ هذه الحضارة التي بناها التنوير على أساسٍ من التزوير والتدمير؛ فقد زوّر التنوير الغربي الحقائق بما ادّعاه للعرق الآريّ من الأفضلية، وللإنسان الأوربي من التميّز والتعالي، ودمّر ما لدى الأمم الأخرى من حضارات ومُقدّرات وثروة ثقافية وبشرية؛ ويكفي أن تقرأ في بعض كتبهم: («الأوروبيون هم شعوب الأرض الأكثر تهذبا، الأكثر تمدنا، والأحسن صنعا. يبزون جميع شعوب سائر العالم في العلوم والفنون… في التجارة، في الملاحة، في الحرب، في الفضائل العسكرية والمدنية. إنهم أكثر بسالة، أكثر فطنة، أكثر كرما، أكثر نعومة، أكثر اجتماعية، وأكثر إنسانية». وأوربا، مع أنها أصغر قارات العالم «لها على الأجزاء الأخرى مزايا كثيرة: المزية الرئيسة هي: الدين الحقيقي الذي حفظته على النحو الأفضل والذي تنشره بشكل رئيس منذ قرنين في أجزاء الكون الأخرى». وأن الأوروبيين ينحدرون عن الجنس الإغريقي، لذلك «يتسمون بميل فطري إلى ممارسة الحرية والعقل، بينما يتصف «الشرقيون» باستمرائهم العبودية، وعجزهم عن الممارسة العقلية الصحيحة»، وأن التاريخ لا يخرج إلا من تماس «العروق البيضاء»، وأن «العرق الشمالي هو بالجوهر مستودع الحضارة الأمين») لتعلمَ أن ثقافةً تتشبع بكل هذا التقديس للذات والتحقير للآخر، وبكل هذا الاعتقاد في المركزية والأفضلية والسمو العرقي، ليس ينتظر منها مثاقفةٌ بل هيمنة، ولا تواصلٌ بل احتلال، ولا حوار بل فرض لمنهج وعولمة لأنموذج.. وهذا الذي حدث في تاريخ التعامل السياسي والاقتصادي والثقافي بين الغرب والعرب على وجه الخصوص. وهذا الذي بلغ من الشطط حدا لا يطاق في العقود الأخيرة. وهذا الذي تؤكده المواقف المتناقضة والتصريحات العنصرية التي صعدت بها إلى السطح الحرب الروسية الأكرانية.
وهل كان وراء استرقاق ملايين الزنوج الإفريقيين إلى أمريكة، وإبادة الملايين أيضا، إلا بوحيٍ من هذا الشعور بالمركزية، وما ينجر عنه من نظرة الاستخفاف بالآخرين؟ يقول روجيه غارودي في هذه الجريمة التاريخية البشعة:
«إنني أذكر كيف شعرت فجأة بعار الإنسان الأبيض وكأنه حمل ثقيل مذل على كتفي عندما زرت في جزيرة (كوره) بمقابل (دكار) الحجيرات التي كان الأسرى يكدَّسون فيها قبيل الإقلاع: وما تزال آثار حلقات الدهان الأسود مرسومة على الجدار وهي تشير حتى الآن إلى المكان الذي كان النخاسون يحددونه لكل إنسان في ذاك الجحيم».
«إن الرأسمالية الأوروبية، وقد أصبحت مركز منظومة اقتصادية عالمية، هي التي أعادت الرق إلى الوجود، وفرضته خلال ثلاثة قرون من القرن السادس عشر حتى القرن التاسع عشر. وعلى هذا النحو وُلدت الثروات العظمى للمشاريع الرأسمالية في الوحل والدم».!