قضايا و آراء

الحرب على أوكرانيا ذراع بوتين أم عقل دوغين؟

أ. عبد القادر قلاتي/

 

لا يبدو في المشهد السياسي والعسكري الذي ينقل صورة حرب جديدة في المحيط الاوروبي، سوى الرئيس الروسي بوتين، الفاعل الرئيس والمحرك الوحيد –كما يبدو- لخيوط لعبة الحرب التي ترتبط بالفكر الغربي المسيحي، فبوتين لا يبدع نسقا جديدا خارج منظومة الخطاب العولمي الغربي، الذي يظهر دائما صورة الرشد بعد تجارب دامية من الحروب الكارثية على الإنسانية؛ آخرها الحرب العالمية الثانية التي لم تحسم الكثير من قضايا العالم، بل عقدتها أكثر بفرض نتائج تخدم الغرب مستفردا بالقوة ومركزية إدارة العالم، وبوتين الذي ينتمي فكريا وعقديا لهذا الخطاب العولمي يدرك جيدا الرؤية الغربية، فهو يستخدم أدوات الصراع نفسها، ويستغل نقاط الضعف البادية هنا أو هناك، ويريد أن يحمي جغرافيته الممتدة، ومحاولة استرجاع ما ضاع منها قبل ثلاثين سنة، وإذا كان بوتين قد اختار المنطق العسكري لحسم قضية بدأت بالحوار والمفاوضات، وانتهت إلى هذا الواقع الذي نعيش صداه اليومي، فإنّه لا يدير هذه الحرب بالمنطق العسكري فقط، وإنما ينصت كثيراً لمجموعة من علماء الاستراتيجيا الكبار وعلى رأسهم الفيلسوف ألكسندر دوغين الذي يصفه الغرب بـ«دماغ بوتين»، فهذا الرجل البارز في الطاقم الذي يدير روسيا اليوم، لا يمارس السياسة بمنطق السياسي المحترف، وإنمّا يختبر أراءه التي دوّنها في كتاباته والتي أشهرها كتابه: «أسس الجيوبوليتكا ومستقبل روسيا الجيوبولتيكي» الذي صدر عام 1997م، والذي ضمنه رؤيته لمستقبل روسيا التي لم يكن قد مرّ على تفككها السياسي وسقوطها الايديولوجي إلاّ أقل من عشر سنوات، ومنذ ذلك التاريخ ودوغين يردّد على مسامع الادارة السياسية خطورة استفراد الغرب بأوكرانيا كقطب محوري في الاتحاد الروسي، وتطورت رؤيته اليوم لتصبح أكثر وضوحا من ذي قبل وتحولت إلى تنبيه مستمر إلى أن عدم حسم هذه القضية سيفتح الباب لحرب عالمية ثالثة بين الغرب والولايات المتحدة من جهة وروسيا من جهة أخرى وقال في تصريح له: «إنّه في ظلّ إدارة المحافظين الجدد والعولمة المتطرفة بقيادة الرئيس الأميركي جو بايدن، أضحت العلاقات بين روسيا والولايات المتحدة متوترة للغاية لدرجة أنّ البشرية ليست على شفا حرب باردة -كانت مستمرة منذ فترة طويلة – بل على وشك حرب نووية، إنها الحرب العالمية الثالثة». وأوضح دوغين «أنّ المشكلة الرئيسية هي أوكرانيا. وقال إنه بالنسبة للمراقبين الأجانب، فإنّ الصراع بين الشعبين الأرثوذكسيين السلافيين الشرقيين، اللذين لهما أصل مشترك من «روس الكييفية»، هو شيء غريب وغير مفهوم. إنّها توحي بأنّ قوة ثالثة لها يد في هذا الصراع – أي الأميركيون أنفسهم، الذين حاولوا وضع الشعبين الشقيقين ضدّ بعضهما البعض، ومن خلال دعم أحد الطرفين -أوكرانيا – لتوجيه ضربة لروسيا، التي تعيد إحياء تاريخها بفضل الإصلاحات الوطنية للرئيس فلاديمير بوتين».
يبدو أنّ دوغين لا يتناول المسألة الاوكرانية انطلاقا من واقع سياسي محليّ، بل يضعها في سياق تاريخي وحضاريّ بعيد، حيث تطرح القضية في جوانبها المتعدد، وأن اللجوء إلى المنطق العسكري خيار صعب لكنه الوحيد، في إطار صراع يعتبره الكلّ صراع وجود،، فالغرب -كما يقول دوغين – يقدمون القضية «كما لو أنّ أوكرانيا دولة منفصلة لها تاريخها الطويل، ضمّها البلاشفة قسراً إلى الاتحاد السوفياتي في عشرينيات القرن الماضي، وأنه عندما انهار النظام الشيوعي، استعادت أوكرانيا استقلالها على الفور. لكن هذه السردية لا علاقة لها بالواقع على الإطلاق».
وهذه حقيقة يعرفها كل من له أبسط إطلاع على الجغرافيا الروسية، وكيف تشكلت هذه الامبراطورية تاريخيا، ثمّ وضع أوكرانيا ضمن الاتحاد الروسي، فهي -بحسب دوغين – تشكل الحلقة الأهم في تركيب قطب روسي يملك قراره السياسي والاقتصادي أمام ما سيتشكل من أقطاب كبرى متعددة لا يمكنها أن تكون بدون روسيا العظمى، تحلم إدارة بوتين وعقلها المفكر دوغين.

اظهر المزيد
زر الذهاب إلى الأعلى

مرحبا بكم في الموقع الرسمي لجريدة البصائر

 

تفتح جريدة “البصائر” صفحاتها للأساتذة الجامعيين والمؤرخين والمثقفين، لنشر إسهاماتهم في شتى روافد الثقافة والفكر والتاريخ والعلوم والأبحاث، للمساهمة في نشر الوعي والمبادرات القيّمة وسط القراء ومن خلالهم النخبة وروافد المجتمع الجزائري.

على الراغبين والمهتمين إرسال مساهماتهم، وصورة شخصية، وبطاقة فنية عن سيرهم الذاتية، وذلك على البريد الالكتروني التالي:

info.bassair@gmail.com