المسجــــد في حياتنا

عبد العزيز كحيل/
مهما رقّ الدين في نفوس الناس، ومهما تراجع التديّن، ومهما توالت الضربات من هنا وهناك يبقى للمسجد مكانته الفريدة في قلوب المسلمين، يجمعهم ويتحدى الانحراف والعلمنة ومحاولات إهالة التراب عليه، لكنه في حاجة إلى عناية وتجديد في الخطاب والوظيفة.
• المسجد الذي يهدي الناس كاد يضيع، فمن يهديه؟
جميع الناس يشتكون من المسجد وخطابه وتأطيره ورواده لأنه لم يعد يؤدي وظيفته المقدسة في الإرشاد والتربية والتوعية والإصلاح والدعوة على الوجه المطلوب، وهذا ما نكاد نتفق عليه جميعا، فما الأسباب وما العلاج؟ معظم الناس يحمّلون المسؤولية للإمام، والحقيقة أن بيوت الله الآن لا يسيّرها الإمام وحده، فهي هئيات تتحكم فيها الدولة بقوانين وتشريعات، ويمكن تلخيص المشكلات المطروحة في ضعف مستوى الأئمة – من غير تعميم بطيعة الحال – مما أدى إلى عجز خطابهم عن التأثير في المصلين، وكذلك حالة الفوضى التي تعانيها بعض المساجد طوال السنة، والسبب في الغالب هو سوء العلاقة بين الإمام واللجنة الدينية لأن القانون صاغ علاقة غامضة بحيث يظل الطرفان على خلاف دائم، والإدارة ليست منسجمة دائما مع الإمام ولا مع طموحات المصلين، والآفة الأخرى أن المجتمع استقال من التربية والتوعية والإيجابية وينتظر أن يحلّ المسجد مشكلات أبنائه.
هناك مشكلة عويصة جدا زادت الطين بلة هي تسليم الدولة طيلة فترة بوتفليقة معظم المساجد للتيار الوهابي ليتلخص دورها في إثارة الموضوعات البعيدة عن الواقع والمسائل التي العلمُ بها لا ينفع والجهل بها لا يضرّ، كما تقع مسؤولية كبيرة على كثير من وجوه الدعوة أصحاب الكفاءة الذين غادروا الميدان فاقتحمه – في كثير من الأحيان وليس دائما – موظفون عاديون ليست لديهم حرقة على الدين لأنهم موظفون فقط…وبهذا انتصرت العلمانية، فالمسجد لم يعد واحة للتعبد ولا يرفع الإيمان ولا يعلم شيئا جديدا ولا يساهم في بناء الحضارة الإسلامية، ويكمن الحل في عودة الدعاة المخلصين إلى مواقعهم ليؤدي المسجد رسالته بكل أبعادها ومقاصدها: المقصد التعبدي بإقامة الصلاة، المقصد الإيماني بلقاء الإخوان وتنمية معاني الإيمان بصلاة الجماعة والجمعة، المقصد التربوي المتمثل في حراسة القيم وبناء الفضائل وإعداد الرجال والنساء الربانيين، المقصد التعليمي ببث علوم الشريعة، المقصد الاجتماعي لتمتين روابط الأخوة وتنمية المحبة والتكافل بين أصحاب المسجد والحي والبلدة…، والمقصد الدعوي وهو تبليغ الحق وتعرية الباطل بالأساليب المناسبة لبيت الله ورواده، كل هذا وصولا إلى المقصد الحضاري أي الانطلاق من المسجد لبناء الحضارة الإسلامية … ويقتضي حالنا المتميّز بالمعاناة من سطوة المادة أن يتم التركيز على ترقيق القلوب وإحياء معاني الربانية في النفوس كأن يديم الإمام التذكير بأن الأرض لا تنسى جباه الساجدين، وأن الليل لا ينسى أنين العابدين، وأن الخد لا ينسى دموع التائبين.
• منهج للدروس والمواعظ.
ينبغي للخطيب الواعي أن يبتعد بدروسه وخطبه عن التجريد والموضوعات التاريخية والمسائل الخلافية، ويجعلها تدور دائما حول الواقع ومحاولة إصلاحه…عندما يدرّس يضع نصب عينيه ذلك العامل الذي يقوم الليل كله ليس ليصلي ولكن لجمع القمامة وتنظيف الشوارع مقابل أجرة زهيدة، بينما يستحوذ على الأموال قلة عاطلة متعالية على الشعب توزعها على الأقارب والموالين (كما أثبتت محاكمات العصابة)، يتكلم عن الطغيان الذي أفسد البلاد وضيّق على العباد، عن الشباب التائه بلا مستقبل في بلد بحجم قارة، عن التلاعب بأموال الأمة، يركز على بعض الذين يتسابقون أمامه إلى الصفوف الأولى وهم يتعاملون بالرشوة ويأكلون أموال أخواتهم من الميراث ويعطلون مصالح الناس في الإدارات، (ليس كل من هو في الصف الأول بهذه الصفة بطبيعة الحال)، ينبه الذين يبكون أمامه تأثرا بالموعظة لكنهم في كرسي المسؤولية والسوق لا يرحمون مسلما، يتكلم ويكرر الكلام عن التبرج الذي أفسد حياة الشباب، عن ظاهرة التخنث، عن انتشار المهلوسات جهارا نهارا، عن تخلي الأولياء عن تربية أبنائهم، يتناول الصلاة كما يتناول الظلم، يدرّس عن أحوال القبر وخاصة عن عذاب الدنيا الذي مسّ الكادحين، يتكلم عن كل هذا ويدعو إلى العودة إلى القرآن والسنة عودة واعية بصيرة فعلية لتغيير واقعنا، ويقترح طرقا عملية في ذلك ليؤدي كل واحد منا واجبه…لكن الخطيب الواقعي المخلص لربه و يستحي أن يكلم الناس عن الزهد وهم يعيشون تحت خط الفقر، ولا عن الصبر لأنهم يعيشون معناه في قلوبهم وحياتهم اليومية في ظل معيشتنا الضنك…يدرّس فيحاول بث الأمل وجمع الناس على التفاؤل لكن بعيدا عن الأوهام والأحلام…منطلقه هو الواقعية والتوكل على الله.
لا نريد من الإمام ان يكون شخصا خارقا للعادة أو بطلا كأبطال قصص الخيال، نريد فقط ان يكون مرشدا للأمة وقدوة صالحة، فقد قيل: «لن يكون إمامنا حتى يكون أمامنا».
• عن جامع الجزائر وإمامه.
بمناسبة الحديث عن المسجد أعرج على تعيين الشيخ مأمون القاسمي عميدا لجامع الجزائر، فقد قال احد الظرفاء إن ليلة تعيينه كانت أشد على الوهابيين من ليلة القبرى الأولى: رجل مالكي الفقه، أشعري العقيدة، صوفي المنحى يُعين على رأس الجامع…إنها لإحدى الكُبر بالنسبة لهم، هم الذين لا يسلّمون لعالم من القدامى أو المحدثين إلا إذا كان «سلفيا» كما يقولون، أما غيره فهو بالضرورة ضال مضل مبتدع، ليس من الفرقة الناجية، وبالتالي لا يصلح للإمامة …لم ينجُ منهم أبو حامد الغزالي وابن حجر والنووي فكيف ينجو الشيخ مأمون القاسمي؟ أما أنا فعندما سمعت بتعيينه قلت: هذه أول مرة يعين فيها الرجل المناسب في المكان المناسب…أعرفه – من غير أن ألتقيه – من قديم، مشايخ الجزائر الثقات يثنون عليه دائما، فهو عالم أصولي معتدل، له حضور مميز في المجال الاسلامي وطنيا وعالميا…أما زاوية الهامل التي يتبعها وتخرج منها فهي طريقة سُنية مشهورة بالتزامها بالشريعة، بعيدة كل البعد عن البدع والخرافات، حاضنة لطلبة العلم وحفظة القرآن، متعففة عن أموال الناس…ماذا نريد أكثر من هذا؟
ويبقى السؤال الأهم: هل سيؤدي جامع الجزائر رسالته أم يكون هيكلا رسميا فقط؟ هل سيجعل منه العميد المعين منارة علمية دعوية نشطة تضاهي الزيتونة والقرويين أيام عزهما، ويضاهي الأزهر؟ هل سيكون صرحا إسلاميا أم هيئة حكومية باهتة؟