مقاربات

المثل العــربي دراسة في نشأته وتطوره نشأة الجنس الأدبي في التراث السامي (الحلقة الأولى)

أ. د. محمد عيلان */

 

إضـــاءة
يعد المثل من أهم الأجناس الأدبية وأكثرها شيوعا وذيوعا بين عامة الناس على اختلاف مستوياتهم ومناحي حياتهم، لما يتضمنه من تجارب وقيم ومواقف، يلجأ إليها الإنسان حين تتعقد أمامه الأمور وتتشعب السبل، ويكون في حاجة إلى مواساة نفسه وتعليل أثر المواقف عليه، فيلجأ إلى موروث أجداده متمثلا له ومعزيا نفسه، وراكنا على ما تزود به من ثقافتهم، فيحس بالراحة والطمأنينة، ويسلك مسلك من سبقوه في المواقف المشابهة راضيا أو ساخطا، أو متتبعا لسبل معينة عبر عنها المثل وسجلها مشيرا إلى طريقة الخلاص منها أو الحكم عليها. والأمثال: (عند كل الشعوب مرآه صافية تنعكس عليها عادات تلك الشعوب وتقاليدها وعقائدها، وسلوك أفرادها ومجتمعاتها، وهي ميزان دقيق لها في رقيها وانحطاطها، وبؤسها ونعيمها وآدابها ولغاتها)1.
وهي تراكمات لحضارات عديدة يعود بعض منها إلى أزمنة سحيقة حين أَلِف الإنسان الاجتماع وتآلف مع بيئته، فصمدت وبقيت تحمل ملامح المجتمعات التي نشأت فيها، أو التي مرت عليها.
تقاطع أمثال الشعوب
والمثل قديم قدم الإنسان فهو الرصيد المعرفي أو الثقافي الذي تحافظ الأجيال على خلوده، لأنه يحمل تجاربها وتجارب أجدادها، ويحفظ تماسكها وتوازنها في مواجهة الحياة اليومية بهمومها ومتاعبها، وهو في الوقت نفسه المادة التراثية «الثقافية» التي تحفظ للإنسان أصوله وتجسم عراقته.
إن مظاهر الاختلاف التي قد تصادفنا في كثير من أمثال الأمم تتمثل في شكلها وطرائق تعبيرها اللغوي، أما التجربة نفسها فقد نصادفها لدى كثير من الشعوب والأمم بحكم تشابه الظروف والحوادث ومتطلبات الحياة اليومية. إلا أن هذا لا يمنع من وجود أمثال تعبر عن معان عرقية خاصة أو حالات وراثية معينة.
والأمثال العربية التي بين أيدينا سواء أكانت تلك التي أُثرت من قديم أم الحديثة التي تنوعت في اللهجات عبر أقطار الوطن العربي، تتقارب في فلسفتها، ونظرتها للحياة وللمجتمع ومساره؛ فالفكر البدوي بقضه وقضيضه مازال يسيطر على العقلية العربية ويَتَبَدَّى في مختلف مظاهر الحياة اليومية.
إن المثل جنس أدبي كغيره من الأجناس الأدبية الأخرى في حاجة إلى لفتة وعناية، فقد أهمله الدارسون والباحثون واتجهوا إلى دراسة أجناس أخرى، بينما هو مصدر من المصادر التي نكتشف من خلالها البناء الاجتماعي والنفسي والثقافي والتاريخي (في المكان والزمان) للشعوب في مسار تطورها، ونتمكن من إماطة اللثام عن المسكوت عنه في التاريخ.
والمثل بما يتضمنه من صدق التجربة الإنسانية؛ يعد أقدم الأجناس الأدبية، إذ قاوم عوادي الزمن وظل الشكل الأدبي المعبر عن التجربة الإنسانية اليومية، المرتبطة بحياة الإنسان في حله وترحاله بخلاف بعض الأجناس الأخرى غير(الشعر) لم تستطع أن تقاوم فاختفت كالملحمة والمقامة..
لكن المحير هو أن الدارسين العرب والمسلمين تحاشوا خلال دراساتهم العودة إلى أصوله الأولى لدى الأمم التي سبقت (أي الشعوب السامية)، مما لهم بها صلة من حيث التقارب اللغوي، واكتفوا بالبحث في لغته ومضامينه العربية انطلاقا من المرحلة الجاهلية وما بعدها، ولعل مبررهم في ذلك حماية اللغة العربية لغة القرآن الكريم مما قد يشوبها من اختلاط أصول أخرى ليست مرجعا في فهم لغة القرآن، الأمر الذي جعل الأوائل من الدارسين العرب والمسلمين يتجنبون الخوض في هذا الموضوع، وعندما اضطرتهم التطورات الحضارية والتقاطع الثقافي واللغوي مع أمم أخرى من أعراق مختلفة، فصلوا ما انتشر منها في المجتمعات الإسلامية عن أمثال العرب، رغم لغتها العربية وجعلوها تحت موضوع آخر هو: (أمثال المولدين) حماية للغة الأمثال العربية ودلالاتها.
1 ـ مصطلح المثل في اللغات السامية
ولمعرفة نشوء هذا اللفظ ومدلوله في اللغة العربية وتطوره، لا يسعنا إلا العودة إلى ما ورد عن أصل الكلمة ومشتقاتها في اللغات السامية، التي لا نملك عنها من المعلومات إلا إشارات أفرزها لنا البحث فيما عثر عليه من آثار الشعوب السامية، وما ضمنته كتب العهد القديم من أقوال وإشارات، مما أوحى لنا بما كانت تعني كلمة (مثل) في هذه الأسفار.
والحقيقة أن هذه المعلومات وإن كانت لا تفي بحاجة الباحث، إلا أنها قد تنير الطريق لإدراك معالم التقارب اللغوي والأدبي، وفق عوامل تاريخية وجغرافية متباينة متنوعة، سواء أكان في هذا الموضوع أم في غيره، مما له صلة بالاتجاه الحضاري العام لهذه الشعوب. كما أن هذه المعلومات ستكون حافزا لمعرفة سر تواصل هذا الشكل الأدبي ومحافظته على خصائصه بتواصل الشعوب.
والمتصفح لكتب اللغة العربية ومعاجمها منذ بداية توثيق الكلام العربي بأنواعه، يجدها تذهب مذاهب شتى في توضيح أصل الإطلاق الأول، وكأني بهم قد أيقنوا أن الكلمة عربية أصيلة، وأنها لم ترد إلا في اللغة العربية. لذلك نجدهم يحددون دلالات الكلمة من خلال ما أثر عن العرب في كلامهم مستدلين بالشعر تارة وبالقرآن الكريم والأحاديث النبوية الشريفة تارة أخرى. ولم يحاولوا مقارنة ذلك بما جاء في اللغات السامية.
والمتتبع لهذا الفيض من الشروح للكلمة وأوجه دلالاتها يحس بأن هناك تجاوزا عن قصد أو غير قصد في عدم محاولة البحث عن صلة هذه الكلمة بما أطلق على مثلها في اللغات السامية، سواء من حيث الاشتراك في الصيغة، أو وجودها في التركيب والاستعمال.
وقد كان المستشرقون أبرز من تناول هذه الأمثال والأقوال فتتبعوها تاريخيا لتحديد مجالات استعمالها في اللغات السامية، وتبعهم في ذلك بعض المحدثين من العرب على الخصوص في هذا الموضوع، وتبنيهم لها في دراساتهم، وبخاصة في مجال (علم اللغة المقارن)، الذي كان له أكبر الأثر في معرفة ما كان خافيا عنا إلى عهد قريب.
من هنا نرى أن من الضروري توضيح معالم دلالة كلمة (مثل) في التراث السامي، ليتسنى لنا الوصول إلى استقرار مدلولها اللغوي في التراث العربي.
فقد وردت كلمة (مثل) ( masel ) في التراث العبري بمعنى الحكم والسيادة، وصفة الحكم نسبت إلى الله وإلى الأجرام السماوية. وفي نسبة الحكم إلى الأجرام السماوية، وردت آيتان في سفر التكوين 1: 16 – 18 هذا نصهما: (فعل الله النورين العظيمين، النور الأكبر لحكم النهار، والنور الأصغر لحكم الليل والنجوم، وجعلها الله في جلد السماء لتنير الأرض، ولتحكم على النهار والليل، ولتفصل بين النور والظلمة) 3. ومعنى ذلك أن (الماثل) أو (المثل) هو الحاكم والسيد على كوكب الأرض، فكما أن هناك حاكما على النهار، هناك حاكم على الليل، وكلاهما في كبد السماء يتحكم فيما له على الأرض وسكانها، أي أنهما يشبهان الإله الذي يمثلانه. (يذكرنا هذا بنظرية المحاكاة عند أفلاطون). ولا نبعد كثيرا، فإن عبادة الأفلاك كان لها أثر كبير في معبودات البابليين والكلدانيين، إذ يرونها المتحكمة في الكون ونظامه دون خلل، ولذلك بنيت لها معابد، وقد ورد ذلك فيما أثر عنهم من نصوص.
وليس لدينا مما ذكر إلا القول بأن المثل: كان يطلق عند هذه الشعوب على الحاكم الذي بيده القوة والسيطرة على الموجودات، وسواء في التراث البابلي أم التراث العبري، باعتباره مثيلا أو ممثلا.
وإذا رجعنا إلى اللغة الآشورية وجدنا لفظ (مثل masalu) ينتقل من أصل وضعه وهو الدلالة على الحكم والسيادة إلى الدلالة على صفة من صفات الحكم: لمع أو سطع، وهو ما يقارب أحد معاني (مثل) العربية، من قولهم: مَثُل القمر مثولا، إذا ظهر، والماثلة منارة المسرجة، لا لأنها تنير، بل لأنها منتصبة، ولأن مَثُل معناه: انتصب قائما: كما نص على ذلك اللغويون.
إلا أن اللغة العربية لا تستعمل مادة (مثل) بمعنى (حكم)، بل نجدها استغنت عن كل ذلك بإطلاق كلمة (الحكم) ومشتقاتها للدلالة على ما يفيد السيطرة والحكم، وأحيانا أخرى بمعنى (الحكمة) تصدر من الحاكم المجرب العارف.
ووردت كلمة (التمثال) أحد معاني مشتقات (مثل)، بمعنى: الشيء المصور المتقن 1 الذي يجسد حقيقة ما. وهو معتقد قديم قدم البشرية، بل يرجع إلى طفولة البشرية، والدراسات في هذا كثيرة، وما زال أثر هذه الصورة سائدا في مجتمعاتنا، وميادينه: الصورة والحركة والفعل والقول والتشاؤم والتفاؤل والعدد وما إلى ذلك.
ونجد ذلك في العربية وفي غيرها من اللغات السامية، وهي في دلالاتها لا تبعد عن معنى الحكم والسيطرة. ذلك أن اللجوء إلى تجسيد الآلهة للبشر يسهل عبادتها ويسهل الحصول على رضاها من عابدها (كما في أساطيرهم)، إذ يستطيع الإله بما له من قوة وسيطرة أن يطرد الشر ويزرع الخير بين من يتقربون إليه، ثم توسع في دلالة كلمة (التمثال) من الدلالة على شبه الإله أو صورته أو شبهه ونظيره إلى تمثال عدُوِّه مجسدا، يطعنه برمح اعتقادا منه بأنه بإيذاء تمثال عدوه أو صورته، يؤدي إلى إيذائه غائبا عنه، بقوة الإله وفقا لنظرية: الشبيه يولد الشبيه 4. وهي نظرية أنثربولوجية جاءت على أنقاض نظريات أخرى، منها الآرية والانتشارية وغيرهما ومحتواها أنه: « متى ما تشابهت الظروف والبيئات تشابها الإبداع». ولها حضور في (علم الأدب المقارن).
ومن هذه المعاني المختلفة للفظ (مثل)، نجد أن الكلمة قديمة في التراث السامي، وليست عربية متفردة وأنها في اللغات السامية ارتبطت بكثير من الدلالات، منها ما عرفنا ومنها ما عفا عنه الزمن ولم يصلنا شيء منه. وأكثر ما عرف لدينا ارتبط بالاعتقاد الديني للجماعات السامية عبر وجودها الجغرافي وانتمائها العرقي والقومي.
كما أن الكلمة حافظت على أشهر دلالات الإطلاق وهو المشابهة، سواء في الموضوع أم في الهيئة أم في غيرهما.
فقد دلت بالتراث السامي على معنى الحكم والسيطرة أول ما دلت، ثم دلت على معنى الشيء المادي المصور بمعنى (المثل) أو (المشابه) يقول أيسفلت في دراسته للمثل القديم: المثل كما يدل عليه أصل معناه في الحبشية: (mesl) أو (messale) والآرامية (mathla) والعبرية (mashel) (ماشال)، التشبيه والمقارنة. ويوافق بروكلمان على ذلك فيرى: أن المثل العربي لم يخرج أصله عن هذا المعنى، لأنه يعتمد التشبيه والمقارنة، وتطور معناه الأصلي إلى أن صار يدل على المثل كما عرفته الجاهلية والإسلام 3. راجع: D. Eissfeldt. Der machal in alten Zestment p62 وراجع أيضا: «دائرة المعارف الإسلامية» مج 5 .

أ . د . محمد عيلان
كلية الآداب والعلوم الإنسانية والاجتماعي
جامعة باجي مختار ــ عنابة
ailafolk@hotmail.com

اظهر المزيد
زر الذهاب إلى الأعلى

مرحبا بكم في الموقع الرسمي لجريدة البصائر

 

تفتح جريدة “البصائر” صفحاتها للأساتذة الجامعيين والمؤرخين والمثقفين، لنشر إسهاماتهم في شتى روافد الثقافة والفكر والتاريخ والعلوم والأبحاث، للمساهمة في نشر الوعي والمبادرات القيّمة وسط القراء ومن خلالهم النخبة وروافد المجتمع الجزائري.

على الراغبين والمهتمين إرسال مساهماتهم، وصورة شخصية، وبطاقة فنية عن سيرهم الذاتية، وذلك على البريد الالكتروني التالي:

info.bassair@gmail.com