جمعيـة الهدايـة ودورهـــا الثقافــي والتعليمــــي فــي بلـــدة بــوسعـــادة 1962/1932
أ. محمد بسكر/
بدأ نشاط الحركة الإصلاحية ببلدة بوسعادة في عشرينات القرن الماضي مع ظهور مجلة الشهاب، التي وجدت مواضيعها رواجا كبيرا بين أبنائها، وكان من المساهمين بالكتابة فيها الأستاذ عبد القادر عماري، الذي دافع عن منهجها في إحدى مقالاته، فكان يرى بأنّها من أسباب النهوض الثقافي وانتشار الوعي السياسي الذي دبّ في القطر الجزائري، كما نشر فيها الشيخ محمد بسكر بعض قصائده في الإصلاح الديني والاجتماعي.
تولى الشيخ عبد القادر القاسمي تسيير مكتب فرع بوسعادة بعد نشأة جمعية العلماء سنة 1931م، وهو أحد المؤسّسين للمكتب الوطني بنادي الترقي، ورسائله مع الشيخ عبد الحميد بن باديس ومحمد البشير الإبراهيمي، تبرز دوره الأساسي في إنجاح مهام الجمعية، غير أنّ عضويته فيها لم تعمر طويلا، فانسحب من المكتب الوطني مع أعضاء الزوايا، لاختلافهم مع الإصلاحيين في المنهج والأولويات والنظرة السياسية، لينضم إلى جمعية السنة 1932م. وبداية من هذه السنة ترأس المكتب الفرعي لبلدة بوسعادة خلفا له، الشيخ محمد بن أحمد بسكر، تُعاونه في تسييره فئة مثقفة من الأساتذة أمثال، عبد القادر بن محمد عماري، وعلي بن محمد ناجوي، وموسى بن شنوف، وابن رعاد علي، وعبد الله بسكر، والحاج الزبير طاهري…وغيرهم، غير أنّ فرع الجمعية نشط باسم آخر، وهو (جمعية الهداية) كواجهة للعمل التربوي والاجتماعي، تفاديا لمتابعة إدارة المحتل التي كانت تضايق كلّ فعالية تتم تحت غطاء جمعية العلماء، وقد لاحظ الشيخ عبد الحميد بن باديس تحفظهم أثناء لقائه بأعضاء الفرع ببوسعادة سنة 1932م، فكان حديثه معهم حول محاربة الخوف والجمود.
مدرســـــة الهــدايـــــــة
كان من أبجديات العمل التربوي والاجتماعي عند جمعية العلماء، الاهتمام بالتدريس وتأسيس مرافق التعليم في مختلف المقاطعات، وتوجيه أتباعها لتحقيق ذلك، ومن المشاريع الهامّة التي عمل فرع الجمعية ببوسعادة على تحقيقه، تأسيسه مدرسة الهداية العربية بغية التخلص من هيمنة المدرسة الفرنسة (شالون)، لم تتوفر عندي معلومات وافية عنها غير إشارات قليلة في بعض الوثائق التي مُكِنتُ منها، والتي تشير أنّها أسست سنة 1932م، وأسندت إدارتها للسيد عمار بن المداني شريف، وكان مقرّها بحي الهضبة بجانب
فندق “Beau séjour”، بمنزل تمّ استئجاره من اليهودي “بوراخ دجاوي”، وهي تتكون من قسمين دراسيين، أحدهما مختلط، ضم ما يقارب الثلاثين تلميذا، والقسم الثاني للطلبة الكبار، يتلقون فيه دروسا في اللغة والنحو والفقه، وخاصّة في شهر رمضان، وقد تمتعت المدرسة بنجاح باهر ومدو، يذكر الأستاذ يوسف نسيب أنّ هذا النجاح راجع إلى همّة بعض أعضاء الجمعية، أمثال السيد عبد القادر بسكر (من حي الموامين)، والسيد كرفالي (من حي الشرفاء)، لم يكن لهذه الجمعية ومدرستها أي تصريح يبيح لها النشاط، ولذا واجهت صعوبات كثيرة ومضايقات من إدارة الاحتلال، ممّا أثر في سيرها فلم تعمر طويلا، وقد تحدث الأستاذ حمزة بوكوشة عضو جمعية العلماء عنها في رحلته، عندما زار بوسعادة سنة 1932م، فقال: «إنّ جمعية تسمى الهداية فتحت مكتبا قرآنيا»، وأرجع سبب غلقه لخلاف بين أعضائها، وعلّق على ذلك بقوله: «وهو شيء قلّما سلم منه مشروع خيري في طور التكوين»، لا معلومات متوفرة عن فرع الجمعية في الفترة الممتدة من 1940/1935، ما عدا إشارات قليلة جاءت في جريدة البصائر، ومع قيام الحرب العالمية الثانية اضمحل نشاط جمعية الهداية، ليظهر تحركها مع انتفاضة ماي 1945م، حيث اعتقلت سلطة الاحتلال بعض شبانها بتهمة التحريض على العصيان المدني.
تمّ تجديد أعضاء المكتب البلدي لفرع جمعية العلماء ببوسعادة بتاريخ 30 أفريل سنة 1951م، ليضم الفرع في صفوفه جيلا من الشباب متشبّعا بآراء وأفكار جديدة، وخاصّة أنّ البلدة شهدت تحركات سياسية لأهم الأحزاب بعد أحداث الثامن ماي. أشرف على ترأس الفرع في هذه المرحلة الحاسمة من تاريخ الجزائر، السيد محمد بن سليمان مرخوف، ونائبه الشيخ العربي بن سلامة. كان مبعوث جمعية العلماء إلى المنطقة هو الشيخ النعيم النعيمي، الدائم الإقامة ببوسعادة للوعظ والإرشاد والتوجيه ضمن المهام المكلف بها من المكتب الوطني، وقد حث أعضاء المكتب على إحياء فكرة بناء المدرسة من جديد، بعد أن جُمّد مشروعها بداية من سنة 1935م، فتقدّم الأعضاء بطلب إلى رئيس الدائرة باسم جمعية الهداية، وانطلق العمل بجهود وتضحيات الأهالي، وبالرغم من محاولة الاحتلال عرقلة المشروع، إلّا أنّ إصرارهم على إنشاء مدرسة خاصة بهم جعلهم يمضون فيه، فاستطاعت الجمعية جمع الأموال وشراء قطعة الأرض المخصصة للبناء بداية من سنة 1952م، وقد كتب السّيد خيذري بن خيرة بن لخضر، أمين صندوق الجمعية، مقالة نُشرت له بتاريخ 14 جويلية 1952م، بَشّرَ فيها سكان البلدة بشراء قطعة أرضية، وتكوين إدارة مؤقتة تشرف على المدرسة، وذكر أنّ الغاية من هذا المشروع، هو إحياء تعليم اللغة العربية التي تكاد أن تنضب؛ لأنّ التدريس المقدم في المدرسة الفرنسية غير كاف وعقيم، لكن مع قيامة ثورة التحرير توقفت الأشغال؛ لأنّ معظم أعضاء الجمعية انخرطوا في العمل الثوري، ووفق التقرير الصادر من مفوض الشرطة سنة 1957م فإنّ هذه المدرسة لم يكتمل بناؤها سنة 1953م، وأنّ تمويلها يتم من جموع السكان بشكل عام، ففي سنة 1952م جمع الأهالي مبلغا يصل إلى 2 مليون، وخلص التقرير إلى أنّ أعضاء الجمعية ليس لهم أي نشاط ملموس في الدعاية لـ (FLN) أو: (MNA).
التقارير التي كانت تصدر من “جمعية الهداية” تُوضّح بأنّ نشاطها بقي على وتيرته إلى ثلاثة أشهر بعد قيام ثورة التحرير، وأنّها عقدت اجتماعات دورية لمراجعة الأعمال، من بين ذلك الاجتماع الذي عقد بتاريخ 1 جانفي 1954م، التقى فيه الأعضاء في محل الجمعية برئاسة الحاج العربي بازة، لمعالجة إشكالات إدارية، وتوضيح مساعيهم في رفع عراقيل الإدارة الفرنسية، إضافة إلى مراجعة المصاريف التي صرفت على بناء المدرسة، كما وقع اجتماع آخر بتاريخ 1 جانفي 1955م، الغاية منه متابعة الأعمال ومراقبة الحسابات المالية، قُدّم فيه تقرير أدبي من كاتب الجمعية الشهيد حميد عبد القادر.
الهداية…من مدرسة إلى معهد إســـلامـــي
استأنف أعضاء جمعية الهداية بناء المدرسة بمجرد وقف اطلاق النار سنة 1962م، لتفتح أقسامها الأولى في سنة 1963م، وبتاريخ 10 أكتوبر 1963م تمّ إرسال تقرير من لجنة التوجيه إلى السّيد محافظ التيطري بالمدية، يخبرونه بأنّ مدرسة «تسمى “الهداية” تمّ إنشاؤها في وسط البلدة في شارع العربي التبسي، وأنّهم بدأوا في بنائها سنة 1952م باقتراح من الشيخ نعيم النعيمي، بعد أن تمّ شراء قطعة أرض مساحتها 1200 متر مربع بتبرع من أهالي بوسعادة، ومع قيام الثورة توقف المشروع، وبعد الاستقلال جمعت التبرعات مرّة أخرى»، وانتهى التقرير بلفت نظر المحافظ أنّ هدف المدرسة تعليم العلوم الدّينية، وبالنظر إلى أنّها جاهزة، فقد طلب الأعضاء منه المساعدة في تجهيزها بالوسائل اللازمة إضافة إلى المدرسين.
شارك معظم سكان الأحياء السبعة المكونة للبلدة في جمع التبرعات بعد الاستقلال مباشرة، والوثائق المتوفرة لا تحوي جميع قوائم المساهمين، غير أنّي وقفت على قائمة خاصة بسكان حي أولاد احميدة، وحسب ما قيده المسؤول عن جرد تكاليف البناء، فإنّ مساهمة هذا الحي، بتاريخ 3 محرم 1382م الموافق لـ6 جوان 1963م، بلغت 114500 دج. وساهمت بلدية بوسعادة بمبلغ 50000دج، وقسمة جبهة التحرير بـ 20000دج، والكشافة الإسلامية بـ 5000دج، ووزير الأوقاف أحمد توفيق المدني بـ 50000دج، وملحق ديوان الأوقاف بـ 10000دج، ورئيس ديوان وزارة الأوقاف السّيد الطاهر التجاني بـ 20000دج. وجاء في تقرير المفتش الجهوي لوزارة الأوقاف المقدم للسيد الوزير بتاريخ 21 سبتمبر 1963م: «أنّ جماعة الهداية لأبي سعادة أسست مدرسة لتعليم النشء لغة القرآن، وأنها سبّاقة لهذه المأثرة، وأنّ الجماعة ترغب في جعلها تحت تصرف وزارة الأوقاف، والمدرسة جاهزة، لا ينقصها إلا المدرسون، وبما أنّ التعليم الابتدائي متوفر، فإنّه من الأليق جعلها معهدًا دينيًا تكميليًا تابعا لوزارة الأوقاف»، وختم التقرير: «بأنّ المفتش يضم صوته لأصوات أهالي بوسعادة، ويلتمس من معالي وزير الأوقاف أن يدشن المعهد في حفل رسمي».
وافقت وزارة الأوقاف بضم المدرسة وتحويلها إلى معهد لتعليم العلوم الدينية، والذي فتح أبوابه للطلبة في نفس السنة، واستعان مجلسه الإداري الذي كان يترأسه السيد عيسى بسكر بشيوخ العلم من أهل بوسعادة ليكمل النقص في التأطير، في انتظار الأساتذة الذين سترسلهم وزارة التعليم الأصلي، فكان من أوائل المدرسين بالمعهد إضافة إلى مديره، الشيخ محمد بن شكيمي، وقدور دحيري، والبشير بلخليدي. وعبد الله بن الحاج بن سالم، وعبد الرحمن بن البيض، ثمّ دعمته وزارة الأوقاف بالمجموعة الأولى من الأساتذة الأزهريين، ممن ساهوا في تعليم الطلبة الذين وفدوا على المعهد من المناطق المجاورة والولايات القريبة، كالمسيلة وبرج بوعريرج وسور الغزلان والجلفة، حيث بلغ عدد المنتسبين إليه أزيد من 150 طالبا، وفي ختام هذا العام الدراسي حظي المعهد بزيارة السّيد وزير الأوقاف أحمد التوفيق المدني، وكان برفقته الأستاذ محمد صالح رمضان، والشيخ نعيم النعيمي، وأقيم بمناسبة ختم السنة حفل بهيج، تحدث فيه السيد الوزير، والشيخ نعيم النعيم، ومدير المعهد السيد عيسى بسكر، والشيخ توفيق سرور المصري الذي أبهر الحضور ببلاغته، وعرض الطلبة مسرحية من ثلاثة فصول بعنوان الكاهنة، من تأليف الأديب واضح محمد.
ألقى الأستاذ الوزير “أحمد توفيق” خطابا نشر في احدى المجلات بعنوان: “الإسلام سلاحنا في المعركة”، تحدّث فيه عن سعادته بإشرافه على نهاية العام الدراسي، وشكر فيه الأزهر الشريف ورجاله، والرّعيل المجاهد الذي اِلتفَّ في مدينة بوسعادة حول المعهد، وأخرجه من التفكير إلى الوجود، وقال: بأنّنا نحتفل بالثمرات الأولى لهذا المعهد الذي أسس على التقوى.