ليتفكروا

عوائق النهضة: الاستبداد السياسي

د. بدران بن الحسن */

من عوائق النهضة التي لا يمكن ان ينكر مفعولها أحد ما تعانيه امتنا من استبداد متعدد الوجه. ولعل الوجه الأبرز لظاهرة الاستبداد، هو الاستبداد السياسي، الذي تعاني منه غالب دول وشعوب أمة المسلمين، وتسبب في كوراث كبيرة، وفي تعطيل جهود التحرر والخروج من التبعية والقابلية للاستعمار، ومن القهر والخنوع والسلبية التي نعيشها أفرادا وجماعات ومجتمعات.
ولا يمكن بحال من الأحوال الحديث عن الاستبداد، وعدم الحديث عن التشخيص الذي قدمه العلاّمة عبد الرحمن الكواكبي في كتابه “طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد”، الذي وضع فيه خلاصة تجربته ذات العمق الاجتماعي، والسند الخلدوني، في تشخيص مرض الاستبداد السياسي.
يقول الكواكبي: “الاستبداد لو كان رجلاً وأراد أن يحتسب وينتسب لقال: أنا الشرُّ، وأبي الظلم، وأمّي الإساءة، وأخي الغدر، وأختي المسْكَنة، وعمي الضُّرّ، وخالي الذُّلّ، وابني الفقر، وبنتي البطالة، وعشيرتي الجهالة، ووطني الخراب، أما ديني وشرفي فالمال المال المال” (كواكبي، ص75). إن هذه الصورة التي رسمها الكواكبي للاستبداد، تبين كيف يرتبط الاستبداد بالشر، والظلم، والإساءة، والغدر، والمسكنة، والضر، والذل، والفقر، والحاجة، والجهالة، والخراب. وما أسوأها من صفات!
هذا الوصف القبيح للاستبداد قدمه الكواكبي خلاصة لتأمله ونظره وبحثه خلال ثلاثين سنة، وتبيّن له أن السبب الأول لانحطاطنا وأن العائق الأساس لنهضتنا هو الاستبداد السياسي. فالاستبداد داء أمتنا من قرون، واشتد الداء أكثر في عصرنا هذا. فهو يتسبب في فساد الشأن العام، وانحراف السياسة، وتحولها إلى زبونية ومؤامرات، ويقضي على الإرادة الشعبية، ليتحول الشعب إلى قطيع يساق إلى حتفه، لأن المستبد “يتحكَّم في شؤون النّاس بإرادته لا بإرادتهم، ويحكمهم بهواه لا بشريعتهم، ويعلم من نفسه أنَّه الغاصب المتعدِّي فيضع كعب رجله على أفواه الملايين من النَّاس يسدُّها عن النّطق بالحقّ والتّداعي لمطالبته”(الكواكبي، ص21-22) بل إن “المستبدّ: يودُّ أنْ تكون رعيته كالغنم درّاً وطاعةً، وكالكلاب تذلُّلاً وتملُّقاً” (الكواكبي، ص22).
ففي الاستبداد تعطيل للإرادة العامة للأمة، واستفراد الإرادة الخاصة لفرد أو منظومة حاكمة بالأمر، وهو تحكم بمجرد هوى التسلط والتحكم، بدل الاحتكام على التشريع والقانون وما ترتضيه الأمة. ويتضمن استعلاء وتغييبا لإرادة الناس وفرض إرادة واحدة عليهم، كما أن الاستبداد لا يبني مواطنا حرا ولا إنسانا حرا، بل يبني تابعين خاضعين مطيعين دون مساءلة كأنهم قطيع، ومتذللين متملقين كأنهم كلاب وليسوا بشرا خلقهم الله أحرارا.
وبالرغم من أن الاستبداد في أمتنا له جذور تاريخية عميقة، منذ الفصام الذي وقع في صفين، وأدى إلى تراجع الروح القرآنية وبروز النزعة الجاهلية القائمة على العصبية، كما يقول بن نبي (شروط النهضة، ص51-53)، فإن الأمة حافظت على استقلالها بفعل محدودية السلطة السياسية، وبفعل فعالية العلماء وبقية مكونات المجتمع المسلم التي حفظت للأمة قوتها. غير أن الاستبداد في العصور المتأخرة تحول إلى ظاهرة تتحكم في كل صغيرة وكبيرة، وبخاصة مع تغول الدولة القُطرية/ الوطنية، واستئثار أجهزة السلطة بكل تفاصيل حياة الانسان، مما جعل خطر الاستبداد أكبر، وجعله يتحول إلى جبرية خطيرة، عطلت مقدرة الامة في أن تستعيد مكانتها وفعاليتها ودورها في تحقيق نهضتها.
بل أن الاستبداد مضاد لأصل الإسلام، وأصل نشأة هذه الأمة، واصل خلقة الإنسان؛ فالإسلام جاء لتحرير الانسان من كل طغيان، والأمة نشأة على تحرير إرادتها وافرادها، لكيلا يكونوا خاضعين إلا لله، يتعاملون بينهم بالعدل والشورى والمؤاخاة، والانسان خلقه الله حراًّ، والمستبد حوله إلى عبد، ولهذا يقول سيدنا عمر بن الخطاب معلنا واحدا من المبادئ الخالدة في حوق الانسان: “متى استعبدتم الناس وقد خلقتهم أمهاتهم احراراً”. ولهذا ترى الأنظمة المستبدة تفضل تعميم ثقافة الطاعة دون مساءلة، والخضوع دون قوانين، والاحتكام لإرادة الأنظمة لا لإرادة الأمة ودساتيرها وقوانينها. بل حتى القوانين والدساتير التي يسنها المستبدون سرعان ما يستبدلونها، أو ينقلبون عليها، أو يعطلونها، إذا تعارضت مع هواهم الاستبدادي.
ولهذا رأى الكواكبي أن من أوجب الواجبات “تنبيه حس الأمة بآلام الاستبداد، ثمَّ يلزم حملها على البحث في القواعد الأساسية للسياسة المناسبة لها؛ بحيث يشغل ذلك أفكار كلِّ طبقاتها” (الكواكبي، ص 183-184).
وهذا المرض العضال، كما يصفه الكواكبي، يحتاج علاجا عميقا، يستأصل جذوره ومسبباته. هذا العلاج يقوم على تشخيص دقيق، ثم يوصف العلاج له، حتى تنجح الحلول في الخروج منه، فإنه طالت هيمنته على الامة، وأضاع عليها فرصا كثيرا للخروج من التخلف، بل وتسبب في جلب الغزاة الخارجيين، وتمكينهم من الأمة ودينها وخيراتها وشعوبها، لتحتفظ الأنظمة باستمراريتها. كما تسبب في إخفاقات كبيرة في التنمية حتى هرجت خيرة عقول الامة وأنفسها الكبيرة ديارها، طلبا للحرية، والكرامة، مما أفرغ الأمة من طاقاتها، واحالها إلى أمة معطلة فاقدة للمبادرة.
وهذا المرض العضال، كما قلنا، يؤكد الكواكبي أنه في حاجة على أن ينضج نظريا، بان يزرع في نفوس الأمة التطلع على الحرية، والتلهف لها، وتمني وقوعها، والتشوف إليها، ليكون مشروع التحرر قابلا للإنجاز والتحقق. يقول الكواكبي: “والأولى أن يبقى ذلك تحت مخض العقول سنين، بل عشرات السنين حتى ينضج تماماً، وحتى يحصل ظهور التلهّف الحقيقي على نوال الحرية في الطبقات العليا، والتمنّي في الطبقات السفلى” (ص 184)، وذلك حتى لا يحدث خلاف المقصود، من تنكيل المستبدين بالساعين لتحرر أمتنا، فتنتشر الفوضى، ويستغل العدو الخارجي الوضع، فيسومنا سوء العبودية جميعا. فتأهيل الأمة وعيا وفهما ونضالا لترفض الاستبداد وتسعى للتحرر، هو المدخل لزوال الاستبداد.
* مركز ابن خلدون للعلوم الإنسانية والاجتماعية/ جامعة قطر

اظهر المزيد
زر الذهاب إلى الأعلى

مرحبا بكم في الموقع الرسمي لجريدة البصائر

 

تفتح جريدة “البصائر” صفحاتها للأساتذة الجامعيين والمؤرخين والمثقفين، لنشر إسهاماتهم في شتى روافد الثقافة والفكر والتاريخ والعلوم والأبحاث، للمساهمة في نشر الوعي والمبادرات القيّمة وسط القراء ومن خلالهم النخبة وروافد المجتمع الجزائري.

على الراغبين والمهتمين إرسال مساهماتهم، وصورة شخصية، وبطاقة فنية عن سيرهم الذاتية، وذلك على البريد الالكتروني التالي:

info.bassair@gmail.com