رحـــلت عنا، وأية رحــــلة

أ د. عمار طالبي/
ما كنا نتوقع هذه الرحلة الفجائية، رحلة الروح إلى خالقها ومصدرها الأعلى يوم 2 شعبان 1443 الموافق 5 مارس2022.
كانت في اليوم قبل رحيلها تزور أقاربها وتصلهم ولما جاء فجر اليوم الموالي أسرع إليها موت الفجاءة لم تكن لنا فرصة للحديث معها ولا لها فرصة لتوصي أو ترغب في شيء، ذهبت كلمح البصر أو أقرب.
إنها رفيقة حياتي جرابي بنت محمد طوال عمرها وذاقت معي حلو هذه الحياة ومرها، عاشت معي في البأساء والضراء، وحين البأس، كانت خير معوان لي في مسيرتي في هذه الحياة. تقوم بواجبها في تربية أبنائها تربية طاهرة تغذيهم الغذاء الجسماني والروحاني إلى أن تخرجوا كلهم من الجامعات داخل الوطن وخارجه، فلم تكن لها في ذلك العهد خادمة تساعدها فوضعنا الاقتصادي كان كما تعلمون بئيسا، بالرغم من أنه مرتب جامعي في ذلك الوقت حتى خرجنا إلى التقاعد.
تهيء كل شيء في بيتها وتقوم بواجبها في التعليم الثانوي ثم الجامعي، كانت في غاية الطموح لرفع مستواها العلمي، رحلت إلى الاسكندرية فأبت إلا أن ترافقني، وتسجل في جامعة الاسكندرية مع أستاذنا جميعا الأستاذ علي سامي النشار، ومعنا ثلاثة أبناء في ذلك العهد.
إنها رحلة وأية رحلة تركت فراغا لا يسد ومكانة لا تعوض، تنظم البيت تنظيما لا ترى فيه عوجا، وترتب كل شيء في مكانه، ولا تقبل أي فوضى أما نظافة الدار فهي تقوم بها يوميا حتى لسنواتها الأخيرة، فإنها تساعدها سيدة في خدمة البيت ذات الطبقات الثلاثة.
حصلت على الماجستير من جامعة الاسكندرية في ابن باجة الببلاوي الأندلسي. وسجلت دكتوراه في فلسفة مالك بن نبي ولكن لم تسمح لها أشغالها أن تنجزها.
كانت تتصدق وتصل أرحامها وتحب أبناءها، أما أحفادها فإنها تحيطهم دوما بعطفها وحنانها، وها هم اليوم يسأل صغار أحفادها عنها ولا يعرفون الموت، يقولون أين مامي؟ كما كانوا ينادونها في كل زيارة لبيتنا، تحبهم ويحبونها ويتعلقون بها لا يعرفون إلا أنها سافرت إلى مكان بعيد!
فقدها أقاربها، وأبناؤها وزوجها الذي لا يجد من يعوضها، فالبيت خلا من حركتها وتراتيبها، ومراقبتها لكل صغيرة وكبيرة فيها، تحب الخير وتعين عليه، تغضب إذا رأت فوضى وتسرع إلى وضع الأشياء موضعها، تغضب ولكن قلبها لا يحمل حقدا ولا ضغينة، تهتف يوميا لبعض أبنائها الغائبين عن الوطن، ولا تطمئن إلا إذا علمت سلامتهم، سافرت أخيرا إلى ابنتها في تونس وقدر الله أن يفاجئها الموت في اليوم الرابع من عودتها لتنتقل إلى رحمة ربها في منزلها لا خارجه.
راحت وراح معها كل شيء من مكاني الأنيس، والحركة والنشاط في منزلنا وراحت معها ضيافاتها الفاخرة لأحبائها وأولادها، ولا تسبقها أية ضيافة في طعامها وذوقه الذي لا يفوقه ذوق ولا طعم.
أشعر أني الآن يتيم فقد زوجته بعد أن كان يتيما فاقدا لأمه وأبيه، إني ألجأ إلى المولى العلي أن يغفر لها وأن يتقبلها قبولا حسنا وأن يرفع درجتها في أعلى العليين مع النبيين والصديقين والشهداء والصالحين.