في الذكرى السادسة والعشرين لوفاة الشيخ محمد الغزالي (الحلقة الأولى)
د.. نجيب بن خيرة/
تم بحمد الله طبع كتاب (من روائع الغزالي) روائع مختارة من الأعمال الكاملة للعلامة الشيخ محمد الغزالي رحمة الله عليه .بدار عالم المعرفة (650 ص)، وقد سعدت بتقديم الكتاب من قبل أخي الحبيب معالي الدكتور يوسف بلمهدي وزير الشؤون الدينية والأوقاف بالجزائر. والكتاب سوف يكون متوفرا بالصالون الدولي للكتاب بالجزائر قريبا، وهو متوفر بمكتبة البصائر بمدينة بوسعادة. اسأل الله أن ينفع به، وتظل روائع الغزالي تنشر عبيرها في صدور الأجيال القادمة. وقد جاء في مقدمتي للكتاب بعنوان: «بين يدي الشيخ الغزالي» ما نصه: |
من حق العلماء العاملين والمفكرين الفاقهين والدعاة المخلصين على الأمة أن تحفل بهم، وتخلد ذكرهم، وتحفظ تراثهم، وتزرع في نفوس الناشئة حبهم والارتباط بمآثرهم… فذلك أدعى للفخر، وأبقى على الدهر وأجدى على الناس…
والشيخ محمد الغزالي كنز من كنوز هذه الأمة، وعَلم من أعلامها في تاريخها المعاصر، لا تزال الناس تَعشق فكره، وتقرأ كتبه، وتتناقل حِكمه، وتحفظ روائعه… أما الذين خاصموه وناصبوه وأساءوا إليه، فقد عصفت بهم يدُ الفناء، ولم يبق لهم مُتسع للبقاء، وأصبحوا فكأن لم يكونوا…!
كنت أظن أن فكر الغزالي وكتبه وأقواله تفتر بعد وفاته كما يفتر فكر كثير من الكُتاب بعد وفاتهم… ولكني رأيت أن الناس أقبلت على الغزالي من جديد كأنه بينهم حي يرزق، ينشرون أقواله في المواقع، ويتداولون حِكمه في المنشورات، ويتمثلون فكره، ويترسمون خطاه…!
والحق أن إخلاص الرجل أكسب تراثه شرف التميز، فنال إعجاب القراء، واكتسب فضل التداول، ورُزق مجد البقاء…!
عَرف الشيخ الغزالي الجزائر مبكرا، وذلك من خلال صداقته لأديب العربية وأميرها الشيخ محمد البشير الإبراهيمي في القاهرة، حيث كان يجلس إليه ويستمع إلى أحاديثه ويتابع نشاطه، وقد وصفه مرة بقوله: «إن جلسات الإبراهيمي كانت مصدر متعة أدبية وعلمية، تجعل أدباء القاهرة وعلماءها يهرعون إليه ويتزاحمون عليه…».
كما اكتشفه عالما وفقيها بالدين وبصيرا بأصوله وأحكامه، فقال عنه: «من الخطأ تصور أن الشيخ الكبير كان خطيبا ثائرا وحسب…لقد كان فقيها ذكي الفكرة بعيد النظرة…».
وعندما اندلعت الثورة الجزائرية في نوفمبر عام 1954م كان الشيخ الغزالي مسؤولا في وزارة الأوقاف المصرية، ولم يتردد في فتح المساجد لرجال جبهة التحرير الوطنية لتكون منبرا للدعاية للثورة التي استبشر بها الغزالي خيرا، وقال عن المجاهدين الجزائريين: «كانت تضحياتهم سيلا موارا بالدماء والأشلاء حتى تأذن الله بالفرج، وانكسرت القيود، وعادت صيحات التكبير تنبعث من المساجد التي أغلقت…».
ومع انطلاق مؤتمرات الفكر الإسلامي في الجزائر بدأ الشيخ الغزالي يتردد عليها مثنى وثلاث ورباع منذ سنة 1972م، بصفته مديرا عاما للدعوة في جامعة الأزهر، وحضر خمسة ملتقيات شملت مرحلة الرئيس هواري بومدين ومرحلة الرئيس الشاذلي بن جديد رحمة الله على الجميع…
وكتب الشيخ الجليل عن أول لقائه بالرئيس الشاذلي فقال: «ولما جاء الشاذلي بن جديد شرع يعالج التركة المثقلة بما جُبل عليه من إيمان وتؤدة -ولا علاقة لي بما فعل في ميدان السياسة والاقتصاد- إن الذي أُثبته في هذه العجلة ما فعله في ميدان التعليم، كان الرجل يتابع ملتقيات الفكر الإسلامي، ويستمع إلى كلمات المتحدثين، وعرّفه الشيخ عبد الرحمن شيبان -وزير الشؤون الدينية يومئذ- بأسماء لفيف منّا يمكن التعويل عليهم، وشاء الله أن ألقى الرجل المؤمن، واستمع إلى رغبته في إنشاء جامعة إسلامية بالجزائر، تشبه الأزهر الشريف في رعاية علوم الدين واللغة».
وتوثقت علاقة الشيخ الغزالي برئيس الجزائر يومها بعلائق وثيقة، وأصبحت مثالا لمحبة حاكمٍ لعالمٍ نادرة…وقد حدّثني الأستاذ (عبد الوهاب حمودة) -رحمه الله- الأمين العام السابق لوزارة الشؤون الدينية ومهندس ملتقيات الفكر الإسلامي فقال لي: «إن الرئيس الشاذلي بن جديد طلب مني مرتين أو ثلاث استقدام الشيخ الغزالي إلى بيته في قصر الرئاسة ليجلس إليه منفردا مع عائلته على مائدة غداء أو عشاء، يستفتيه في مسائل خاصة، ويستمع لنصحه عن قرب…حتى إنه مرة طلب منه أن يفسر له حُلما رآه، فقال له الشيخ الغزالي مداعبا: أنا أفسر القرآن ولا أفسر الأحلام…!» وقال الأستاذ حمودة: «وأنا أيضا دعوته أكثر من مرة إلى بيتي كدعوة خاصة لي ولعائلتي…!».
أسلم رئيس الجزائر للشيخ الغزالي رفع القواعد من جامعة الأمير، وتأسيس أقسامها وفتح معاهدها ووضع البرامج لها، واستقدام الأساتذة الكبار إليها…
فهَرَع طلبةٌ مِن خيرة شباب الجزائر إلى هذه الجامعة يوم أن فَتحت أبوابَها كما يَهرع الظامئ العطشان إلى حوض الماء العذْب يَروي ظَمَأه، ويَفْثأ غُلّته.
لقد كان قُدوم الشيخ الجليل إلى الجزائر فاتحة خير على هذا الشعب الذي ما فَتِئَ يَضِجّ بالضَّراعة، ويَئِنّ مِن الألم، وهو يدفع عن نفسه ضربات الاستعمار الصليبي العتيق، وهجوم السَّيْل الأحمر الجارف، قصْدَ سَلْخِه مِن ذاتيته، واستئصاله مِن قراره المَكِين، ووَضْعِ الأغلال في يديه كي يُساق إلى حَتْفِه كما تُساق المَطِيّة الذَّلول.
وانطلق الشيخ الغزالي يكمل مهمة رائد النهضة الجزائرية الشيخ عبد الحميد بن باديس -رحمه الله- فيَذُود عن حِياض الإسلام بكلِّ ما أُوتي مِن قوّة الشيخوخة المبارَكة التي تُلِحُّ عليها الأسقام من كلِّ جهة، وسعى لتجفيف المستنقعات الفكرية الحَمِئَة التي خلَّفها الغزو الاستعماري أيام كان جاثمًا على صدر هذا البلد، يُحصي عليه الأنفاس، ويتربص به الدوائر. وما استبقته فرنسا (البغي) من نُطفها النتنة التي تسربت إلى مفاصل الحكم، ومراكز القرار…
والشيخ يَعلم أنّ هذه البقعة من العالم العربي والإسلامي مُستهدَفة قبل غيرها، وذلك لِما تَعِجّ به من مواهب وطاقات، وذخائر وملكات… ولكنها لم تجد مَن يرعاها ويُحركها ويَصنعها على عينه، فيَنفي عنها الدَّخَل، ويَنفُخ فيها مِن روحه، فإذا هي شُهُبٌ راصدة تلمع في إهاب الليل، وتَسطع في سُدْفَة الظلام الحالك.
انبرى الشيخ الجليل لهذه المهمة العظيمة -والعظائمُ كُفْؤُها العظماء- مُعتمِدًا على ربه، واثقًا في مدده، وعُدّته في ذلك: قلب تقي، وعقل ذكي، وإخلاص لله، ومضاءٌ إلى الحق غير هياب…
فتحرَّك بين الجامعات والمعاهد والمساجد والمراكز، وحاضَرَ في الملتقيات التي طالما شَرُفت منابرُها بصعوده عليها، وكأني بها تقول:
قَدْ زَهَى المِنْبَرُ عُجبًا ……إِذْ تَرَقَّاكُمْ خَطِيبًا
أترى ضمّ خطيبا ؟ ….أَمْ تُرَى ضُمِّخَ طِيبًا؟
ما أمتع الأيام التي كنا نَسعَد فيها بمحاضرات الشيخ الجليل في مدرجات الجامعة…
أنتظره حين يخرج من مكتبه وأتبعه بنظري في الرواق حتى يصل إلى المصعد، ومن المصعد إلى مدرج (مالك بن نبي)… وكأني أراه اللحظة.. أنيق الملبس، وسيم الوجه، بهي الطلعة، خفيف الحركة… وعندما يدخل إلى المدرج ويجلس على مكتبه، تسحرني نظرات عينيه، وحركات يديه… يضع يده على ذقنه حين يتعجب، ويرنو ببصره إلى السقف حين يمعن في التفكير.. فيُولِد بدائع الفكر، وروائع الكَلِم… وفي الغالب الأعم يختم مجلسه بنكتة ضاحكة، أو بدمعة قريبة، تنحدر من عينيه من غير تكلف…
يبدأ بمحاضرة يوم السبت في «علوم القرآن»، ويستبحر في الحديث عن محاور القرآن الخمسة ونظراته الثاقبة فيها، إلى المكي والمدني وردوده الداحضة لشُبُهات المُغْرِضِين، إلى الناسخ والمنسوخ ورأيه الثابت فيه، مردِّدًا قوله: «أدلتي راسخة كالجبال»… إلى غيرها من مواضيع علوم القرآن التي يُعتبر الشيخ فيها مَرجِعًا وحُجّة.
وقاعةُ الدرس تغصُّ بالطلبة والطالبات، فلا تَرى أعينهم إلّا مشدودة إلى الشيخ، كما يَشدُّ السِّراج المُنير عيون الحائرين في ظلام المحيط… منهم مَن يَحمل مُسجِّلته يُسجِّل فيها المحاضرة حتى يُعاود الانتهال مِن النَّبع الفيّاض، ومنهم مَن يلتقط كلمات الشيخ يَحفظها في دفتره كما تُحفظ الدُّرَر النفيسة، فتكون محاضرة السبت زادًا نَتَبلَّغ به عَناء أيام الدراسة حتى يوم الأربعاء…حيث يُلقي علينا الشيخ درس «التفسير الموضوعي»، الذي يُعتبَر الشيخ فيه مدرسةً بل رائدًا، ينتقل بين موضوعات القرآن الكريم… مِن المال في القرآن، إلى المرأة في القرآن… إلى غيرها من الموضوعات، مُستشهِدًا في كلِّ موضع بحَشْدٍ مِن الآيات كأنه معها على ميعاد، فيكون درس الأربعاء بحقٍّ: مغتسلا باردا وشرابا..!
يتدافع الطلاب عليه أثناء الخروج فلا يضجر… ويتسابقون إلى السلام عليه فلا ينزعج… وأذكر أني أسرعت يوما وحملت حذاءه لأضعه بين يديه وهو خارج من محاضرة ألقاها علينا في مسجد الطلبة بالجامعة، فقال لي: «يا بني شكرا لك… أرجع الحذاء إلى مكانه..!!!.
تعلق الجزائريون بالشيخ الغزالي من خلال برنامجه التلفزيوني (حديث الإثنين) الذي يُبث من داخل أسوار الجامعة، وهو مِن حسنات محطة الإذاعة والتلفزيون بقسنطينة، حيث كانت شوارع المدن تكاد تخلو من المارة أثناء عرضه، وقد رأيتُ أناسًا أمِّيين يصعُب عليهم أن يفقهوا أسلوب الشيخ وطرائق كلامه، لكنهم حريصون أشدّ الحرص على أن يتابعوا أحاديث الشيخ المرئية، فيتلذَّذون بآي كتاب الله تَنْساب مِن فم الشيخ كما يَنْساب الماء السلسبيل مِن المَعِين الذي لا يَنضب، فضلًا عن الطبقة المثقَّفة التي ترى في أحاديثه شحذًا لهممها، وتثقيفًا لمناهج تفكيرها، وصبَّها في قالب الإسلام الصحيح.
لقد أَحب المخلصون مِن الشعب الجزائري الشيخ الغزالي حبًّا غاليًا، وآيةُ ذلك ما ذكره كاتبه الخاص أستاذنا الجليل الدكتور (محمد جعيجع) من أنّ هناك خمسة آلاف رسالة وصلت إلى الشيخ مِن أنحاء القطر الجزائري تبادله عواطف الحب والتقدير والإجلال، بَلْهَ عن القصائد التي نَظَمَها الطلبة والطالبات في الإشادة بفضله، والتنويه بجهوده وأعماله.
ولا زلنا نذكر حين كان يخرج من الجامعة أحيانا ماشيا إلى بيته القريب كيف يحفل الناس به، ويتوددون إليه، ويفسحون له الطريق، ويرمقونه بالمهابة والتجلة والإعجاب…
وأذكر يوما أن موكب عرس صادف أن مرّ من أمام الجامعة والشيخ يقطع الطريق، فتوقف الموكب جميعا، دون أن يَسكت الفرح، وتَصمت الزغاريد…!.
عاش أهل قسنطينة مع الشيخ الغزالي وعاش معهم، وشاركهم أفراحهم وأتراحهم، فشهد معهم زلزال قسنطينة عام 1985م، واحتفالات كأس العالم في المكسيك عام 1986م، وأحداث 5 أكتوبر من عام 1988م.
وكان يقدم العون للضعفاء، ويواسي المكلومين، ويزور المرضى، ويساعد المحتاجين، ويألم عندما لا يجد ما يقدمه لهم… وقد قال سائقه الخاص: «إن الشيخ الغزالي عاش في الجزائر وغادرها وهو لا يعرف نقودها ولا يُحسن عدّها… فكل ما يأخذه من راتبه يذهب إلى أهله في مصر أو يوزع على المحتاجين في الجزائر…!».
إنّ الدولة مشكورةٌ عندما عَرَفت للشيخ فضله، وحَفِظت له جميله، فكرّمته بوسام «الأثير» (أعلى وسام استحقاق في الدولة)، ولستُ أرى إلّا أنّ الوسام قد علا قدرُه عندما عُلِّق على صدر الشيخ العامر بأنباء الوحي الأعلى وهدي الصراط المستقيم…..
……./…….. يتبع
• جامعة الشارقة .الامارات العربية المتحدة