إن الحياة لا تطاق إذا تجردت من الأخلاق…/ محمد العلمي السائحي
إن الإنسان الفرد لكي يبقى حيا ينعم بالحياة يحتاج إلى الهواء والماء والغذاء، لكن هذه العناصر الثلاث لا يمكن توفيرها لجميع الأفراد خاصة بالنسبة للعنصرين الأخيرين، وبما أنها ضرورية لبقاء الإنسان استدعى توفيرها لكل أفراد المجموعة إيجاد ضوابط ونظم تضمن وصولها إليها وعدم احتكار بعضهم لها واستئثارهم بها دون الآخرين، وقد تكفل بذلك كل من الدين والأخلاق والسياسة، فالدين بما يفرضه من ثواب وعقاب في اليوم الآخر، يحمل الإنسان على مراقبة النفس وكبحها عن التعدي والجور، والسياسة بما تشّرعه من قوانين، وتسنّه من عقوبات، تمنع الإنسان من الاندفاع وراء رغباته، وتحمله على التعقل والتحكم في استجاباته، تفاديا لما قد يترتب عليها من ضرر وأذى يلحقه في ماله أو نفسه، غير أن قدرة الدين على بعث الرقابة الذاتية تختلف من فرد إلى فرد، فهناك من الأفراد من يركز على العاجلة، ولا يبالي بالآخرة، ولذلك تراه إذا تولى يسعى ليعيث في الأرض فسادا، ويهلك الحرث والنسل، كما أن الدين قد ينتج تعصبا لدى أتباعه فيجعلهم يستبيحون الإضرار بمن ليسوا على ملتهم، ولا يعتقدون اعتقادهم، والسياسة هي الأخرى قدرتها على التأثير في الآخر محدودة، وهي رهن بمقدرتها على مراقبة الناس، وكثير من الأفراد يتسنى لهم التخلص من رقابتها تلك ومخالفة القوانين دون التعرض للجزاء، ولذلك لا يوجد نظام سياسي واحد في العالم يمكنه الادعاء بخلو مجتمعه من الفساد، ملكيا كان أو جمهوريا.
وإذا ما جئنا إلى الأخلاق فإننا نجد الأمر يختلف تماما، حيث تجعل الإنسان يرتب أفعاله الصادرة عنه على الواجب، لا تفاديا للعقاب أو رغبة في الثواب، ولذلك يكون تأثيرها في الفرد أقوى، وأثبت وأدوم وأبقى، وهذه الحقيقة هي التي جعلت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول فيما روي عنه، إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق، وهي التي جعلت أمير الشعراء أحمد شوقي يقول:
إنما الأمم الأخلاق ما بقيت
فإن هم ذهبت أخلاقهم ذهبوا
ذلك لأن الأخلاق أنجع وأحكم، في ضبط سلوك الأفراد والجماعات،
حيث لا يخفى أثر الأخلاق في تعزيز قيّم الإيثار، والرحمة، والعدل، والإخلاص، والصدق، والوفاء، والأمانة، والشكر، وكل تلك القيّم هي بمثابة الأسس والركائز التي تنبني عليها الحياة الاجتماعية المتوازنة، التي يجد الفرد في كنفها الأمن والطمأنينة والسلام، حيث يأمن فيها على نفسه وماله، وينتفع فيها بجهده ولا يخاف أن يسلب منه أحد ما أحرزه بكده وعمله، وهي الحياة التي إن داهمه فيها مرض أو عجز وجد في كنفها من يقف إلى جانبه، ويبذل له العون والمساعدة، حتى يتجاوز ضعفه، ويتحرر من قصوره، بفعل قيمتي الرحمة والإيثار اللتين تشيعان في المجتمع، وهي الحياة التي تزدهر فيها التجارة، والزراعة، والصناعة، والسياحة، لأن قيمة الإخلاص تضمن جودة العمل فنحصل على منتج زراعي أو صناعي عالي الجودة، وتسهم قيمة الوفاء والأمانة في رواج التجارة، كما ينبني على قيمة الشكر الإقبال على العمل وإتقانه لاطمئنان الفرد على أن عمله يلقى التقدير المطلوب والثواب المرغوب.
أمّا إذا أهدرت هذه القيّم، فإن الحياة الاجتماعية يعتريها الخلل، وتتسلل إليها الآفات، من مختلف المسالك والجهات، ويشيع فيها الفساد، وتنشب فيها الصراعات، وبين الأفراد والجماعات، وينعدم فيها الأمن والسلام، ويتجه الأفراد إلى الهجرة نحو المجتمعات التي يتوفر فيها الأمن، ويعم فيها السلام، لكون حياتهم في بلدانهم باتت لا تطاق بعد أن تجردت من الأخلاق، حيث أنها هي وحدها التي تمنع الخلاف وتكفل الوفاق…