أعلام

أعلامــنا الـمغمـــورون الشيخ فاتح عمراني وجهوده الدينية الإصلاحيــــــة *

إعداد: حسن خليفة/

واحد من همومي الجميـلة هو الكشف عن أعلامنا المغمورين وجهودهم الطيبة في حركة الإسلام والدعوة إليه. وقد سكنني هذا الهمّ إلى درجة صرتُ أهتم لكل شخصية، وأحث أقاربه على الاهتمام بالبحث والتنقيب والكتابة عنه، وهذا ما حصل مع عائلة عمراني الأفاضل، وهكذا تمّ إنجاز هذه السطور تعريفا وتنويها وتقديرا لكل من أعطى للإسلام من وقته وجهده وعلمه، على أن نجتهد أكثر في هذا المقام العالي الذي يدعو إليه الإسلام اعترافا بالفضل لأهل الفضل، وتقدير ما قدّموه والبناء عليه؛ لأننا أمة البناء يبـني اللاحق على ما تركه السابق.

من هو الشيــخ فاتح عمراني؟
هو الشيخ «فاتح عمراني «بن عبد الله بن أحمد بن مسعود، ولد العام 1931م بدائرة حامة بوزيان، على بعد نحو عشر كيلومترات من مدينة قسنطينة.
كان أبوه «عبد الله» المدعو «سي علّاوة «معلما للقرآن بزاوية «بن الاخوان» بمنطقة «عين الباي» قرب المدينة الجديدة «علي منجلي» ففيها درس ودرّس، ثم عيّن بزاوية الشيخ «صالح بن العابد» بالحامة، فقرّبه منه هذا الأخير، وعهد إليه إدارة شؤون الزاوية، وزوّجه ابنته «فاطمة « فأنجبت منه أربعة أبناء وبنات آخرهم «فاتح» الذي سمّاه جدّه كذلك، ودعا له بأن يفتح الله عليه.
•حفظ التلميذ «فاتح» القرآن الكريم بالزاوية نفسها، وأعاد النصف الأول منه، ولمّا يبلغ بعدُ العاشرة من عمره، على شيخه الفاضل «سي عبود ابن فاضل» صهره (زوج شقيقته)، بعد أن توقف والده عن التدريس بها، ليتفرغ إلى المهام الأخرى، ثم حفظ بعض المتون في اللغة والفقه، وقد وهبه الله ذكاء حادًّا، وذاكرة قوية، ساعداه على التقاط كلّ ما وقع عليه سمعه أو بصره، واستيعابه جيّدًا.
• ولمّا اشتد عوده ، وقد دعي والده يومها لتعليم القرآن بحي الكيلو متر الرابع بقسنطينة، كلّفه بمعاونته لتزايد عدد الدارسين، فكان الابن يدرّس النصف الأول من القرآن، ووالده النصف الآخر، كما كانا يقومان بإمامة سكان الحي في الصلوات الخمس، والتراويح والعيدين، بالمحل نفسه.
• وكان اقترابه من وسط المدينة، فرصة أتيحت له للتردد على معهد الشيخ «عبد الحميد ابن باديس» لينهل من مورده الصافي، والتعرف على علماء المدينة وفقهائها بمختلف المساجد والاحتكاك بهم، واستمر في مصاحبة العلماء أمثال الشيخ مرزوق ابن الشيخ الحسين مفتي الديار القسنطينية، الذي عرض عليه بعد سنين، تولي الإمامة بالمسجد الكبير خلفا له، واعتذر وقتها في لطف، والشيخ مولود مهري شقيق الأستاذ «عبد الحميد» ، الذي تمنى لو أنه عكف على تصنيف الكتب، والشيخ عباس الطولقي، والشيخ الزروق المقيم بمدينة سكيكدة، وغيرهم…
• ومن أصدقائه من الشيوخ : بوجمعة جعلاب صهر العلامة «بن زقوطة»، والأستاذ «عبد المجيد سيد عوض» (المصري)، رئيس بعثة الأساتذة الأزهريين إلى الشرق الجزائري، وكان أستاذا بثانوية التعليم الأصلي، وبلحملاوي شيخ الزاوية الحملاوية وقد تعرفا إلى بعضهما بداية الاستقلال بالقاهرة، وكان هذا الأخير طالبا ضابطا يتدرب هناك.
• وكان الشيخ قارئًا نهِمًا، ولوعا بالمطالعة، مغرمًا باقتناء الكتاب أنّى وجده، فكوّن بذلك كلّه نفسه تكوّنًا ذاتيا، فلا تراه بعد الدرس إلاّ طالبا للعلم من أهله، أو مختليا بنفسه، ببيته أو بالطبيعة، يقرأ ويكتب.
• ولمّا رأى أهل الحي كفاءته المعرفية والسلوكية، دعوه ليؤمهم في صلاة التراويح والعيدين، ولم يتجاوز خمس عشرة سنة، وكان ذلك قبيل الثورة التحريرية واستمر في أثنائها.
• وإلى جانب تعليمه القرآن وبعض المواد الشرعية واللغوية والإمامة في الصلاة، كان يلقي دروسا للعامة في الفقه والتفسير والحديث والتوحيد.
• وقد تخرج عليه الكثير من شباب الحي، عاملين بتوجيهاته، فكانوا يستشيرونه ويستعيرون كتبه للمشاركة في الامتحانات والمسابقات، فتخرج فيهم الأستاذ والقاضي، والمحامي، والضابط، والإداري…
• ولمّا وضعت الحرب أوزارها، شد الرِّحال إلى أرض الكِنانة، لينزل بقاهرة «المعز لدين الله»وينضم إلى حلقات طلبة «الجامع الأزهر» الشريف، يتلقى العلوم الشرعية واللغوية منتظمة على أصولها، ومنه حظي برحلة إلى الحجاز لأداء فريضة الحج سنة1964م، وقد زار حينها القدس الشريف، وصلّى بأولى القبلتين وثالث الحرمين الشريفين.
• عاد إلى الجزائر سنة 1965م، خلال العطلة الصيفية، على أن يرجع بعدها لمواصلة دراسته، ولكن والدته لم تتقبل فراقه مرة أخرى إطلاقا، فاعترضت سبيله، وكذا الظروف العائلية المادية الصعبة التي أسهمت أيضا دون أوبته، إذ لم يعد مدخول والده من التعليم كافيا، لإعالة زوجة ابنه وحفدته الأربعة، فلم يجد بدًّا سوى الإذعان على مضض للأمر الواقع، وأثر ذلك على حالته النفسية ما يزيد عن سنة، ثم رضي بقضاء الله، وقام يواصل جهاد الكلمة، فاقترح عليه الشيخ «نعيم النعيمي» مدير التعليم الأصلي والشؤون الدينية آنذاك، منصب أستاذ، وكانت البلاد في حاجة ماسة إلى الأساتذة، لكنه أبى إلا أن ينخرط في سلك الإمامة، ليحقق رغبته الجامحة منذ حداثة سنه، فرفض الشيخ النعيمي طلبه، مما جعله يشتغل إماما متطوعا ببعض مساجد قسنطينة، مدة حولين، لينتقل بعدها إلى قرية «عين مخلوف» من دائرة «وادي الزناتي» ولاية قالمة حاليا، بدعوة من أهلها، فكان إماما حرّا يقبض مرتبه من ميزانية المسجد عن طريق لجنته، ثم انضم إلى الوظيف بعد سنوات مكرهًا، أيام النظام الاشتراكي، وانعكاساته على الوضع الاقتصادي، ومنها تراجع المردود المادي لميزانية المسجد، التي كانت تعتمد أساسا على تبرعات المحسنين.


لبى الشيخ نداء أولئك الكرام أصحاب المقام، فأنزلوه منزلا مباركا ومقاما عليا، وأحاطوه بالمحبة والتبجيل، وكانوا يحتكمون إليه في كل كبيرة وصغيرة….فانطلق بكل حزم وعزم يشخص الداء ويصف الدواء يسهر الليالي إلى ما بعد الواحدة صباحا، يخطط ويبحث وينقّب، في سبيل النهوض بهذه القرية وإنقاذها من براثن الجهل وتحريرها من قيود التقاليد البالية والعادات السيئة، التي حاول المستدمر الفرنسي وأعوانه ترسيخها في أذهانهم ونفوسهم البريئة ردحا من الزمن، فاتخذ من دروسه المكثفة بلسما شافيا، لمختلف الأمراض المتفشية، فكان التجاوب وكان الصدى والإقبال الكبير، وغص المسجد بعدما كان خاويا مصوّحًا، وراح الناس يؤمونه من كل فج عميق، وانتشر خبر الإمام الأزهري في المناطق المجاورة، وأصبحت الجمعة عيدا أسبوعيا-فعلا- فيه حركة مميزة زينتها حشود الزائرين الوافدين إلى المسجد وحدانًا وزرافات، فلم يسعهم على رحبه، ممّا تطلب توسعته في وقت قياسي وجيز.
• تعلّق الجميع بالرجل، والتفوا حوله، فكان بمنزلة الأب والأخ والابن والصديق والرفيق، يقصده الصغير والكبير رجالا ونساء، يستفتونه في أمورهم الدينية والاجتماعية، ويستشيرونه في شؤونهم الخاصة والعامة محتكمين إليه في نزاعاتهم الفردية والجماعية، فصار الإمام والقاضي والمفتي والمصلح والمرشد الموجه…
• مكث الشيخ بمنطقة «عين مخلوف» أحد عشر عاما كانت حافلة بالجد والنشاط، فأتت أكلها بإذن ربّها.
• فقد تركت تلك الأيام أثرا طيبًا في النفوس متجسدة في السلوك، فعمّ الوعي الديني وارتقى المستوى الفكري والثقافي، وشاعت المعاملات الإسلامية الإنسانية بين الأفراد والجماعات لتلك المنطقة وما جاورها، وسار على نهجه ثلة من خيرة الشباب نشأوا في عبادة الله، فنهلوا من علمه، وحملوا المشعل لمواصلة الدرب، ومازال يذكره بخير كل من عرفه إلى اليوم، رغم مرور ما يربو عن نصف قرن من إقامته بينهم، بل حتى شباب اليوم الذين نسألهم عن هذا الاسم يجيبون دون مهلة تفكير، لأن آباءهم وأجدادهم – كما قالوا- يذكرون الشيخ في كل حين .
• لقد وضع الشيخ «فاتح عمراني» – أو «عبد الفاتح» كما كان يفضل أن يدعى- أرضية صلبة في بناء مشروعه الإصلاحي، فأرسى قواعد البناء الفكري والديني والثقافي وغادر المكان مطمئنا، ليعود إلى مسقط رأسه، أول مكان بدأ منه مشواره التعليمي، إماما وواعظا عبر مساجد قسنطينة، يلقي الدروس والخطب ويؤطر المناسبات الدينية ،ملبيا كل دعوة توجه إليه بغرض،إلقاء كلمة، أو فتوى، أو عقد قران، أو فصل بين متخاصمين أو إصلاح ذات البين، أو دعاء لمضطر…
• ثم دعي لتقديم دروس توجيهية إصلاحية تربوية لنزلاء مركز إعادة التربية بالمدينة، فتقبّلها بقبول حسن بعد أن توجس منها زملاؤه خيفة، وظل عليها عاكفا ثلاث مرات كلّ أسبوع، نحو عقد من الزمن، إلى أن أتاه الله اليقين.

إحياؤه المناسبات الدينية
• كان يشتد نشاط الشيخ ويزداد في شهرين فضيلين، يوليهما عناية خاصة واهتماما عظيما: شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن، وربيع الأول الذي ولد فيه المصطفى عليه الصلاة والسلام.
• فأما الأول فكان يحيي لياليه بالمداومة على تلاوة القرآن العظيم والذكر وقيام الليل، بالمحل الملتصق بالبيت،وهو الذي بدأ منه تدريس القرآن أول مرة، وبه يؤم الجماعة في صلاة التراويح، التي تسبق بتلاوة حزب من القرآن، وبموعظة أحيانا، تعقب بسهرات دينية تثقيفية ترفيهية، تقدم فيها أسئلة وألغاز، تنشط الحاضرين بعد تعب الصيام والقيام، يطاف عليهم خلالها بآنية من الزلابية، وأكواب من الشاي وقوارير من الماء والمشروبات.
• وأما شهر ربيع الأول فكان الشيخ يحيي فيه ذكرى مولد خير البرية، مع جماعته بدروس في السيرة النبوية، ومدائح، وأناشيد، وتسابيح وأدعية، وسرد قصص، ومواعظ وعبر، يستخلصها من مختلف أحداث التاريخ الإسلامي، بأسلوب شائق يجمع فيه بين المتعة والفائدة.
• وكان مجلسه لا يُمل، إذ لا يخلو من النكت والطرائف واختيار النوادر حسبما يقتضيه المقام وما تستدعيه المناسبة.

رحلاتــــه
كان الشيخ يهوى الأسفار والترحال، فجاب مختلف المناطق، داخل الوطن وخارجه.
فقد طاف مختلف أرجاء الوطن مشرقه ومغربه شماله وجنوبه، فزار أغلب المدن الجزائرية، مركزا على بعض الأماكن الأثرية، كمنطقة سيدي عقبة بولاية «بسكرة» التي كان يتردد عليها قصد زيارة ضريح الصحابي «عقبة بن نافع»، ورفيقه «أبي المهاجر دينار، والزاوية العثمانية بمدينة «طولقة»، وبعض الآثار الرومانية كـ «تيمقاد» بولاية باتنة، و«جميلة» بولاية سطيف، كما كان يزورالحواضر الكبرى كالعاصمة، ووهران لقضاء بعض مصالح إخوانه ،فكثيرا ما كان يتوسط للناس، ولو كان به خصاصة …
وأما خارج الوطن، ففضلا عن رحلته إلى القاهرة في طلب العلم، كما سلف ذكره، حظي الرجل – بفضل من الله- بزيارة إلى البقاع المقدسة لأداء مناسك الحج خمس مرات، أولها العام 1964م وهو طالب، وآخرها العام 1985 على متن سيارة عبر عدة دول أوروبية وآسيوية، منها فرنسا وإيطاليا ويوغسلافيا وبلغاريا وتركيا والأردن فالسعودية.
أمّا آخر زيارة له على الإطلاق إلى الحجاز، فكانت أواخر العام 1995م، قبيل وفاته ببضعة أشهر، قام فيها بأداء مناسك (عمرة الوداع) التي وصفها بالمتميزة، وأعرب عن سروره وحبوره بها.
كما زار تونس والمغرب وفرنسا مرات عدّة، وزياراته لهذه الأخيرة كانت في النصف الثاني من ثمانينيات القرن الماضي، بدعوة من زوجين فرنسيين، تعرفا إليه أول مرة ببيته (بقسنطينة) بوساطة سيدة مغتربة كانت تلميذة سابقة له، رافقاها إلى الجزائر، واستطاع أن يقنعهما فاعتنقا الإسلام.
ومن الطريف أن الزوجة الفرنسية كانت عاقرا،لم تنجب منذ ما يربو عن عشرين سنة من الزواج، فوهبهما الله بُعيدها بنتا، وأطلقوا عليها اسم «مريم»، زفت إليهما هدية، وكرامة ربانية.
آثـــاره : من آثار الشيخ فاتح
• تخرج الكثير من حفظة القرآن وبعض الأئمة عليه.
• كما ترك :
– مكتبة ثرية بالمصادر والمراجع الهامة ، وبعض المخطوطات.
– خطبا ودروسا وعظية مدوّنة بخط يده.
– قصائد دينية بعضها بالعربية الفصحى، وأخرى بالعامية المهذبة (أغلبها مدائح) من نظمه وتلحينه أحيانا، وأدائه رفقة جماعته، مدوّنة بخطه ومنها ما هو مسجل بصوته.
لقي الشيخ ربّه يوم الأحد 10 مارس 1996، ودفن يوم 11 مارس في اليوم الذي دفن فيه الشيخ محمد الغزالي طيّب الله ثراه.
أنزل الله شآبيب رحمته على الشيخ «فاتح عمراني»، وحشره في زمرة أهل القرآن، أهل الله وخاصته، في مقعد صدق عند مليك مقتدر.
* المعلومات الواردة في هذه السطور من نجلي الشيخ فاتح رحمه الله ، وهما الأستاذ عيسى عمراني مفتش تربوي وهو معروف بكتاباته وكتبه ، وشقيقه الأكبر محمد عمراني وهو أيضا مربّ (كان مدير متوسطة). تمت في لقاء مطول يوم 27 رجب 1443هـ الموافق 28 فيفري 2022م، في مكتب الأستاذ المفتش بعين سمارة (قسنطينة).

اظهر المزيد
زر الذهاب إلى الأعلى

مرحبا بكم في الموقع الرسمي لجريدة البصائر

 

تفتح جريدة “البصائر” صفحاتها للأساتذة الجامعيين والمؤرخين والمثقفين، لنشر إسهاماتهم في شتى روافد الثقافة والفكر والتاريخ والعلوم والأبحاث، للمساهمة في نشر الوعي والمبادرات القيّمة وسط القراء ومن خلالهم النخبة وروافد المجتمع الجزائري.

على الراغبين والمهتمين إرسال مساهماتهم، وصورة شخصية، وبطاقة فنية عن سيرهم الذاتية، وذلك على البريد الالكتروني التالي:

info.bassair@gmail.com